الكتابة النسائية: عري كتابة أم عري أنوثة؟/ د. فاطمة كدو
مما لا شك فيه أن للكتابة النسائية مميزات وخصوصيات في إطارها الإنساني العام، الذي لا يعترف بالحدود الفاصلة بين أمة وأخرى، والذي يرفع دوما شعار الحس الإنساني المشترك أولا وأخيرا.
الكتابة النسائية والدراسات المقارنة
هذا الحس الإنساني، أو إن شئنا الإرث الإنساني المشترك، سيجعلنا عند مفترق عدة قنوات نذكر منها أساسا: 1) الكيفية التي نعرف بها لفظ الحس الإنساني المشترك، و2) الحقول الموضوعاتية لهذا الحس/ الإرث، و3) الدراسات المقارنة وآلياتها في تحديد الحقول الموضوعاتية للكتابة النسائية.
إن الحديث عن الكتابة النسائية هو بالضرورة حديث عن إشكالية المفهوم، وعن المادة السردية/ الحكائية في تعددها وتوحدها: تعدد الأصوات وتوحد الرؤية. الحديث عن الكتابة النسائية هو حديث عن الذاكرة الجماعية النسائية، في افريقيا، في أوروبا، في آسيا وفي أمريكا الجنوبية، إذن كيف يمكن في هذا الإطار تفعيل الأداة المقارنة لمحاورة هذه النصوص وتجميع فسيفسائها لتشكيل صورة محددة في الإطار، مضبوطة المقاييس (الجمالية خصوصا)، متعددة الألوان في تناسق تام، خصوصا وأن الأمر يتعلق بتجميع شتات ذاكرة؟
ومما لا شك فيه أن اختلاف اللغة في الدراسات المقارنة يجب أن يظل من الآليات الهامة جدا من أجل التعرف على الآخر والتحاور مع إنتاجاته الأدبية والفكرية، وحافزا هاما للبحث عن المشترك بين الأنا والآخر. لكن الاستمرار في تبني نفس الأطروحة، أطروحة التأثير والتأثر، تجعل الدرس المقارن يستنفذ إمكانياته: منهاجه وطرقه في التحليل على حساب ولاء أعمى لتعاريف قديمة، وبالتالي عدم مواكبة التطور الهائل الذي يعيشه عالمنا حاليا، خصوصا مع التحول الهائل الذي أحدثته التكنولوجيا على آليات فعل التلقي، وشبكات التلقي.
إن الكتابة النسائية تتميز بكونها تحث الباحث على البحث عن هذه العلاقة التاريخية من تأثير وتأثر، ليس في إطار علاقة كاتبة بكاتبة أخرى، وكيف تأثرت هذه بتلك، أو علاقة الكتابة النسائية في افريقيا مثلا، بالكتابة النسائية في أوروبا أو الصين؛ بل في علاقة الرجل بالمرأة تاريخيا واجتماعيا. لأن المرأة تكتب تحت مظلة من الإكراهات النفسية والتاريخية والاجتماعية، ومن خلال لغة سلبت منها منذ سنين خلت، وبالتالي فهي عندما تقتحم من جديد مجال الحكي، فإنها تنتقل به من إطاره الشفهي إلى إطاره الكتابي، وفي هذا الإطار فإن المرأة تجد نفسها مجبرة على العمل في خطين متوازنين: 1) إخضاع المادة الحكائية لفعل الكتابة، بعد أن ظلت شفهية ردحا من الزمن؛ و2) الاشتغال بشكل مكثف على اللغة ورموزها.
كتابة نسائية وكتابة رجالية: من ضد من؟
تساءل عدد كبير من المهتمين بالحقل الثقافي، بدافع المعرفة أو الدهشة أو الاستنكار، عن الدوافع التي أدت إلى هذا التجزيء. لماذا هذا التخصيص: كتابة نسائية؟ وهل الكتابة بنون النسوة هي كتابة بآليات أخرى غير آليات الكتابة المتعارف عليها في مجال الإبداع الأدبي (الرواية والقصة خصوصا)؟ أم أن الكتابة النسائية في مفهومها الخاص والمتميز هي ذاكرة جسد/ الصوت الآخر/ الرأي الآخر/ الأنوثة وقد استعادت أبجديات الحروف لتنكتب على صفحات تذكر بعنف الحكي، الذي مارسته شهرزاد على شهريار/ العين الأخرى الراصدة للتاريخ، والباحثة فيه عن بقايا من شظايا الذات تعيد لملمتها ونفض الغبار عنها، وترتيبها من جديد؟
غير أننا عند ملاحقة النصوص الإبداعية واستقرائها نفاجأ باعترافات صريحة من الكاتبة الفرنسية بولين رياج تقر بأنها كتبت انتقاما من الرجل، وعلى النقيض من ذلك نجد آني إرنو تقول بأن الكتابة هي عودة إلى ماض مشترك بينها وبين رجل أعطاها معنى للحياة ودفقا من الأحاسيس، فهي من خلال الكتابة تكرر نفس اللحظات وتعيشها من جديد. إنه تكرار أبدي للزمن/ السجن، والكتابة بالنسبة لها نفي في الزمن الماضي، ورفض الحاضر وللمستقبل، ومبررها: «في ذلك الزمن الحياة كانت أجمل». وتهزأ أحلام مستغانمي من تعريف فرويد للمرأة بأنها إنسان ناقص، وتعمد من خلال اللغة إلى جعل البطل خالد يصاب إصابة في يده أثناء الحرب أدت إلى بترها وبالتالي خروجه من جبهة النضال وبذلك جعلته إنسانا ناقصا «ذاكرة جسد».
لقد كانت اللغة في الأصل أنثى، في رأي عبد الله الغذامي، وضاعت هذه الأنوثة بعد احتلال الرجل لعالم اللغة وتحول الأصل الأنثوي ليكون ذكوريا. ويرى الغذامي بالإضافة إلى هذا، أن عبد الحميد بن يحيى الكاتب أعلن من خلال قولته: (خير الكلام ما كان لفظه فحلا ومعناه بكرا) عن قسمة ثقافية يأخذ فيها الرجل أخطر ما في اللغة وهو «اللفظ» بما أنه التجسد العلمي للغة، والأساس الذي ينبني عليه الوجود الكتابي والوجود الخطابي لها. ويرى الغذامي أن هذه القسمة الأولى أفضت إلى قسمة ثانية أخذ فيها الرجل «الكتابة» واحتكرها لنفسه وترك للمرأة «الحكي»، وهو ما أدى إلى إحكام السيطرة على الفكر اللغوي والثقافي، وعلى التاريخ من خلال كتابة هذا التاريخ بيد من يرى نفسه صانعا للتاريخ.
الكتابة النسائية والعري
لماذا تلجأ بعض الكاتبات إلى اسم مستعار؟ هل الاسم الحقيقي للكاتبة يشكل عريا لها ولعائلتها وللمجتمع الذي نشأت وتربت فيه؟ إن الأسماء المستعارة كثيرة في وطننا العربي، وعلى الضفة الأخرى للمتوسط أيضا، مئات من الأسماء المستعارة. بعضها يظل ساريا إلى الأبد، وبعضها ينكشف بمجرد تغير ظروف ومواضعات معينة.
كيف يمكن وصف هذا العنصر المشترك بين كاتبات في الوطن العربي وأخريات في أوروبا مثلا، هل نصفه أثنوغرافيا أم دينيا أم ثقافيا؟ وهل يمكن الحديث عن مستويات مختلفة للعري؟ وهل يكفي التستر بالنسبة للبعض خلف اسم مستعار لنتجنب هذا العري؟ والرجل/ الكاتب، هل يمكن أن نقول بأنه هو الآخر يخشى العري؟ قد لا يستتر خلف اسم مستعار، هذا صحيح، ولكنه قد يتخذ من شخوص نصوصه السردية ستارا سميكا يتدثر به مراوغا بذلك المتلقي: الزوجة/ الأهل/ زملاء العمل… الخ.
إن الكتابة عند بولين رياج (اسم مستعار) هي انتقام، والبناء السردي عندها يرتكز أولا وأخيرا على «الجسد» في إطار علاقة الرجل بالمرأة: خيانة الجسد/ تعذيب الجسد/ احتقار الجسد؛ الجسد عندها موطن السعادة والشقاء. ويتم تقديم هذه الموضوعة من خلال تداخل الديني بالأدبي، مع التركيز على عنصر مهم وهو الملابس، التي تستمد تفاصيلها من القرن الثامن عشر.
كيف يمكن أن نجد السلم في تعذيب الجسد تعذيبا إباحيا، وكيف تقبل المرأة بتدمير ذاتها من طرف رجل باسم الحب، بل والقبول بكافة الوسائل المستعملة في هذا التدمير من قبل الرجل والخضوع التام لها، هنا تتقاطع ثيمات بولين رياج مع الموضوعات التي تأسس عليها النص السردي لمواطنتها آني إرنو ولكن بشكل ملتو: «ابتداء من شهر أيلول/سبتمبر من السنة الماضية لم أفعل أي شيء غير انتظار رجل ليهاتفني ويأتي عندي»/ «كنت أعيش لحظات اللذة كألم سأعيشه مستقبلا» / «عندما يكون، أكون على غير ما يرام، كانت تنتابني رغبة جامحة لزيارة عرافة، كان يخيل إلي بأنه الشيء الحيوي الوحيد الذي يمكن أن أفعله (…) ولكني عدلت عن الفكرة ولم أعلم هاتفيا أية عرافة مخافة أن تزعم بأنه لن يعود مرة أخرى…»/ «في ليلة ما، راودتني رغبة في أن أجري اختبارا لاكتشاف مرض نقص المناعة، وقلت لنفسي: على الأقل قد يترك لي هذا المرض».
إنه الرجل الحاضر جسدا في النص السردي لبولين رياج، الحاضر عبر الزمن في النص السردي لآني إرنو؛ ولكن بين هذا وذاك يظل الجسد الأنثوي ملتهبا بسياط الآخر، مع ملاحظة مهمة هي أن المرأة في النصين معا، جعلت الرجل ينكتب على الورق بآليات معينة. فالنص يتحدث عن عذابات ومعاناة المرأة، ولا يتم الحديث عن الرجل إلا بشكل مقزم وعرضي باعتباره الآلة المدمرة لهذا الجسد الأنثوي. لقد توصلت رياج برسالة من رجل قرأ روايتها يقول فيها بالحرف: «إن الطريقة التي تتخيلين بها الرجال من المستبعد التفكير بها». هذا «الاستبعاد»، هل هو تفسير لعدم تقبل الطريقة التي انكتب بها الرجل أم هو إحساس بالعري من قبل الآخر/ الرجل؟
وتقول إرنو: «انظر إلى الصفحات المكتوبة بدهشة وبنوع من الخجل»، إنه الخجل/ العري: عري الذات وعري الآخر. ولنتمعن هذا المقطع السردي من لطيفة باقا: «وردية كانت صديقتي اللدودة وكانت تجلس في المقعد المجاور. في فترة الاستراحة كان السي العلمي يجلسنا فوق حجره، ويسألنا: متى ستكبران أيتها المعزتان؟ كان يغلق باب الفصل ويحتفظ بنا. الآخرون كانوا يركضون في ساحة المدرسة. ولم أخبر أبي. وردية أيضا بكت ولم تخبر أحدا. سي العلمي كان ضخما وله كرش. وكان مذاق لعابه مقيتا. مقيتا».
عدم الأخبار هذا، كان خوفا من العري في لا وعي الأطفال، لكنه سيتخذ مع مرور الزمن مفهوما آخر لابد من التسلح بجرأة كافية لجعله ينكتب على صفحات من ورق ومن جسد. أو بتعبير أدق، لا بد من جرأة للثورة على وضع ظل مكبوتا لسنين طويلة.
القدس العربي