القراءة والمقروئية/ أمجد ناصر
لطالما سمعت شكاوى، وأسئلة، عن “ضعف مقروئية” الشعر العربي الحديث. نحن نتحدث هنا عن قراءة، أي عن شعر مكتوب، وليس عن أشكال تلقٍّ أخرى، فكيف لمادة مكتوبة أن تكون مقروءة في مجتمعات يعاني معظمها من نسبة أمية عالية. لنأخذ مصر، مثلا، وهي رائدة التحديث الثقافي والمجتمعي العربي. إنها تعاني، كما نعرف، من نسبة أمية قد تتجاوز نصف عدد السكان البالغ تقريبا مئة مليون نسمة، وتنسحب هذه الأمية القرائية، بنسب متفاوتة، على بلدان عربية مركزية أخرى. لكن الشعر العربي ليس كله مكتوبا. هناك مستويات عدة من الشعرية بعضها نخبوي وبعضها شعبي، والأصل في الشعر الشعبي أنه شفاهي وليس مكتوبا وقد يكون غير منسوب لشاعر بعينه. فهو والحال جزء من التراث الشعبي والوجدان الجمعي الذي لدينا منه الكثير، لكن النسج على المنوال “الشعبي” أو “التراثي” ليس تراثاً ولا هو استمرار للطبيعة الشعبية لهذا القول الشعري، فهذا يدخل في باب التقليد والاستنساخ/ إن لم يكن الانمساخ.
الشكوى من “ضعف مقروئية” الشعر العربي الحديث لا تعكس ما هو عليه هذا الشعر من واقع فني وتعبيري. هذا موضوع آخر سيسيوثقافي لا علاقة له بما تعرفه القصيدة العربية من تجريب وجماليات وتفكير في الذات والعالم. هذان مستويان مختلفان وقد لا يلتقيان عند نقطة واحدة. المقروئية، بمعنى سعة الانتشار، عمل تتضافر فيه عناصر “تنموية” عديدة، أما القراءة فتعني العلاقة “الندّية”، أو العارفة، مع النص. الأولى تستلزم مستوى اجتماعياً واقتصادياً تنتفي فيه المعوقات التي تحول دون انتشار القراءة (بصرف النظر عن مضمونها)، مثل الأمية، فيما تستلزم الثانية مستوى معرفيا وثقافيا يطاول كل بنى المجتمع. يميز الطالب الأوروبي الثانوي بين وظيفة الكلام ومجازيته. لا يأخذ الوظيفة على محمل المجاز، فيعرف أن الشعر، تحديداً، يجمع “تناقضات” لا يجمعها الكلام العادي فيمكنه أن يفهم، وربما يستمتع، ببيت شعر لمحمود درويش يقول: واذهب بعيدا في دمي واذهب بعيدا في الطحين. لن يقول ما هذا التخريف؟ كيف انتقل الكلام، فجأة، من الدم، السامي، إلى الطحين، المبذول والعادي؟ هذا أمر له علاقة بالمستوى العام للتعليم ونوعيته. أبدو متناقضا هنا؟ كيف لا علاقة للمقروئية بالقراءة؟ الحقيقة هناك علاقة، بل علاقة وثقى تجد تفسيرها في التعليم ومستواه ونوعيته، وهنا فقط، تلتقيان، فيما تذهب القراءة في التأويل والفهم مذاهب شتى.
لكن “ضعف مقروئية” الشعر العربي الحديث لا تعني أن “الحل” (أين هي المشكلة؟) في هذا الترويج الذي تمارسه قوى إعلامية حكومية وأهلية خليجية لما يسمى “الشعر النبطي”، الذي صارت تسمى به “شعريات” شعبية عربية أخرى “بدوية” (أو بدوية مصطنعة) في الأردن.. وحتى في مصر (الجزء السيناوي)، وسورية والعراق.
كانت مهرجانات الشعر في الأردن، مثلا، مقتصرة على الشعر العربي المكتوب بالفصحى فصار هناك، بفضل الترويج الإعلامي والإغراءات المالية للمسابقات والمهرجانات الخليجية، حراك “نبطي” يطّرد في الأردن (وهذا ينطبق على العراق وسورية أيضاً). هناك منوال يتم النسج عليه. هناك “قصيدة” مرجعية، خليجية، تصبح مقياساً. ولم يكن هذا الأمر ممكناً، حتى في البلدان الخليجية نفسها التي كان التحديث الأدبي فيها ينهل من عربية فصحى غير تراثية، ويصارع في وجه هذا “الموروث” الذي لم يعد في زمن ناطحات السحاب والانشباك التام بثورة الاتصالات وأدواتها، سوى تقليد للماضي. فالماضي الذي تصفه هذه “القصائد” لم يعد موجوداً، ولا مفردات الحياة التي تتغنى بها، موجودة. شيء واحد بقي من ذلك الماضي هو “القيم البدوية” التي تشجع النظم الخليجية على التمسك بها في تناقض مريع مع واقع شديد التحديث المادي.
العربي الجديد