الكتاب لا يزال بألف خير: ما هو السرّ؟/ عقل العويط
لا بدّ أن الكتاب بألف خير. الدليل أن المواعيد الاحتفالية تُضرَب من أجله في مشارق العالم العربي وفي مغاربه على السواء، وأن الجوائز السنوية والموسمية تُقدَّم للكتّاب بعشرات الألوف من الدولارات، وأحياناً بمئات الألوف منها. هذا الكتاب لا يزال على رغم تراجع القراءة بالكتب، وانصراف الأجيال الجديدة إلى وسائل التواصل الافتراضي، يُطبَع بالورق نفسه، وبالوتيرة نفسها، وبالقوة نفسها، وبالعناد نفسه. فما السرّ؟
تُرى، ما الذي يحمل الكتّاب ودور النشر والمطابع في هذا الزمن العبثي الافتراضي، على مواصلة التأليف وصرف الأموال لإرسال المخطوطات إلى المطبعة، وأغراق الأسواق بها، في عالمٍ عربي لا يقرأ؟ أهي مسألة مغامرة انتحارية، أم رغبة في صرف المال عبثاً، وبدون فائدة؟ لا بدّ أن سرّاً كبيراً ما يمثل وراء هذا السؤال، ووراء الأجوبة المحتملة. شخصياً، لا أعرف ما هو هذا السرّ، ولا ما هو الجواب الماثل وراء حجبه. أعرف فقط أني ككاتب، أمضي الساعات الطوال من نهاري وليلي في التأليف، منتظراً على أحرّ من الجمر أن أنتهي من الكتابة، ومن إعادة الكتابة، مرةً ومرّتين وثلاثاً، لإرسال المخطوط إلى المطبعة، من أجل أن يبصر الكتاب النور، مضمَّخاً بمزيج ممتع من رائحة الحبر والورق.
مثلي بالتأكيد، وربما أكثر مني، يفعل الكتّاب اللبنانيون والعرب، الكبار في السنّ منهم، والمخضرمون، والجدد الذين لم يتخطّ البعض منهم العقد الثاني من العمر. أعرف كثيرين وكثيرات من هؤلاء الكتّاب الشبّان، من لبنان والعالم العربي، يراسلونني بانتظام، لأقرأ مخطوطاتهم، على سبيل الاستئناس بالرأي، سائلين إياي عن السبل التي تمكّن مخطوطاتهم من إبصار النور في مطابع بيروت، وفي دور نشرها. أهو الشغف بالحبر؟ أم هي العدوى؟ أم الاسترشاد بالطقوس والتقاليد العريقة في مسألة النشر، التي تستدعي “الاعتراف” بمشروعية الكاتب من خلال كتابه المطبوع على الورق؟
يهمّني أن ألفت إلى ظاهرة سلبية موازية، لم تستطع أن “تزجر” الكتّاب، أو أن “تفرمل” اندفاعاتهم الكتابية. لقد أُقفِلت دورٌ للنشر طليعية، ومكتبات تاريخية، وتَشرَّد كتّابٌ وأدباء وصحافيون، وتراجعت إلى حدود بعيدة مبيعات الكتب الأدبية، وفي مقدمها كتب الشعر، كما تراجعت إلى حدود غير مسبوقة “التغطية” النقدية للكتب في الصحف والمجلات، المنعدمة تقريباً في وسائل الإعلام المرئي. فهل تراجع الكتاب والكتّاب؟ كلاّ. لماذا؟ الأكيد أن السبب الجوهري الماثل وراء فعل الكتابة لا يتأثر كثيراً بمسألة “التغطية”. إذا ما السرّ وراء الكتابة والنشر؟
لستُ أدري. كلّ ما أعرفه أن الكتاب بألف خير، على الرغم من أن عناوين وأعداداً كبيرة بل هائلة من الكتاب المطبوع لا تستأهل رؤية النور. أعرف أيضاً أن الطباعة بألف خير. لستُ على بيّنةٍ دقيقة من أحوال المبيعات لدى دور النشر. لكني أستنتج مما يجري على أرض الواقع، الاستنتاجات العمومية البديهية، التي لا تتطلب اجتهادات كبيرة، فأخلص إلى نتيجة شبه يقينية، مفادها أن الذين يطبعون الكتب لا يزالون يطبعونها، وأن الذين يقيمون المعارض لا يزالون يقيمونها، وأن الذين يعقدون الندوات والمؤتمرات لا يزالون يعقدونها، وأن الذين ينشئون الجوائز ويصرفون الأموال في سبيلها لا يزالون يفعلون ذلك، من دون أيّ إبطاء أو تراجع، آخذين في الاعتبار المتغيرات الموضوعية، وحسابات الربح والخسارة.
يشغلني شخصياً هذا السرّ، بقدر ما يرسّخ اعتقادي بأن الأجيال الجديدة من الكتّاب سيظلّون إلى فترة مقبلة، غير معروفة الأجل، “يتسابقون” على النشر، غير مكتفين بنشر كتاباتهم، وتوزيع كتبهم عبر وسائل النشر والتوزيع الافتراضية، مصرّين على أن يروا كتبهم بأعينهم المفتوحة والمبحلقة، أو أن يتصفحوا الأوراق بأيديهم، وأن يشمّوا رائحة الطبع بأنوفهم.
أطلب من الذين يشكّكون في صحة هذه الاستنتاجات، أن يبادروا فوراً، الآن، إلى سؤال دور النشر المشاركة في المعرض الستين للكتاب العربي والدولي في بيروت، في البيال، عن نسبة الكتّاب الشبّان الذين يقصدون هذه الدور طالبين النشر فيها، وإنْ كان الكثيرون من هؤلاء الشبّان لا يملكون المال الذي يمكّنهم من “إغراء” الدور بتلبية طلباتهم.
غريبٌ أمرُ الكتاب. وغريبةٌ مسألةُ الطباعة والنشر. أعرف أن القراءة متراجعة إلى حدٍّ مأسوي مفجع في المدارس، وفي الجامعات. أعرف ذلك من خلال علاقتي المباشرة بهذا الميدان. لكني إذ أعاين ما أعاينه ويعاينه غيري من حقيقة أوضاع الطباعة والنشر، لا أكون أغامر كثيراً في القول إن عصر الكتاب المطبوع لم ينقرض حقّاً، أو إنه ليس في طريقه إلى الانقراض في المدى القريب.
يهدف هذا المقال، ليس فحسب إلى إلقاء الضوء على السرّ الكامن وراء استمرار ظاهرة النشر لدى الكتّاب، ورسوخ ظاهرة الطباعة وإقامة المعارض لدى دور النشر، بل إلى جعل هذا السؤال مادة للتأمل والتفكير والنقاش وإعادة النظر في “المسلّمات” و”اليقينيات”، وخصوصاً منها تلك التي نشهد فصولاً دراماتيكية من مآسيها، عبر ما تعانيه الصحف المطبوعة، وما يواجهه الصحافيون من مصائر لا تشرّف أحداً.
النهار