رشا عمرانصفحات الناس

“لصوصية العقل”/ رشا عمران

 

 

“العقل هو المستفيد الأكبر من هزائم الجسد، يعيش على حسابه، يسرقه، يهلل لمآسيه، العقل يعيش على اللصوصية”. تذكرت هذه الجملة من كتاب إميل سيوران “المياه كلها بلون الغرق”، وأنا أراقب التغيرات التي حصلت لي بعد عملية القلب المفتوح. لست أنا نفس المرأة التي كنتها قبل شهر ونصف. أحياناً في الليل، حين أصاب بالأرق، أحاول المقارنة بيني الآن وتلك المرأة، فأكاد لا أعرفني. كل ما كنت أخفيه من شخصيتي في اللاوعي ظهر الآن. ربما يبدو الأمرغريباً، بدا غريبا لي فعلا، إذ طالما كنت أقول عن نفسي أن لا شيء في شخصيتي أخفيه عن الآخرين. يا للغرابة، أكتشف اليوم أن ثمّة صفاتٍ أخفيها عني قبل الآخرين. لم أكن يوماً من محبي حالة النظام، كنت أميل إلى الفوضى في كل شيء، الفوضى التي عادةً ما تكون ملازمةً للشعراء، فالشاعر بقدر ما يكون فوضوياً في ظاهره هو منظم، إلى حدٍّ كبير، في علاقاته اللغوية. هذا ما يقال غالباً عن الشعراء، وهذا ما اعتدتُ أن أكونه.

الآن أنا لست هكذا، فجأة اكتشفتُ أنني لا أطيق هذه الفوضى: فتحت خزانة ملابسي، أعدت ترتيب كل شيء فيها حسب الأطوال والألوان، فعلت هذا مع خزانة أحذيتي، مع مكتبتي، في المطبخ. أعدت ترتيب بيتي، بحيث يصبح أكثر بساطةً وهدوءً وميلاً إلى الاسترخاء. لم يُعقني هذا التنظيم المستجد على حياتي عن الكتابة، لم يتغيّر شيء. تغير فقط ما كنت أظنّه بديهياً في العلاقة مع الكتابة. هكذا بدأ عقلي يدخل في زواريب داخلية معتمة في داخلي، ويضيئها ويكشفها لي. انتبهت أيضاً إلى أنني لم أعد تلك المرأة المتسامحة مع أخطاء الآخرين معها. لم أعد أملك مساحة الغفران التي طالما ميّزتني، وعادت بالوبال علي. أنا الآن أكثر شراسةً عند تلقي الإساءات، وأكثر شراسةً في الرد عليها. لم تعد تعنيني حساسية الآخرين تجاه ما قد أقوله لهم في لحظة غضب. لم أعد أنتقي ما أريد قوله لهم، لم أعد حتى ألتمس الأعذار، من يسيء لي، أو يتجاهلني، أو يزعجني، سينتهي من حياتي مباشرةً، من دون أي لحظة للمراجعة أو للندم.

لم يعد في حياتي متسع للتسامح، أنا الآن أحبّ نفسي أكثر مما أحبّ الآخرين. لم أكن هكذا سابقاً. كنت أراعي ظروف الآخرين على حساب أعصابي، سواء أكان الآخر صديقاً أم حبيباً أم قريباً، إذ كانت فكرة التسامح والغفران تأسرني، كنت أتعامل معها بوصفها واحدةً من مثاليات الحياة، وقيمةً كبرى على الجميع التمسّك بها، بيد أن مراجعةً واحدة لحياتي نبهتني إلى الساعات الطويلة جداً من الألم والحزن والقهر التي عانيتها، بسبب التماسي العذر وراء الآخر لكل من أساء إليّ. في الوقت نفسه، تعزّزت في داخلي قيمة الوفاء لمن وقف معي في حياتي وساندني. أشعر الآن أنني ممتنةٌ لهؤلاء بكل خلاياي، وأن هذا الامتنان هو ما يجعلني مطمئنةً وهادئة. وهو، في الوقت نفسه، يجعلني خائفةً من فكرة خسارتهم. أصبحت أيضاً أكثر خوفاً وأكثر تصالحاً مع الخوف. في الأسبوع الأول بعد العملية، كانت لدي هواجس عديدة: الخوف من التوقف عن الكتابة مؤقتاً أو دائماً بعد عملية كهذه، التوقف عن الكتابة سيجعلني أسقط. ليس فقط لأسبابٍ نفسية، وإنما لأخرى مادية. الخوف من شكل حياتي المقبل بعد خروجي من المستشفى. كيف سأتعامل مع جسمي المريض، ومع حاجتي للآخرين، أنا التي اعتدت، منذ زمن طويل، على فعل كل شيء وحدي. حفّزني هذا الخوف على التحدّي. لم أتوقف عن الكتابة مطلقاً. كانت سرعة شفائي عالية، قدرتي على التحكم بحاجتي للآخرين أيضا عالية. هنا أيضاً كان العقل يمد يده المضاءة، ليكشف ما اختبأ في ظلام شخصيتي. ليس هذا الكشف تغييراً، هو عودة إلى الحقيقة، هو ما فعله عقلي، حين استغل هزيمة جسدي المريض ودخل إليه، ومدّ يده باحثاً عن المخفي داخل هذا الجسد الغريب، وأظهره للعلن.

كان سيوران محقاً تماماً، حين قال إن العقل يستفيد من هزيمة الجسد.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى