صفحات الثقافة

الكتابة التسجيلية


    عاصم بدر الدين

تطرح استطالة الأزمة السورية سؤالاً إشكالياً على الكتابة. ليس دور الكتابة وجدواها، كما هيمن في جدالات المشتغلين في المعرفة الى زمن طويل، هو ما يشغل البال. ذلك أن هذا الدور (الوظيفة) الذي لا يمكن تحديده ولا وصفه، أقرب إلى لزوم ما لا يلزم. بمعنى آخر: مفهوم “الالتزام” الشائع ليس تعبيراً عن دور بقدر ما هو هالة، وتقديساً لفعل لا ينجز بغير تشككه. والحال أن فهم الكتابة باعتبارها شكلاً آخر، يعني أنها من بنية اليومي التي تفرض ثورات الناس، تزحزحه وعودته إلى المركز. هكذا يصير السؤال: كيف يمكن الكتابة أن تكون أكثر تفاعلاً مع الراهن؟

ليست الكتابة التضامنية شيئاً آخر. ليس ما يُعترض عليه عاطفيتها. على العكس. فرط العاطفة مما لا يضر. لكن في الراهن يمكن تمثيله بأساليب أخرى أكثر حساسية وتفكراً. إذ إن الواقع ما عاد في تمدده الزمني وتشتته، قادراً على استيعاب ما لا يجسده. لكن هذه الكتابة مفهومة بمعنى ما. اذ لا يمكن المرء غير التعبير حتى لا يكون في صفوف القتلة. في الجانب نفسه كتابة، ربما أكثر أثراً، لا تنسى. مقالات قصيرة لكنها تذهب بعيداً في تفاعلها مع الحدث – وغالباً مجزرة أو قتلاً- إذ تطبع صورها في الذاكرة. تبقى أيضاً الكتابة التحليلية السياسية، وهذه لا فكاك منها.

ليس مطلوباً، بالتأكيد، الامتناع عن الكتابة. ولا يفضّ، أيضاً، هذا النص اتساقه حين يدعو إلى شكل من الكتابة دون غيره بعدما افترض، في أوله، لا وظيفية الكتابة. رؤية ذلك، تسلم بأن فاعل الكتابة ليس أعلى شأناً من أي فاعل آخر في اليومي. والفعل لا يكون بغير وظيفة آلية- أو بمعنى آخر قصدية- إلا أن نزع الوظيفة عن الكتابة إنما يقصد به تخليصها من رسوليتها المدّعاة. والحال أن مؤمّن الأكل، في الحروب، يقتصد في اشتغاله متأثراً بشحّ لوازم صنعته. شأنه في ذلك شأن استهلاك الناس للمياه في الأزمات. ليس التسجيل بعيداً في ضرورته وحيويته عن مماثلة المادتين السابقتي الذكر، ولا بعيداً من تأثرهما. عليه، يستعيد التسجيل، بما هو مادة الكتابة الأولى، شأنه إذ يجاور “الواقع” لحظة اشتعاله. ليست الاشكال الأخرى، تأكيداً مرة جديدة، عيباً أو محظورة. بل أن هذا التفكير يطرح أولويات للكتابة فحسب. والحال أن جدولة الأولويات هذه تكتسب أهمية قصوى في اجتماعات العتمة، المغيّبة تفاصيلها عن عموم أهلها وأهل خارجها. والحال أننا في سوريا إزاء اشكاليتين. أولاهما أن الاجتماع حتى وقت قريب يصوَّر، جبراً، على أنه تكتل واحد لا تناقضات فيه، خاضعاً لحقل سلطوي واحد. اذا كانت ثورة السوريين قد هبطت عمارة الرسمي، هذه، فإن “النظام” استبدلها بصورة معممة أخرى، وهي ثانيتهما، لا تفهم الا متكتلة بما هي قتل ودم. فهم الثانية، ومآلاتها، لا ينجز بغير فهم الأولى. استغلقت سوريا على الكتابة حين مُنع عنها التسجيل. إذ بدا اجتماع ناسها مسطحاً فارغاً لا يعوزه التكفير طالما أنه واحد لا تفصيلات فيه. سبق أن أشير إلى تنميط مارسه اللبنانيون، زمناً، حين جعلوا من كل سوري حلّ في ديارهم، رجل مخابرات. هذه “الوحدة في الصورة” ليست بعيدة من ايهامنا بتعظيم السوريين طوعياً للرئيس الراحل حافظ الأسد، أو أنهم شعب ينعدم عنده الاعتراض. لذا تبدو الكتابة، في مواجهة دمار صورة سوريا في رؤوسنا، كأنها كائن مستجدّ في حضوره ينشغل في تجميع المعطيات الأولية. كأننا لا نزال، تقريباً، في مرحلة الوصف. لم تُتجاوز بعد هذه المرحلة إلى تفسير وفهم ضروريين. ليس هذا التأخير، وعلى الأخص، في طرح دراسات عن الاجتماع السوري بلا دلالة، وخصوصاً في زمن البعث.

على أن السوريين أنفسهم لم يتأخروا في مجاراة “واقعهم الثوري”. والحال أن الـ”فايسبوك” شكّل أداة نشر حرة لا يستهان بها. ذلك أنه أتاح مجال إشهار لسرد بقي في ظل تعطيل الاجتماع محتكَراً لدى راوٍ واحد. تحوّل السوريون، تقريباً، إلى حكواتيين ينقلون يومياتهم الخاصة ويوميات غيرهم. والحال أن السرد يتنقل في الزمن من دون محددات وقواعد. أي أن التسجيل لا ينحصر في الحاضر، بما فيه من اشتباك حاد ودموي مع رجال النظام، بل أيضاً يستعيد الماضي المغيّب. كما أنه لا يلتزم موضوعاً معيّناً. يُخلع، إذذاك، الحجاب عن سوريا. فائدة ذلك أنه مكّن الجميع، كما في تعميم ديموقراطي، من سلطة الحكي. والحال أنها في سياق تعممها هذا، ما عادت سلطة بتمامها. لكن ذلك لا يمنع أن لبعض الافراد، وفي الغالب من الكتّاب التقليديين أو الفنانين أو ذوي المراكز في “تكتلات” المعارضة، مكانة أعلى. لا يزال أثر التكريس حاضراً، لكن وجوده يغيب طالما أن اليومي يُصنَع، ويُسرَد، على أيدي شخوص لا يملكون غير “يوميتهم” (أو عاديتهم) صفة لهم.

تسجّل هذه الكتابات أحداثاً وتجارب وذكريات، بلغة سردية في الغالب موجزة. لكنها، في ذلك، تتيح تجميع تصور عن سوريا في زمنين أو ربما أكثر. يمكن الافادة منها في محاولة فهم البلاد وما يجري فيها. يكفي مثلاً طرح مثل سكان بعض ضواحي دمشق الفقيرة. يسرد هذا الشخص، في صفحته، تجربة عمّه في احدى مؤسسات التخطيط الحكومية. يستنتج، نقلاً عنه، أن ابقاء هذه المناطق فقيرة كان أمراً مقصوداً. كانت هذه المناطق رافداً أساسياً لما يُعرَف بالشبّيحة. تجربة شخصية استحالت مدخلاً لتقصي آليات إنتاج النظام لشبّيحته. أيضاً يمكن أن تفيد هذه الكتابات في التعريف بمناطق مجهولة، أو بفساد أشخاص، أو سلوكيات عامة في الاجتماع، أو خصوصاً بفئة دون غيرها كحال الأساتذة الجامعيين. يحيل هذا كلّه، على اليومي، ويخلّصه من كتمانه السابق. اذ يبدو إشهار سير الناس، في مرويات السياسة أو الثقافة أو الحياة الأسرية والشارعية، جزءاً مكملاً لتحدي النظام.

تبدو لنا هذه الكتابات، نحن البرانيين، مثل كنز معرفي لا يمكن غض النظر عنه. إذ يتحول الإخبار في سوريا مشاعاً. وهو اختبار، فضلاً عن ذلك، للاخبار والكتابة نفسيهما. والحال أن التفكير لازمٌ في صدقية ما يقال. لكنه، في هذا الحد أو ذاك، يمكن أن يُغطَّى بسؤال عن سبب ذهاب الناس، ولو تلفيقاً، في حديثهم عن هذه الامور، في هذا الاتجاه. وهذا ما لا حاجة لتبيان أسبابه. أما الحديث عن لغة الكتابة فليست شيئاً يشغل البال. اذ أن اخطاءها وعاميتها السورية، في الغالب، جميلة في حد ذاتها ومحببة. هذه ثورة في آخر الأمر.

أصدرت الروائية السورية سمر يزبك كتابها “تقاطع نيران” (دار الآداب)، تروي فيه يومياتها في ظل الثورة السورية، حين كانت لا تزال في بلادها. بالإضافة إلى سير أخرى لبعض المشاركين فيها، متناً وهامشاً. كما أصدر ياسين الحاج صالح كتابه “بالخلاص يا شباب” (دار الساقي)، يروي فيه، مازجاً السرد بالتنظير، تجربته المديدة في المعتقل السياسي. وأيضاً يعمد محمد أبي سمرا إلى تسجيل شهادات لسوريين عن حيواتهم الراهنة والسابقة.

التوثيق الثاني يستكمل الأول، إذ يبدو أكثر احترافية – لكنه ليس أكثر قيمة بالتأكيد- ليكونا تاريخاً موازياً. أقل علمية ربما، لكنه أكثر تسجيلية في جعله الحكي الذاتي أداةً منهجية. ليست أهمية ذلك، تحويل هذه الكتابة التسجيلية مادة إدانة فحسب لنظام البعث. وهذه معركة رئيسية بالتأكيد. إنما، وفي المقام الأول، إعادة معنى الاجتماع، عبرها، إلى الاجتماع، بما هو أحداثٌ وناسها. إذ تبدو هذه الكتابة كما لو أنها اعادة تسييل للدم في شرايين الزمن. عليه، يكون اكتسابها مركزاً أعلى في صنوف الكتابة ومساحاتها، في الراهن، أمراً لا مفرّ منه. لا بل ملحّاً أيضاً.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى