القاتل الأعمى
عزيز تبسي
سليل آدم أمسى هدفاً متحركاً
لأنه بعيدُ لن يسأله عن اسمه وسبب مروره ويتأكد من ذلك بتحري بطاقته الشخصية،ويصغي لرأيه بعد سؤال يشبه الفخ عن موقفه مما يجري في البلاد منذ ما ينوف عن عام ونصف.وليس في الإمكان أخذ عينة من دمه لتحليلها وإنتظار نتيجتها،لتبيان آثار إنخفاض أو إرتفاع مقادير حبه وتقديره”للقيادة الحكيمة”وحدود ولائه لها،أو حقده عليها ورغبته النهائية في إسقاطها.
و”الهدف المتحرك”لا يعرف أن هناك في الأعلى المحجب،من هو متربص به،وغير مكترث بمبررات خروجه إلى الشارع كتأمين إحتياجات عائلته من لوازم الحياة الثقيلة والمجازفة اليومية في إستمرارها داخل مدينة تتكامل عناصر حصارها،أو عبوره السريع إلى الصيدلية لتوفير مواد إسعافية باتت من مستلزمات الأسرة،أو تعبئة وحدات للهاتف النقال،أو عيادة صديق أو قريب في سرير مرضه.
لن يبحث كذلك القاتل الأعمى عن مسوغ لإطلاق رصاصة تحذيرية في الهواء أو على الإسفلت أمامه تكفي لإفهامه أن الطريق غير مجاز للعبور الآدمي،أو أن يصيبه في أطراف من جسمه قابلة إفتراضياً للشفاء،وفعلياً ستؤخر موته بضعة أيام لا أكثر، لعدم توفر الإسعافات والمشافي المجهزة لإستقبال الجرحى.يختار المواقع الأكثر فتكاً وحسماً،إذاً :القلب أو الرأس.
تهب ريح الشائعات بين الناس متلازمة مع نسائم النصائح لضمان السلامة:
-لا تنظر إلى الأعلى،ذاك يستفزه.
-لا تضحك أو تبتسم سيراك بمنظاره المُقرّب للمسافات ويتضايق من فعلتك.
-لا تشير بيديك إلى أي مكان.
-تجنب الشوارع العريضة،حاول أن تؤمن حاجياتك من أمكنة قريبة من بيتك،حتى لو كانت أسعارها أعلى.
-لاتخرج لوحدك إلى الشارع،إبحث عن مرافق ليكون معك وتكون معه.
ويبقى الأسلم،أي الأكثر أماناً أن تتخذ التوقيف العرفي بحق نفسك،وتلتزم بيتك لاتبارحه-إبتعد عن الشر وغني له-ولكن ماذا عن المقتولين وهم في بيوتهم ،على الشرفة على سبيل المثال.وكيف يمكن إستكمال هذه المسيرة المتعثرة للحياة و السبيل لتأمين حوائج البيت والأولاد.؟!
ولأعوان الفاشية ورضّعها مبرراتهم في مقتلة”القاتل الأعمى”اليومية،مساكين هؤلاء الأولاد في إشارة إلى أعمار القتلة الصغيرة وهي عمر الخدمة الإلزامية،يصيبهم الضجر اللعين في المكان الذي حشروا فيه،ولطالما دفعهم ذاك لتبديد وقتهم الخانق بالتنافس في قنص القطط الشاردة.لكنا لم نرى قططاً مقتولة في الشوارع،نجيبه على الفور.ربما لأنهم منعوا من ذلك،هذا عمل غير لائق،وغير حضاري،ماذنب القطط!!
-“عفاريم” يافاشي،حيث لابد من إسترخاص الإستحسان للهراء الفاشي،بلغة تحمل إرثاً إستبدادياً عميقاً.
-بين مجهولين-
أن يكون القاتل مجهولاً أو متجاهلاً من الشرطة والقضاء،أمر بات من ثوابت الأنظمة التي وفرت ملاذاً آمناً لكل المجرمين والمستعمرات المافياوية والمستوطنات الطفيلية وآخر تحديثات الفساد وإبتكارات الفاسدين،والتستر وإتلاف مايدل عليهم جميعاً.تحمل هذه الأنظمة على الدوام جديداً،المقتول المجهول الهوية،يجري ذلك بعد تجريده من بطاقته الشخصية وكل ما يدل عليه :دفتر العائلة،رخصة قيادة السيارة،بطاقة الحصول على المواد التموينية،البطاقة الجامعية،بطاقة الإشتراك في نادي رياضي أو مكتبة عامة…،أمسى عادي في الزمن الفاشي الأسود،كتابة الإسم على بلاستر ولصقه على المعصم أو بشكل خفي على العضد وإرفاقه بأرقام هواتف نقالة أو ثابتة،لتسهيل الطرقات وتقصيرها على الأهل أو من بقي منهم للتعرف على الإبن أو الأخ أو الزوج.
إنتبه لاتكتب إسمك على قلادة ذهبية،لأنها ستسرق،إحفره على صفيحة من الحديد ذاك أفضل،وهناك الوشم كذلك،فكر بالوشم ،لتعتمد أسرتكم على وشم يميزها على إشارة تغدو كلمة سر بين أفرادها.
-لكنهم يحرقون جثث القتلى،هل يصمد الوشم بعد الحرق؟
-لا أحد يصمد بعد الحرق،حتى النار تأكل نفسها وتموت.
يتبدد طقس دفن الموتى المحروس جيداً من ثقافات عميقة تواضعت على ضرورة”إكرام الموتى”في رغبة يقينية لا بحفظهم داخل التراب فحسب،بل تهيئتهم لدخول عالم جديد ،رحلة جديدة،تتحاشى الكثير من عثرات الرحلة السابقة.
طقس في عموم عناصره لا يختلف عن العرس والولادة إلا بألوان الألبسة وأنماط العبارات المتداولة،كالصمت مقابل الأهازيج والبكاء مقابل الضحك،وتتعزز مفاضلته على كل ما هو غيره، كونه حالة غير قابلة للتكرار.
عمل المعزون على حراسة ماضي الموتى وإغفال سيرهم الذاتية حيث لا تجوز على الميت سوى الرحمة.ولكن أين الميت لنترحم عليه بعد أن نأكل من خبزه ونلقي عليه،أو يلقي علينا النظرة الأخيرة.
ما يحصل لا تنشغل به السرديات الطويلة ل”عذاب القبر” هذه عرفناها وغير متيقنين منها ولا نريد تخيلها،نتركها لنزلاء المصحات العقلية وهم يتقمصون أدوار رجال الدين ومن في مقامهم،ما يهمنا العذاب المؤلم لما يحصل فوق القبر وبعيداً عنه،وقبل الوصول إلى أعماق حفرته…عذاب الأهل والأحبة وهم يهرولون تحت النار بين المشافي والطبابة الشرعية وبرادات الموتى والبساتين النائية والطرقات العامة والمدن المقطوعة الأوصال.
صباحات وليالي الإنتظار الطويل
الإنتظار ثقافة عميقة،متكاملة العناصر،أساسها العجز أمام سلطتين متجبرتين الطبيعة والدولة الإستبدادية العمياء،سلطتين يتوجب التسليم بقوتهما ومزاجهما وقسوتهما،هما وحدهما لاشريك لهما من يقرر الإمساك أو التسريح،الصفح أو الإدانة،الشدة أو الفرج،التجدد أو الإنقراض.
يقضم جرذ الإنتظار الثقة بالذات والمجموع،ويعمل على ترحيل أهراءات الألم الآدمي إلى قوة عليا هي من سيتكفل بحلها عندما تجد ذلك مناسباً،يمكن إستعجالها بالصلاة والصوم وتقديم الأضحيات والصبر إلى مواقيت غير مضبوطة،وحين يتأخر الحل أو لا يأتي هذا يعني هناك معصية كبيرة وقعت بها الجماعة ولابد من التكفير عنها.
،إنتظار العدالة والحرية والمطر والشمس البازغة والمياه النافرة من كوب النهر وخوابيه.ولإستكمال شروط الإنتظار ينبغي التدرب على قدرة التحمل……لردم الفجوة بين الأمل الإنساني العميق ولحظة تحققه.
حلب تشرين الأول 2012