الفيض الفضائي يجرف كل شيء ، هشاشــة مثقــف .. أم هشاشــة ثقافــة؟
محمد الأسعد
لم تعد شاشات الفضائيات مرجعاً للجمهور العريض من المشاهدين، بل تجاوزته لتصبح مرجعية للمثقف أيضاً. أي أن قدرتها على تجويف الوعي اتسعت وشملت من يفترض أن لهم مرجعياتهم الخاصة التي تتحدّى ثقافة التسلية والتهريج والتلاعب بالعقول، المرجعيات التي تتجاوز اللحظة العابرة إلى كل اللحظات الزمنية، وتتجاوز النص الذي يكتبه معدو نشرات الأخبار والتعليقات من وراء الكواليس، إلى نصوص أخرى اجتماعية وسياسية واقتصادية متنوعة. المرجعيات التي تعرف يقيناً أن مفاهيم الغواصات ذات الأشرعة الشائعة في ثقافتنا مضللة وسخيفة.
من مظاهر هذا التجويف، ويسمى لدى البعض بالتجريف، أن يسعى الصوت المثقف إلى الشاشة الفضائية بشروطها، أي بتغييب السياق التاريخي لأي حدث، وتسطيح أي قضية، والخضوع لسطوة مقدم برنامج أو مذيع لديه خريطة واضحة؛ أن يستخلص من هذا المثقف ما تريد الفضائية استخلاصه وليس ما يريد المثقف توصيله.
ومن مظاهر هذا التجويف أيضاً، أن تتحلل القضايا إلى شظايا لا رابط بينها، فلا تمتلك أي قضية كلية جوهرية ما، كأن يرتبط الاقتصادي بالثقافي بالعسكري بالإعلامي كما هو مرتبط فعلاً ويصبح هذا الترابط أداة التحليل.
على أن أبرز مظاهر التجويف يتجلى في إخفاء آليات السيطرة على العقول، بترويج مقولة استقلالية «الإعلام» عن شبكات المصالح المالية للشركات المهيمنة حالياً مثل شركات الأسلحة العملاقة وشركات الطاقة وما يرتبط بها من أسواق مالية وتصنيعية. فتؤخذ «الأخبار» و«التقارير» و«التحليلات» و«الآراء» المتخفية تحت ثياب الوقائع، وكأنها رصد بريء وموضوعي كما يُقال، وتؤخذ مسارات الأسهم الإعلامية، سواء أكانت أدبية أم تاريخية أم اقتصادية أم عسكرية، وكأنها مسارات عفوية وليست مسارات تتجه سلفاً نحو أهداف محددة.
الجمهور العريض لا يستطيع تفكيك عمليات التجويف هذه، وإعادتها إلى عناصرها المكونة لها، بحكم أنه جمهور يتلقى الكلمة والصورة ممن يفترض أنهم أناس خبراء يعرفون شعاب الجغرافية التي يتجولون فيها، وبحكم إنه ليس مؤهلاً أصلاً ليكون كل فرد فيه سياسياً واقتصادياً ومؤرخاً وعسكرياً في وقت واحد على سبيل المثال. ولهذا يكون الجمهور العريض الأرض الخصبة لشتى أنواع العمليات التصنيعية وهو لا يشعر. تصنيع اتجاه الوعي ومحتواه نحو هذا الجانب لا ذاك، ويشمل ذلك طبيعة الأسئلة التي يلقيها الفرد على نفسه، وطبيعة الأجوبة التي يصل إليها. أي أن ما يتمّ تصنيعه له يحتوي السؤال وجوابه معاً.
[[[
ماذا إذن عن «الخبراء» وأصحاب الاختصاص والشأن في هذا الفضاء المفتوح؟
المطلعون على طرف أو أكثر من أطراف عمليات تصنيع محتويات الوعي الإنساني واتجاهاته، حذرون دائماً، ولا يسلّمون، هم الذين يعرفون كيف تصنع الزعامات الفكرية، بما يسلّم به الجمهور العريض فور أن يُقال له إن المتحدث «مستشار» أو «مفكر» أو «صاحب اختصاص». فالمطلعون، وهم قلة حتى الفجيعة في وطننا العربي، يعرفون كيف تمّ تجنيد «كبار» المثقفين العرب وغير العرب في العقود الماضية في خدمات شركات الأسلحة والطاقة، ولديهم وثائق من نوع الوثائق التي نشرتها «فرانسس سوندرز» البريطانية تحت عنوان «من يدفع للزمار»، ولديهم شهادات من نوع الشهادات التي أدلى بها «مالك بن نبي» و«إدوارد سعيد» عن طبائع الصراع الثقافي في وسائط الإعلام. ولأنهم يعرفون هذا، هم ممنوعون من الإدلاء بدلوهم في أي وسيط إعلامي، لأنهم يفكرون بغير المفكر فيه، ولأنهم يسلطون الضوء على زاوية مسرح تتطلب وسائل السيطرة والتصنيع إبقاءها معتمة وبعيدة عن الأنظار. إذ كيف يتسنى لآليات تجويف وتجريف الوعي العربي أن تفعل فعلها إن ظهرت إلى العلن؟
هذه معركة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، بين صناع صناعة خفية الأدوات وبين قلة من المطلعين الذين يعرفون كيف تصنع الآن صور الأفلام التي تبثها الفضائيات وبأي تقانات حديثة يجهلها الجمهور العريض، ويعرفون القوى الخفية، قوى الشركات التي تحكم أكبر إمبراطوريات عصرنا الراهن، ومدى سيطرتها على وسائط الإعلام وثوراته المتتابعة.
وأبرز خديعة يكشفها هؤلاء هي خديعة ما تسمى ثورة المعلومات، و«انفتاح» الفضاء و«تحرره» بفضل هذه الثورة من ضواغط المنع والكبت العتيقة. صحيح أن هناك «ثورة معلومات» وتقانات معلوماتية ماهرة، ولكن هناك ضواغط وأدوات كبت أقسى وأشد مما يخطر ببال المخدوعين. فكل هذه الأدوات الحديثة تظل تعمل في خدمة من يمتلكها، أي ممن هو جزء من آلة نظام اقتصادي – اجتماعي – عسكري، وليس جمعيات خيرية. ولهذه الخديعة سطوتها لهذا السبب بالذات، سبب قدرتها على الإمساك بالفضاء من أطرافه. كان الأمر أكثر سهولة في الماضي حين كانت الأنظار تتجه نحو الأدوات الفقيرة مثل الصحيفة والمجلة والمنشور والمحاضرة، إلا أن هذه الأدوات فقدت تأثيرها في خضم التحول نحو أخطر أداة إعلامية في الزمن الراهن، أعني القنوات الفضائية الباهظة التكاليف. فهل يستطيع مثقف أو جماعة ثقافية، خرج من شبكات إعلامية ذات سطوة، أن يعكس الأمر ويجعل الفضاء حراً؟ لكي يمتلك هذا وأمثاله شيئاً من هذا، سيجد نفسه واقعاً في أسر «الممولين» وفي أسر» أصحاب الأقمار الصناعية»، أي إن حلمه في التحرر سيظل أمنية في النفس، وسيدور دورة كاملة ويعود إلى النقطة التي غادرها؛ الفضاء، حتى الفضاء ليس حراً كما يقولون.
[[[
منذ سنوات قليلة أتيحت لي فرصة الإطلاع على كتاب فريد من نوعه، كتاب نشره خبير اقتصادي أميركي عمل بوظيفة «كبير مستشارين» لشركة غامضة لا يعرف عنها أحد شيئاً طيلة عقد من الزمن، عنوانه «اعترافات مخرّب اقتصادي مأجور»، أو بالتعبير الشعبي في الغرب Hit Man، ويعني إذا ترجم حرفياً القاتل المحترف الذي تستأجره مؤسسات الجريمة المنظمة.
كانت وظيفة هذا المأجور، واسمه «جون بيركنز»، كما يشرحها ببساطة، خداع البلدان الفقيرة وتحويل ثرواتها ومواردها لتصب في الولايات المتحدة الأميركية. كيف يحدث ذلك؟ إنه يحدث، والتعبير له، «بخلق أوضاع في أماكن تتوفر فيها موارد وفيرة بحيث تتدفق هذه الموارد إلى شركاتنا وحكومتنا.. وقد نجحنا في فعل هذا نجاحاً باهراً».
الوسائل فظة وغير إنسانية كما يقول، فهي تبدأ بالخطوة الأولى؛ إقناع «مالكي» هذه البلدان بالاقتراض حد التخمة لتمويل مشاريع بنى تحتية ومطارات وموانئ .. إلخ تستفيد منها الطبقات الثرية في هذه البلدان، ويكون الشرط الأساس أن يعود ما نسبته 90% من القروض ويتخذ طريقه إلى أميركا، والوسيلة هي إعطاء الشركات الأميركية امتياز تنفيذ عقود «البناء»! ويبقى البلد الفقير مديناً بالقروض وفوائدها المتراكمة، أو خادماً أو عبداً بتعبير «بيركنز».
إذا لم تنجح الخطوة الأولى، سيتقدم من يسميهم «أبناء آوى» أو Jackals بتعبير رجال المخابرات، ويحاولون استثارة انقلاب أو ثورة، فإن لم ينجحوا أتبعوا الأمر بالاغتيالات؛ اغتيال ملك أو رئيس بلد. الملجأ الأخير، أو الخطوة الثالثة هي الهجوم العسكري في حالة فشل «المخربين الاقتصاديين» و «أبناء آوى».
لم يتطرق هذا الكتاب إلى مجال الصراع الفكري، واستخدام أدوات الإعلام مباشرة، ولكن حين نفكر بما يرافق حملات هذا النوع من المستشارين وأبناء آوى من خطابات في شتى الوسائط، حين نفكر بدعاوى «مساعدة بلد من البلدان اقتصادياً» أو «تحريره من نظم القمع» أو «نشر الديموقراطية» (الغواصة العجيبة التي لا بد أن تكون لها أشرعة) التي تبثها بلغتنا العربية مركبات فضائية تحمل كل أنواع الزواحف الإعلامية، وتجمع لها الأنصار و«المفكرين» و«المحللين»، لا بد أن نشعر بالمبلغ الذي بلغه تجريف وتجويف الوعي في عالم ثقافتنا الهش، ومثقفينا الأكثر هشاشة الذين لا يعرفون من الرصد والترصد سوى رصد وترصد أرصدتهم المصرفية في المقام الأول.