صفحات الثقافة

الكتابة والفيسبوك: في الحاجة إلى خطاب يتجاوز التعاريف الضيقة/ عثمان بوطسان

 

 

تتعدد طقوس الكتابة وأسبابها، وتختلف التصورات ووسائل الإلهام حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة. فقد عرف شارل بودلير الكتابة على أنها وليدة اللحظات العابرة التي لا ترتبط بزمن أو مكان معين. فالكتابة كالسراب تستمد ماهيتها من لحظات التيه والفراغ والبحث المستمر عن تعاريف للذات، وما يسكنها من قلق وجودي ومعاناة يومية وتطلعات إلى مستقبل مجهول.

والكتابة في غالب الأحيان وسيلة وسلاح ضد الأزمة في معانيها المتعددة، أن تكون كاتبا، ليس بالأحرى أن تكتب وتؤلف كتبا، لأن الكتابة في كل مكان وليست كذلك حسب الكاتب الأفغاني تقي أخلاقي. لكن أصبحت الكتابة اليوم رهينة العولمة وتعدد الوسائل التي قرّبت العالم وجعلت منه قرية صغيرة. فقد أصبحت الكتابة على جدار الفيسبوك من آليات الإبداع والنشر الحديثة التي تمكن الكاتب من التفاعل مع القارئ مباشرة، سواء كان التفاعل ذا طابع أكاديمي يدل على مرجعية وتصور أدبي معينين، أو يعكس نوعا من الاهتمام الأدبي ومعرفة تلقي النصوص الأدبية. فالكتابة تكيفت بسرعة مع وسائل الإعلام الحديثة، ولم تعد مرتبطة فقط بتأليف الكتب.

وعلى الرغم من أن تفاعل قراء الفيسبوك لا يعكس النضج الأدبي الكافي، إلا أنه يساهم في ترويج ثقافة جديدة تتماشى مع الجيل الحديث، وتعكس بعضا من صوره المتناقضة. فكما قال جان بول سارتر أن على الكاتب أن يساير عصره ويكتب عنه ويعكس اهتمامات عصره، ففي هذا السياق تندرج الكتابة الحديثة عاكسة بذلك نمطا من الإنتاج الأدبي، جعل من وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة فضاء للنشر وتبادل الأفكار، وطرح قضايا جوهرية تتعلق بالأدب والفن وتساهم في تطوره، حتى إن كانت الطريقة المعتمدة لا تمتثل إلى إطار أدبي أو مرجعيات فكرية معينة. لكن، دائما ما نطرح السؤال: لماذا نكتب وما الفائدة من ذلك؟ في هذا السياق يعرف الكاتب الأفغاني عتيق رحيمي الكتابة على أنها حياة جديدة، قائلا إنه يكتب لكي يعرف لماذا يكتب. ووفقا لهذه الصياغة فإن دوافع الكتابة تبقى خفية ولا يمكن تحديدها في تصور معين، ولا يمكن تفسيرها إلا عبر مقاربات تتغير بتغير الوعي والأزمات وأسباب الوجود والاستمرار. ربما ما يقع في أفغانستان كان سببا كافيا للكــــتابة، لكن الكاتــب وكأنه في متاهة لا يعرف لماذا يكتب، وإنما يكتب ليعرف أنه يكتب وبهذه الطريقة يولد الشعار الرحيمي: أنا أكتب، إذا أنا موجود.

والحقيقة أن الكتابة دائما ما ترتبط بوضعيات حرجة على المستوى السيكولوجي والوجودي ودخول الذات في حالة من الاغتراب والضياع، وهنا يرى مارسيل بروست أن أجمل النصوص هي التي تكتب في لغات غريبة او أجنبية، بمعنى أن الغرابة والاغتراب والإحساس بنوع من التيه دائما ما يكون دافعا إلى الكتابة. فمرض بروست كان سببا كافيا دفعه للكتابة، فقد عمل على تأليف أكبر عمل أدبي «البحث عن الزمن المفقود» في محاولة لنسيان المرض الذي أصابه. كما قال غي دو موباسان، إن أجمل وأعمق النصوص هي الأكثر حزنا أو المقتبسة من الحزن، يعني الحالة النفسية المطربة تلعب دورا مهما في إنتاج نصوص أكثر عمقا من الناحية اللغوية والجمالية.

إن أسباب الكتابة لا تنحصر ولا تحصى، فيكفي أن يحس الكاتب بضرورة الكتابة لسبب معين، سواء تعلق الأمر بالذاتية أو الغيرية، أو الكتابة في إطار الالتزام والدفاع عن القضايا الاجتماعية ليجعله ذلك يبدأ مغامرة التخيل في سبيل الوصول إلى الأهداف التي رسمها. وعلى سبيل المثال، فقد خصص الكاتب والصحافي الألماني روجر فيليمسن كتابا لأطفال أفغانستان، أطفال العالم المنسي الذين لا يعرف عنهم العالم سوى القليل، وقد حمل الكتاب عنوان « Es war einmal oder nicht» ويعكس حياة الأطفال الأفغان في ظل الحروب، خاصة أنهم يتميزون بحبهم للمدرسة واطلاعهم التام على الصراع الدائم في بلدهم. كتاب يفتح المجال للأطفال لسرد قصصهم، قصص من الخيال الأفغاني. لذا، فلكل كاتب أسبابه ودوافعه الخاصة، ولا ترتبط هذه الأسباب بمنطق ثابت، بل إن أسباب الكتابة تولد عندما يحس الكاتب بالرغبة وتدفق الأفكار والصور في مخيلته. لكن، يجب الإشارة إلى أن وظيفة الكاتب ما تزال تشكل مشكلا، فرواد الأدب والنقاد والمثقفون لا يتفقون على تعاريف محددة، بل هناك صراع أكاديمي وأدبي حول وظيفة الكاتب. وبالتالي لا يمكن حصر وظيفته في زاوية معينة، فهناك من يرى أن الكاتب هو رسول الشعب والناطق باسم معاناته وآلامه ومشاكله، بمعنى أن الكتابة مرآة للمجتمع ونتاج لتحولاته، وهناك من يرى في الكاتب، الرجل الملتزم المدافع عن القضايا والمتحدي للسلطة والديكتاتورية، كما جاء على لسان أدوارد سعيد في كتاب «المثقفون والسلطة». وهناك من يرى في الكاتب الفنان المبدع الذي ينتج الفن من أجل الفن والأدب من أجل الأدب ولا شيء غير ذلك. هنا، تتضارب التعاريف وتتداخل في ما بينها، لكن تبقى للكاتب حرية اختيار زاويته وتوجهه الخاص، فنزار قباني لم يكتب عن المرأة فقط، بل كتب عن الأرض والمعاناة والألم، ومحمود درويش كتب بحبر الدم معاناة فلسطين ومعاناته الخاصة، ولوركا تمرد، وعبد الواحد مؤدب كتب عن التصوف وفي التصوف وحاور الكبار من أمثال الحلاج وابن عربي، ونيتشه جعل من الكتابة فضاء لا يمكن تعريفه. لذا، فالكتابة كما قلنا أشبه بالسراب لا يمكن تعريفها ولا تنحصر في تعريف محدد، لذلك ليس من الغريب أن يؤكد الفيلسوف والمنظر الأدبي تزفيتان تودوروف على أن الأدب لا يقبل تعريفا وكل التعاريف المطروحة ليست سوى مقاربات قد تكون صحيحة نسبيا وقد تكون خاطئة.

ويعتبر الشعر من الأنواع الأدبية الأكثر مزاولة وإنتاجا، على الرغم من هيمنة الرواية على الساحة الأدبية اليوم. فالشعر كالنهر الذي لا ينضب ويستمر في الوجود، على الرغم من بعض التراجع وانكباب القراء على قراءة الرواية على حساب الشعر، بعدما كان هذا الأخير النوع الأدبي المميز الذي لا يجذب سوى كبار القراء. يمكن القول إن الشعر مستمر وسيستمر، لأن نسبة الشعراء في ارتفاع رغم تراجع نسبة النشر. فالشعر يعكس عمق الصدمة النفسية في الأدب المعاصر والحديث ويتناول على الأقل ثلاث قضايا جوهرية وهي: إشكالية الهوية المتفسخة نتيجة لعدة عوامل سياسية واجتماعية، الغربة والاغتراب في الوطن الأصل وإمكانية استعادة الإنسانية عبر التعبير الشعري. في هذا الإطار، يعرّف الشاعر المغربي حسن بولهويشات الشعر على أنه انتصار للقيم الديمقراطيّة والكرامة الإنسانية ولقضايا الشّعوب وحريات الأفراد، ورصد للفظاعات والبقع السوداء وليست هي ما ينقصنا من المحيط إلى الخليج. ويضيف قائلا: «نحن الذين نعتزّ بالشّعر ونفخر به، في الوقت الذين تعتزّ أممٌ أخرى بالمسرح أو بفنون أخرى. أفهم الشّعر في هذه المنطقة الواضحة والصريحة، وأفهم القصيدة على أنّها صيّاغة فنيّة جميلة لتجربة إنسانية ورؤية جديدة للأشياء والعالم».

وينتقد الشاعر كل الطلاسم والأحاجي التي تُقدّم على أنّها حداثة شعريّة والتي نفّرت قارئ الشّعر وأوصلت القصيدة العربيّة إلى الباب المسدود. وإنّ أكبر المتآمرين على الشّعر هم هؤلاء الذين حوّلوا الكتابة الشعرية إلى معادلات ريّاضيّة، وأوغلوا في الغموض حدّ ألا أحد يفهمهم، لا أصدقاؤهم الشعراء ولا النقّاد ولا القرّاء. أمّا الأمسيات الشّعرية فلا أحد أصبح يفكّر في الذهاب إليها، فضلاً عن أنّ صفحات شعراء قصيدة النثر على «فيسبوك» هي الأفقر واأشد قحولا بخصوص المتابعة والتفاعل.

ويعرف الشاعر الأفغاني مطي الله توراب أن وظيفة الشاعر ليست في كتابة الأشعار عن الحب، ولا عن الزهور والورود، بل على الشاعر أن يكتب عن أحزان وآلام أبناء شعبه. ويعتــبر توراب من الشعراء المتمردين في المشهد الأدبي الأفغاني، بحيث إنه يعبر عن الأفغان الذين صاروا يسخرون من الحرب ومجرميها من الأمريكيين وطالبان والحكومة الأفغانية وباكستان.

يتناول توراب في شعره المواطنين الأفغان، ممن أثقل كاهلهم الفساد واليأس الذي كان السمة الغالبة على مدى العقد الماضي. وجدير بالذكر أنه من التقاليد المعروفة في أفغانستان أن الأقوال الشعرية تنسج في الأحاديث اليومية، ويستخدمها الأفغان من كل القطاعات. إن الطبيعة والرومانسية لا تشكل أي اهتمام بالنسبة لتوراب، فهو يقرض الشعر بقوة وحدَّة الأدوات التي يستخدمها بشكل يومي في عمله، لذا فشعره، شعر الألم والمعاناة والحياة اليومية القاسية التي ترهق كاهل كل الأفغان.

ومن وجهة نظر أخرى، تعرّف الشاعرة والكاتبة التونسية الشابة نيران الطرابلسي علاقتها بالكتابة، على أنها علاقة روحية خاصة، فتقول: «لا أستطيع أن أكف عن الكتابة أو القراءة. أكتب وأرغب في المزيد.. المزيد. أكتب لأتنفس، لأحيا، لأتصل بالعالم. أكتب لكيلا أموت، أكتب في كل مكان. وتؤكد على أن الأدب العربي قد يعكس واقعا عربيا يحكمه الكبت والعقد النفسية. وبالتالي فمن الطبيعي أن يجد القارئ العربي لذة أو متعة في بعض النصوص الجريئة. ولكن اليوم هذا الأمر أصبح مضحكا نوعا ما، حيث أصبحت شبكة الإنترنت تتيح كل شيء لأي أحد. وبالتالي فرهان الأدب العربي اليوم يتجاوز المتعة إلى ملامسة قضايا الإنسان الحقيقية على غرار الحرب والهجرة والعولمة.

حتى لو سهلت العولمة مسألة تلقي النصوص الأدبية، إلا أنها ساهمت بشكل مباشر في تكسير رونق الكتابة عامة، والشعر خاصة، لاسيما وأن الشعر يعرف نوعا من الهشاشة وأصبح التلقي الشعري مجرد استهلاك عادي، في الوقت الذي كان الشعر يستدعي الكثير من الاطلاع اللغوي والإستطيقي والأكاديمي لفهمه، خاصة النصوص العميقة ذات الطابع الاستعاري. فالنشر على جدار الفيسبوك حوّل الشعر إلى ما يشبه بضاعة رخيصة يسهل التصرف فيها وسرقتها، كما أن البعض يستغل الفرصة للتقليل من قيمة الشعر والشعراء.

هناك العديد من الأسباب التي تدعو إلى إعادة النظر في مسألة تلقي الشعر وإشكالية نشره في فضاءات تضمن استمراره وتحفظ رونقه من الضياع. بطبيعة الحال، التحولات التي يشهدها العالم تدفع بالشعراء إلى التأقلم مع الوضع ومسايرة عصر السرعة، فاليوم نشهد شعراء خلقوا صالونات أدبية على الفيسبوك، وهناك من نشر دواوين شعرية جماعية ملتزمة بفضل الفيسبوك، وهناك من الشعراء من يندد بالإرهاب والحرب ساعات بعد وقوع أي حادث. هنا، تطرح إشكالية السرعة، فلا يمكن لشاعر من العصر الحديث أن ينتظر سنة لصدور ديوان شعري ليتطرق لموضوع في تصوره عاجل وآني ويستدعي ردة فعل عاجلة. لكن، قد يسقط الشعراء في ما سماه بيير جورد بالاندفاع السريع، أي ردة فعل سريعة قد لا يكون لها نفع من الناحية الأدبية والفنية. والحقيقة أن الشعر اليوم، كالكتابة لم يعد يقبل تصنيفا ولا تعريفا، فلكل منطقه ومنطلق إبداعه الخاص ويدافع عنه بدوافع شخصية عوض التحلي بالسياقات الأدبية التي ساهمت في تطور الشعر ما قبل أرسطو، إلى شعراء المدرسة السريالية والحداثيين الذي تمردوا على الشكل والمضمون واللغة بدافع أن الشعر انعكاس للعصر المعاش.

إن الكتابة والشعر في حاجة اليوم إلى إعادة الطرح والتصور، بعيدا عن التعاريف الضيقة، وذلك بخلق تصور جديد يتماشى مع كل السياقات الآنية، بما في ذلك سرعة النشر وخصائص القصيدة الحديثة وتراجع الشعر النثري على حساب الشعر الحر، والتفاعل المباشر بين الشعراء والقراء، وعلى أي أرضية يبنى هذا التفاعل، بالإضافة إلى سياقات الكتابة وأهدافها المتعددة التي تلعب دورا مهما في التلقي والتأويل. فالشعر دائما ما يعرف زلزالا عنيفا مع حركة الحداثة، كما سبق وأشار إلى ذلك محمد العبد حمود في كتابه «الحداثة في الشعر العربي المعاصر»، لكن هذه المرة لا يتعلق الأمر بحركة حداثية معينة، فالفيسبوك وباقي الوسائل الأخرى وسائل حرة ذات طابع مشترك، وبالتالي فواقع الأمر أن الشعر اليوم تحرر من كل الحركات، لدرجة أن كل شاعر أصبح يشكل حركة في حد ذاته. لذلك نفهم اليوم لما دعا أدونيس إلى تجاوز الأنواع الأدبية لإبداع ما يسميه: بالكتابة. فالكتابة إذن، هي الجوهر ولا يهم الشكل أو الطرق التي تؤدي إليها، فالمهم هو الإبداع وخلق فرص جديدة للكتابة.

وعلى سبيل الختام، فإن الشعر اليوم في تقاطع مع كل الأشكال والأنواع الأدبية، ما يستدعي ذلك إعادة التفكير في ماهيته وتسليط الأضواء على جوانب القوة والضعف التي تميز الشعر الحديث دون إفراغه من طبيعته وجوهره وأهدافه ومنطلقاته. وعلى الرغم من أن المنصة تغيرت من الملموس «الكتاب الورقي والأمسيات الشعرية» إلى الافتراضي «الفيسبوك»، إلا أن هذا التغير يعكس العصر الحديث ويؤكد على مسايرة الأدب للتطور الزمني والتكنولوجي، وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على أن الشعر يتمدد، لكنه في حاجة إلى تجاوز التعاريف القديمة والتحرر من الإيديولوجيات الثقافية التي تنهجها بعض المجموعات من أجل السيرة واحتكار الساحة الأدبية.

٭ كاتب وناقد مغربي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى