اللاجئون السوريون في المفرق 1.. منظور عائلي للظاهرة/ أمجد ناصر
تحقيق
ثمة حركة واسعة النطاق في هذه المدينة، التي كان ينقطع فيها النشاط التجاري مع حلول العصر، فتقفر أسواقها وشوارعها من البائعين والشارين. ولكن ليس الآن وهي تضم ما يفوق عدد سكانها من اللاجئين السوريين، الذين تجاوز عددهم في المدينة (وليس في المحافظة) ضعف عدد سكان المفرق (85 ألفاً من المواطنين و160 ألفاً من اللاجئين).
يمكن للمتجول في أحياء المدينة، الهادئة سابقاً، أن يسمع أصوات خلاطات الاسمنت ورافعات الطوب وعمال البناء المصريين، غالباً، طوال النهار. فالطلب على عقارات التأجير وصل حداً لم تعرفه المفرق التي لم تشهد نزوحات كبرى من قبل. السوريون والسوريات ملحوظون، بوضوح، في شوارع المدينة. تعرفهم من ثيابهم ولهجاتهم. منهم / منهن من يعمل في محال المفرق ومنهم/ منهن من يتبضع.
كانت لهؤلاء في بدايات اللجوء حظوة عند المفرقيين. يُقدَّمون على أهل المدينة في الخدمة والمعاملات، لكنَّ طول مدة اللجوء وكثافة أعداد اللاجئين، ومنافستهم أهل المدينة، وجوارها، في سوق العمل، وضغطهم الشديد على بنية تحتية متردية، أصلاً، حولهم الى مادة أثيرة للتذمر والشكوى لدى أهل المدينة ومسؤوليها الإداريين، بحيث صارت تنسب إليهم أعمال وسلوكات مبالغ فيها، أو غير حقيقية، وتعلَّق عليهم إخفاقات حكومية مزمنة. باختصار صاروا كبش فداء لسوء الاداء الحكومي، قصوره، أو فساده.
مثلا، كانت المفرق مهملة تاريخيا من لدن الحكومات الأردنية. لم تقم فيها مراكز ثقافية أو رياضية أو ترفيهية تذكر. لا يرى مواطنوها وجوه النواب الذين ينتخبونهم إلا في الحملات الانتخابية. في المدينة محافظ ورئيس بلدية وموظفون مولجون شؤون البنية التحتية لكن لا أثر حقيقياً لهؤلاء.
لا يلمس مواطن المفرق ثمرة واضحة لعملهم.. هكذا عندما تسأل واحداً منهم عن القمامة التي تتراكم في جهات المدينة الأربع، عن ضعف، أو انعدام، الرقابة على المأكولات التي تباع في الشوراع المحفَّرة، ينحي باللائمة على اللاجئين السوريين، أعني أنهم يبررون ما صار يشبه الكارثة البيئية في شوارع المدينة بوجود أعداد هائلة من الناس فيها وعدم قدرة البلدية، ميزانية وعديداً، على مجابهة هذا الاستحقاق. في الواقع هذا ما قاله رئيس بلدية المفرق الكبرى أحمد الحوامدة في خصوص النفايات المتراكمة في شوارع المدينة ونواصيها التي تزكم رائحتها أنوف الذاهبين الى مركزها أو الذين يقطنون بالقرب منه.
جواب رئيس البلدية، الذي أدلى به في ندوة عقدت أخيراً في جامعة آل البيت المفرقية، صحيح جزئياً فقط. فقد تفاقم سوء حال المدينة – البلدة أكثر بكثير مما قبل. ولكنه كان سيئاً ومهملاً أصلاً، ولا بدَّ، بالطبع، أن تزيده أعداد اللاجئين الذين يشكلون، الآن، “المحافظة الرابعة” في الأردن، سوءاً.
لم أذهب الى مدينة أهلي، هذه المرة، على هامش زيارتي الى عمّان كما كنت أفعل قبلاً. فقد قرَّرت أن أتفرغ كليّاً لأهلي، وألّا أبارح بيت العائلة إلا لسبب قاهر. وهذا ما حصل. فلم أذهب الى العاصمة إلا مرة واحدة صادفتني فيها أمطار غزيرة، فاعتبرت نفسي، من جانب واحد، خيراً عليها! فليس سهلاً أن تفتح السماء خزائنها فوق هذه الأرض المتشقِّقة عطشاً وتقول لها خذي. يحدث ذلك بصعوبة شديدة.
هكذا يدور هذا النص، غالباً، في حلقة عائلية. وبعد السلام والكلام، والمستجدات في محيط العائلة، ليس هناك حديث أكثر رواجاً وإلحاحاً مما تعرفه المدينة من تغير كبير. من صعوبات طارئة. من تضخّم في جسدها الصحراوي النحيل، وهذا بسبب وجود “شعب” يتفوَّق على “شعب” المدينة عدداً ويشاطره رزقه القليل. وها إني، عندما صار جلدي يحكّني، كصحافي وكاتب، قد اتخذت عائلتي نموذجاً لما يدور في أوساط المفرقيين بصدد هذه “الظاهرة” التي يتنازعون في الموقف حولها. فأهلي قد يشكلون “حالة نموذجية” في النظر الى اللجوء السوري الكثيف والعلاقة معه، من حيث تعدّد الآراء واختلافها وعلاقة بعضهم بظاهرة اللجوء على نحو مباشر.
خارطة طريق
حاولت أن أرسم خارطة لتحركي، أنا ابن المدينة الذي غادرها قبل ثلاثة عقود، ففشلت. فهناك أحياء جديدة نشأت، طرق استحدثت، أزقة أغلقت، أسواق افتتحت، أجيال شابت، وأجيال ولدت. هناك مدينة جديدة نشأت (ولا تزال تواصل النشوء) على جوانب المدينة القديمة. بيد أن قلب المدينة، سوقها التجاري، الذي يمكن تحديده بأربعة شوارع طولية تقعطها أربعة شوارع عرضية، لا يزال موجودا ولكن برثاثة تدعو الى الرثاء. تغير الكثير من السلع التي تبيعها الحوانيت القديمة. هناك سلع جديدة لزمن جديد، لكنَّ بعض مواد الحياة البدوية، التي كان لها قصب السبق في هذه السوق، لا تزال موجودة.
فرغت من جولتي في مركز المدينة وعدت من طريق مدرسة فوزي الملقي الثانوية للبنين الى البيت. كان بيتنا، قبل ثلاثة عقود، في الطرف الشمالي للمدينة، فبعد “حي الضباط”، الذي يقع فيه، لم يكن هناك بناء سوى بعض معسكرات الجيش. كان دونم الأرض يساوي، آنذاك، نحو 300 دينار أردني وهو اليوم في نحو 150 ألف دينار! هكذا أصبح حيّنا، مع تزايد العمران، في قلب المدينة تقريبا. وفي هذا الحيّ، الذي كان يعتبر الأحدث والأرقى في المفرق قبل ثلاثة أو أربعة عقود (لم يعد كذلك اليوم) يسكن عدد من اللاجئين السوريين ذوي الوضع المالي المعقول.
وبما أن الحديث عن اللاجئين السوريين يكاد أن يكون من “حواضر البيت”، كما يقولون، أخذنا والدي، أخي أحمد وأخي خالد وأنا، الى حيٍّ يدعى “الضاحية” الذي لم يكن له وجود قبل عقد من السنين. واضح أن البناء في هذا الحي يتسارع بالحجر الأبيض والقرميد الأحمر ما يرشحه أن يكون من أحياء الشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة المفرقية.
عندما لم يكن هذا الحي موجودا كانت هناك حظائر للأغنام ومزارع للدواجن، فهو على طرف المدينة الجنوبي، ولا غضاضة في احتضانه بعض “نمط” الإنتاج في المدينة التي يغلب عليها الطابع البدوي. بقيت هناك بعض الحظائر التي أخليت من “الحلال” الذي نقله أصحابه جنوب حي “الضاحية”.. وقد تفتَّق عقل نهَّازي الفرص عن فكرة جهنمية: تحويل هذه الحظائر، الطولية الشكل، الى “غرف” و “شقق” تؤجر للاجئين السوريين الذين يقيمون خارج مخيم الزَعَتْري (هكذا يلفظه المفرقيون). الحظائر مشيدة بالإسمنت ولها سقوف صفيحية من “الزينكو” ولم تكن لها أبواب ونوافذ كما هي عليه الآن.. هذه إضافات اصطنعت في الحظائر لتناسب مهتمها الجديدة كـ “مساكن”.
من حمص
توقفت سيارة والدي التويوتا (المستبدلة بمرسيدس قديمة) في ساحة ترابية أمام هذه “المساكن”. كان هناك طفل، في نحو العاشرة، وأمه يقطعان الساحة الترابية في اتجاه الشارع العام. اقترابا منا. فقد ظنّا، كما تبيّن لاحقاً، أننا من جماعة الأمم المتحدة أو المنظمات المعنية باللجوء. سألت المرأة التي كانت ترتدي زيَّا يستحيل إحالته الى منطقة أو بلد بسبب “تشوّشه”:
من أين أنت يا أختي؟
فقالت: من حمص.
حمص!
نعم.
فهمت المرأة أنني استهجن، أولاً، أن تكون حمصية نظراً لبعد حمص جغرافيا عن الأردن وقربها الشديد من لبنان، وثانيا لأن لهجتها وزيِّها خليط بين البداوة والمدينية، فقالت إنها من عرب “الفواعرة”. هكذا يستقيم الوضع أكثر. فإن أراد أهل حمص اللجوء فأمامهم لبنان القريب منهم جغرافيا واجتماعيا وليس الأردن الذي عليهم أن يمعنوا في الذهاب جنوباً مارين بأرياف دمشق وحوران كي ينتهوا في المفرق. سألت المرأة التي تنتمي الى عرب “الفواعرة” عما إذا كانت تقطن في أحد هذه المساكن. فأشارت الى واحد للجنوب الشرقي وقالت: هناك.
كم أجرة بيتك؟
150 ديناراً في الشهر.
هل يساعدكم أحد؟
مساعدات قليلة، علينا أن نعمل لنسد حاجتنا.
ممَّ يتكون “بيتك؟
من غرفة ومنافعها.
وكم عدد أفراد أسرتك؟
خمسة. ننام كلنا في غرفة واحدة.
جاء دور السيدة “الفواعيرية” كي تسأل الذين يسألونها.
من انتم عدم المؤاخذة؟
صحافة.
أرجوكم أن تكتبوا عن معاناتنا خصوصا أن الشتاء قادم ولا نعرف كيف سندبِّر أمورنا في البرد.
سنفعل.
لم يشاركنا والدي الحديث مع اللاجئة السورية. ظل صامتاً، ولكن ما إن تركنا الساحة الترابية حتى راح يتكلم. قال الحاج أبو يحيى، الضابط المتقاعد في سلاح الدروع، إن هناك استغلالاً بشعاً للاجئين السوريين الذين وجدوا أنفسهم فجأة في بلادنا. هؤلاء قادمون من أرض اكثر خصبا من أرضنا ومن مناخ أفضل من مناخنا ولم يكن يعوزهم الأكل والشرب، وكانوا أعزاء في بلادهم ولكنهم هربوا للحفاظ على حياتهم وحياة أبنائهم. من يقبل من أهل المفرق أن يسكن في حظيرة للغنم أو في مزرعة للدجاج؟ ثم لا يكفي أن يسكنوا حظيرة غنمٍ، فهم يتقاضون منهم أجرة تناهز أجرة شقة عادية.
لم ينضم والدي الى سلك المتذمرين من اللجوء السوري الغامر، ولا يحيل سوء الحال الذي صارت عليه المدينة إلى اللاجئين فقط، فهناك عالم قطع وعودا لتحسين ظروف اللاجئين وتقديم مساعدات للأردن تكفي للنهوض بهذا العبء، ولكنه لم يف بوعوده. النظام السوري وهذا العالم هما المسؤولان، في نظره، عن مأساة السوريين المتواصلة.
العربي الجديد