القبور كأسلحة دمار شامل!/ أحمد عمر
أمس، وقد نضج لحم التاريخ وعظمه على الجمر السوري، وهُوَ أَحَرُّ مِنْ جَمْرِ الغَضَا، طالبتْ إسرائيل حليفتها روسيا، التي تحتل سوريا أو قسطاً من سيادتها، أن تعيد إلى إسرائيل رفات الجاسوس اليهودي إيلي كوهين، الذي أعدم في العام 1965. ولفتت هآرتس إلى أنه “في العام 1961جرى إرسال كوهين إلى الأرجنتين باسم أرجنتيني من أصل سوري، يدعى كامل أمين ثابت، حيث أوفد إلى سوريا ممثلاً لشركة بلجيكية”.
وقالت تقارير صحافية إنّ السوريين اعتذروا، فالرفات مجهول القبر، وعلق صديق لي قائلا: لطيف أنهم لم يطالبوا برفات الرئيس في القرداحة أيضاً. اعتذروا من غير ذكر للسيادة، أحياناً تتعادل السيادة مع البيادة حذو النعل بالنعل، وعلى الوسادة. يمكن أن يبرر فعل إعادة الرفات لاحقاً بأنه شيم الكرام، مثله طرد الشعب السوري خارج بيته.
إنها حروب القبور.
أمس، نبش جند “اللواء المتقاعد”، لجثث من خصومهم، وعُرف من بين الجثث، التي تمّ التنكيل بها جثة القائد العسكري السابق بـ “مجلس شورى ثوار بنغازي” “جلال المخزوم”، كان قد دفن قبل أسبوع، وضعت جثته على سيارة، جال بها مسلحو قوات حفتر في بنغازي من أجل “شو” التشفي. سيركات الطغاة لا تحلو إلا بالفظاعة. الليبيون، لا يعرف عنهم ظرف، وظرف القذافي مثل ظرف السيسي غريزة أصلية، “منه وفيه” كما تقول العبارة المصرية.
قام “الظرفاء” المغاوير بإجراء مقابلة تلفزيونية مصورة مع جثة المرحوم جلال المخزوم، وعلى أثرها باركت دولة عربية هي التي مولت كل المتقاعدين العساكر بعد المقابلة تحسنَ حقوق الإنسان الليبي، وتابعنا حوارات تلفزيونية مع محللين سياسيين موالين لحفيتر، وهو تصغير وتحقير أطلقه عليه القذافي، عقب هزيمته في تشاد، برروا الأمر، التبرير يقول: داعش جماعة تقوم بالفواحش والمنكر، نحن أفحش وأنكر ونكير! داعش هي السبب!
التقارير الدولية تقدمت خطوة على محللي حفيتر، فأنكرت الجريمة، العفو الدولية تقول: ربما يكون تجاوزاً لحقوق الإنسان، وتقول تقارير من الأمم المتحدة إنها غير متأكدة، لعلها صور مختلقة! إنها تبحث عن شاهدين وختم المختار !
لنعترف ونقرّ ونشهد، ونحن نبصم بالأصابع التسعة تاركين العاشرة للندم، ليس على الثورة، بل على الثور والثيران التي حكمتنا، أن قائد الحركة التصحيحية قام بمعجزة مثل إحياء الموتى ذلك أن قتل نفس واحدة قتل للناس جميعاً، الناس كلهم، أولين وآخرين، قتل نفس واحدة يشبه في القرآن الكريم قنبلة نووية هيدروجينية، معجزة الأسد أنه لم يطلب منا تقديس قبر الحسين، أو قبر علي بن أبي طالب، أو قبر زينب، أو قبر سكينة، أو قبر رقية رضوان الله عليهم، معجزته هي أنه جعل السوريين يحجّون إلى قبره، شيباً وشباناً، بالمفرق والجملة.
لم ينج شعب من عبادة الموتى أو تقديسهم، حتى الرفاق الملاحدة الشيوعيون، كانوا يقفون في طوابير للسلام على لينين، وكان تقديس الموتى قد عاد إلى بلاد الحرمين ومهبط الوحي، فظهرت الحركة الوهابية وسادت، وبات الملوك يدفنون دفن الزاهدين حتى هذه اللحظة، من غير شاهدة سوى صخرة الدفن حسب السنّة، أما عيشهم فهو على سنة الفراعين.
أمس ظهر شيخ إيراني في داريا من الذين يركبون القبور كوسائل نقل سريعة ودبابات غزو، من الذين صدورهم في القبور، وقبروهم في الصدور، وقال: إن رئيس قلعة العلمانية هو الحسين، من غير أن ينتظر موته أو حتى استشهاده ودفنه: الرأس في مكان والجسد في مكان.
جعل صاحب الحركة التصحيحية المباركة الشعب السوري يحجُّ إلى قبره، والحج إلى القبر عند أكثر الشعوب يحتاج إلى شروط، فحتى يرتفع الميت من رتبة ميت العوام إلى قديس، عليه أن يكون شهيداً وضحية وصاحب معجزات، وأكثر “المقامات” يحتاج إلى زمن فالاختمار مهم لرتبة القداسة والولاية. ألحَّ التلفزيون السوري إبان موت كيم إيل جونغ على صور حزن الشعب الكوري الشمالي على موت زعيمه وربه الأعلى، كان يقول: هذه أسوتكم التي نريدها للقائد الرمز عند موته.
الأسد الأب كان معجبا بجنازة عبد الناصر، وكان يتمنى مثلها، من تواضعه إيمانه بالموت، ثم نصب له ضريح عظيم، لم يعرف الشرق والغرب مثله، تقاد إليه جماهير الشعب للبكاء، في إسرائيل ثمت حائط مبكى، وهو أسطورة ينفيها الباحث العراقي فاضل الربيعي. عبادة الآباء وأرواح الآباء الأولين منتشرة لدى الشعوب، التي تسمى بدائيةً، وينكرها الباحث شتراوس.
بدأت الحروب الصليبية بشعار تخليص قبر المسيح، وليس له قبر عند المسلمين، أمس أُنفقت أربعة ملايين دولاراً وأزيد على تحسين قبره، ثم كانت المفارقة أن تبدأ الحروب الفارسية المقنعة بالتشيع لتخليص قبر زينب، وكان قبرها محفوظاً مكرماً مدى هذه القرون، ثم كثرت القبور في خطابات الغزاة الفرس: سكينة في داريا، وعدي بن حجر، وتسببت حروب تحرير القبور في تحويل سورية إلى قبر جماعي شامل، يدفن فيها الشهداء بالجرافات، على عجل، بصلاة سريعة خشية على المصلين والمشيعين، بل إن معظم قبور الشهداء مجهولة المكان. دفن الألاف في الحدائق والطرقات، وكان الفلسطينيون قد سبقونا في دفن ضحاياهم في الشوارع بفتوى من ياسر عرفات، إبان حصاره في المقاطعة، وتكشف الوقائع أن الأحياء يحزنون ويغارون على حرمة الموتى لأنهم خرس، ثم على الحيوانات لأنها عجماء، ويأتي الأحياء في الطبقة الثالثة.
لم يتدخل أحد حتى الآن لتخليص السوريين أحياء أو في القبور الجماعية. وكان لخبر نبش قبور في ليبيا دوي في بعض الإعلام العربي، فيما تجاهله إعلام الانقلابات والثورة المضادة، لأنه يسيء إلى اللواء المتقاعد، الذي قدمت له ليبيا جائزة على التقاعد. وهي رتبة جديدة بين الرتب العربية، التي علت مكذبة قول الشاعر: لا يحْمِلُ الحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بِهِ الرُّتَبُ، ولا ينالُ العلى من طبعهُ الغضبُ.
دفن جنكيز خان في مكان مجهول، وكذلك بن لادن، والقذافي، علي بن أبي طالب حسب المصادر السنية مدفون في مكان مجهول والحسين له عدة أضرحة، في العراق وفي مصر، والشام.
أكثر ضحايا الشعب السوري الذي عاش شهيداً ويموت شهيداً، مجهول القبور والمثوى، وهو شعب يستحق أن يعيش كريما أو يموت كريما، فالتقديس والكرامات من حصة القتلة هذه الأيام!
يدي اليمنى، ومعها اليسرى، في زنّار خالتكم، ادفنوه إن مكنكم الله منه، في صحراء كالهاري، يكفينا جيل شهيد واحد، لقد بلغنا من سفرنا هذا نصباً.
المدن