صفحات المستقبل

القامشلي.. أية ثقافة أنت؟


 ألجي حسين

سواء كان ذلك في طريقة الكلام، حركات الأصابع، المشي، الإقدام.. جميعها مفردات ثقافية، فلا سبيل إلى الغوص في الماضي الآن، ولا مناص من التأرجح في أرجوحة المستقبل، نحن الآن هنا في مدينة أكثر حضارة وأكثر عمقاً ونبلاً..

تنوع مفيد ضارّ، معارف شبه معدومة، أفكار في عزّ القهر والحرمان، فلسفات أكثر تجربة من أيّ وقت آخر، آراء تنتج من فسيفساء هي في صلب الفسيفساء “القامشلاوية”، لذا، ماذا تخبّئ لنا أوعية الثقافة هناك؟

ثقافة المطر..

 جميع الأحاديث كانت تندرج تحت إطار الثقافة في الجلسات وداخل البيوت وخارجها عن المطر والموسم الذي لن يثمر إلا بالمطر. النشرة الجوية هي الأكثر متابعة ورواجاً وكذباً، الأراضي الزراعية هي الثقافة السائدة، ومن هنا يمكن الفول: “المطر كثقافة أمسى فوق كافة الاعتبارات الأخرى”.

المطر يسيطر على الصحف والتلفاز والمركز الثقافي.

لم يغلق الشتاء أبوابه بعد، هل سيكون التذمّر مستمرّاً؟

الصحف.. ثمّة مكتبات مهمّة تبيعها بعد الساعة الثانية ظهراً، وبالطبع مالتْ نظرة البائعين إلى الزبائن، أي أصبح المشتري بمثابة عملة أو حجر كريم نادر، وهو مشغول بهمّ المعيشة، ففي الوقت الذي تشغل بالك بالقراءة وبيعها، فلن تهتمّ بالزراعة ولا بالأرض.

الموظف هو وحده سيد الموقف، وهو الذي لا يتأثّر بالمطر ولاسيما إذا كان عمله يتطلّب أكل الرشاوي، لكنه في النهاية يتأثّر.

البرد يسيطر على الموقف أيضاً، أو العواصف الجافة والأمطار المفقودة هي الحكم، وفي هذا ندخل إلى النقطة الثانية المتعلقة بالتلفاز، في الغرفة التي يشغلها هذا الجهاز الدافئ، وكم حاول الكثيرون إلغاءه من الذاكرة والوعي لمدة قصيرة، لكنهم عاشوا عزلة اجتماعية.

المركز الثقافي خالٍ، من كلّ شيء، حتى من الثقافة.

في الشارع الرئيس للقامشلي، أنت أمام ثقافات تمتدّ لأجيال وأجيال، طبيعة العمران الهادئة، الشوارع المعبدة الترابية “لندرة المطر”، واستقرار التفكير في الهمّ اليومي، هي صور الثقافة وأيقوناتها الشعبية إذا اعتبرنا أن الحضارة تساوي الثقافة والمدنية.

يقول أحدهم: “المطر ثقافة، الذي يحفر على النحاس مثقف، كونه يؤرشف ويؤرخ ويوثق وهي من مهمات الثقافة”، وأقول: “الموظف الحكومي في القامشلي ليس مثقفاً، عناصر المركز الثقافي ليسوا مثقفين، عناصر الشرطة على باب كراج البولمان غير مثقفين، عناصر الأمن…

هذه هي الثقافة يا ناس، الثقافة ليست سينما ومسرحا وموسيقى وو…

مَن يلتهم مَن إذاً؟

يأكل المجرمون الأبرياء، يلتهم الأغنياء الفقراء، عديمو الثقافة يقضمون المثقفين، سورية تُلتهم؟

صور رائجة كما أسلفت تؤرخ لحاضر يتيم ومستقبل خائب، فالظواهر الثقافية هي نفسها المكررة والمعقدة، ولا سبيل إلى تطويرها.

مازال هناك من يقول: “آشيتي” و”غربي” و”كوجر” و”أومري” و”كردي” و”عربي” و”أرمني” و”آشوري”…

هو التنوع الثقافي الذي نفتخر به والذي قصدته في البداية، وليس العزلة الثقافية، ولن نعتاش من موروث ساحق سحقنا.

حتى سائقو سيارات الأجرة جزء من الثقافة الملتهمة..

سرافيس تعمل على الخط بين “القامشلي” و”المالكية” أنتجت ثقافات فرعية تمتد بين “رميلان” و”المالكية” و”معبدة” و”القحطانية” مثلاً، هكذا أراد السائقون العبور.

سأعرج على نقطة ربما لا تلتصق بما قبلها أو بعدها، لكنها مفيدة، فأثناء دخولك إلى “رميلان” من جهة القامشلي، ثمة شاخصة كُتب عليها “الرميلان” وشاخصة تليها تحمل اسم “رميلان”، ما حكاية “ال” التعريف هنا.

تنام المدينة في السابعة ظاهراً، وتنام في الواحدة باطناً، وتسيطر على الغرفة “القامشلاوية” الثقافة البيتوتية، أما أن ترى أحدهم بيده صحيفة ويتصفحها فذلك أمر بالغ الندرة، وصارت رعاية الأولاد وتربيتهم الهمّ الأوحد، ويُقدَّم للضيف ما لذّ من الوجبات، ولاسيما إذا كان قادماً من دمشق بعد أن هجر “القامشلي” بسبب الجفاف واستقر في “دمشق” للاسترزاق، رغم أن الآن الأمور معكوسة، فتُقدم ثقافة الفروج والبرغل أو الرز مع الفاصولياء، وهي ثقافة دارجة في مجال الطعام.

ثمة تطور مذهل تشهده المدينة في إطار تزيين المنازل، فالجميع يتسابق لإظهار منزله بصيغة أجمل، ولعل أبرز مثال على ذلك منطقة “المالكية”، وهذه هو الفرق في الثقافة المكانية بينها وبين مناطق المخالفات في “دمشق” مثلاً.

العائلات – كما أسلفت – تهاجر طلباً للعمل في العاصمة، وكما يقول المثل “مطرح ما بترزق الزق”، وبالتالي من بقي بقي، ومن التصق التصق.

لذا، يعيش الكثير تحت رحمة موروثات قد تكون دينية ناتجة عن أخطاء في ممارسة العقيدة الإسلامية قادها رموز بعقليات خبيثة ومسطحة في فترات قديمة ولا زالت تسيطر إلى الآن على بعض القرى فيها، وفي حال سألت أحد ما كان يتّبع جلسات دور الكتاتيب لدى الشيخ الفلاني فستفاجأ من هول الدمار الفكري الخاطئ المستغل للعقول أيما استغلال، فكان أحد الشيوخ يقول لطالبته واسمها هدى: “Huda tu keti bin me da”؛ هدى يجمعني السرير بك. بينما يقوم آخر بشدّ شعر سالف أو رقبة أحد طلابه حتى الإزالة لأنه لم يحفظ سورة الفاتحة، ثم أين التنوع؟ ألم يقل الله: “ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم”، الدين يسر.

مَن هؤلاء؟ ماذا يريدون؟

أية ثقافة يكتسبها هذا الوطن الصغير؟

المكان قادر على ذكر وحفظ وأرشفة الكثير من الوقائع.

الدين كثقافة، الصحيفة كثقافة، التلفاز كثقافة، الناس، السيارات، الآن المظاهرات المنادية بالحرية.. مفردات الثقافة جميعها تُحتضر..

المطر يُحتضر، الأراضي تُحتضر، البذر، ثقافة المر رائجة، الاستسقاء ثقافي يُحتضر..

سورية تُحتضر.. لكنها ستستيقظ.

موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى