صفحات العالم

اللبنانيّون والسوريّون: ملاحظات في المبدأ/ حـازم صـاغيـّة

 

 

أوّل ما يلفت الإنتباه ويستثير التفكير في القرار الرسميّ اللبنانيّ المتعلّق بسمات الدخول للسوريّين، والذي لا تزال آثاره تتفاعل، أنّه نصف رسميّ. ذاك أنّ الطرف الذي لا يستطيع ردع حزب الله عن القتال في سوريا، تبقى حجّته نصف حجّة ورأيه نصف رأي. فصاحب القرار، هنا، كمثل من يشارك في التسبّب بمرض ما ثمّ يقترح، هو نفسه، الدواء للمريض. هكذا يتمّ إيقاف السيادة الوطنيّة، وهي دائماً حقّ مبدئيّ، على رِجلين: رِجل مصابة بالجُذام وأخرى هي رِجل مصارع.

والمشكلة تالياً، وهي معقّدة تنفر من التبسيط الخطابيّ الذي يسم معظم التعاطي معها، كامنة في أنّنا اليوم نتعامل مع سيادات دول وقراراتها فيما الدول ذاتها تنهار، من دون أن تظهر سلطة بديلة كانت مقدّماتها مقيمة في الثورة السوريّة، أو اهتمام دوليّ يستطيع أن يمارس تأثيراً ما.

على النحو هذا تغدو القدرة على التحكيم في المنازعات، الداخليّة كما الثنائيّة، صعبةً تقارب الاستحالة، خصوصاً أنّنا أمام حقّين يتصارعان من دون وجود هذا الطرف الثالث الذي يستطيع، بقوّة التسليم له أو حتّى بمساعداته الماليّة المانحة، أن يمتصّ بعضاً من المشكلة، أو أن يطفئ جذوتها الأكثر اتّقاداً.

فهناك الحقّ السوريّ المؤكّد، وهو أنّ مئات الآلاف يفرّون من موت محقّق، ومن البديهيّ، فيما الصعود إلى السماء مستحيل، أن يفرّوا إلى المكان الذي يجاورهم. وتحاشي الموت حقّ مطلق لصاحبه.

وهناك الحقّ اللبنانيّ، الذي يعبّر عنه خوف البلد، وكلّ بلدٍ أكان ضعيف العنصريّة أو قويّها، من نزوح يعادل عدد نازحيه ثلث عدد سكّانه. وهو خوف يفاقمه التكوين الطائفيّ للبنان في لحظة من تقاذف المخاوف والأحقاد على صعيد المنطقة كلّها. فإذا أضفنا الانهيار الاقتصاديّ وجدنا أنّ ذاك النزوح يطلق منافسة فعليّة مع مَن هم أفقر بيننا وأضعف، ممّن لا تؤثّر في حياتهم استثمارات السوريّين الأغنياء وإنفاقهم.

إنّه امتحان قاسٍ لقدرة اللبنانيّين على أن يكونوا “مضيافين”، لا يفوقه قسوةً إلاّ الامتحان المطروح على السوريّين أن يصعدوا إلى السماء أو أن يعودوا من حيث أتوا ليلاقوا الموت المؤكّد.

حيال صدام الحقّين، في ظلّ انعدام الطرف الثالث القادر، وفي التصدّع الذي يعيشه عموم المشرق، تميل المشكلة إلى أن تعمِّم المشكلة الفلسطينيّة من حيث استطالتها وانسداد الأفق في وجه حلّها. ومن الاستنقاعات تنبعث دائماً روائح عفنة.

إحدى هذه الروائح وأقواها عبّرت عنها مقالة في جريدة “النهار” رأت أنّ الحمرا في بيروت غدت “سودا” وفقدت لبنانيّتها. وقد احتلّ “اللون” موقعاً مركزيّاً في هذه الحارضة التي تمارس اشتهاء وطنيّةٍ بلا قلب ولا عاطفة، وسط تفتّت هائل يعيشه لبنان، تفتّتٍ يحيل الكلام عن “الوطن” إلى مسخرة. فكأنّ الجماعة السوريّة، والحال هذه، هي وحدها المطالَبَة، عبر تفريدها واستثنائها، بالبرهنة على وجود وحدة لبنانيّة تتزايد البراهين عليها ندرةً وصعوبة.

أمّا العفونة الأخرى فمفادها البناء على واقع الانهيار الحاصل وجعله مبدأ أمثل. هكذا تُفترض الأرض وحدةً مسطّحة منبسطة لا تقطّعها، من حيث المبدأ، حدود ودول وسيادات ومصالح. وهذا المنطق السابق على الدولة يشتهي، من ناحيته، المدى الجماهيريّ المفتوح الذي صار القول به ينمّ عن نقص في الرجاحة. وهو نقصٌ ربّما سبّبه الانفعال الذي يُحدثه الألم حيال أوضاع لاإنسانيّة يعيشها النازحون، إلاّ أنّه كفيل بتسبيب آلام أكبر لهم ولسائر الجماعات المتكارهة المقيمة فوق الأراضي اللبنانيّة.

فعبر محو الحدود انطلقت الثورة الفلسطينيّة من لبنان وكان ما كان من مآسٍ، ومحوُ الحدود هو ما انطوى عليه دائماً التهديد السوريّ، البعثيّ والسابق على البعث، للبنان. وليسوا قلّة اليوم مَن يتذكّرون “داعش”، أو يتوقّعونه، كلّما قيل لهم إنّ حدوداً ستُمحى، أو تضعف. ذاك أنّ التنظيم المذكور هو وحده من نجح بكفاءة ما بعدها كفاءة في إنجاز هذه المهمّة الماحية للحدود.

والحال أنّ ثمّة درساً تعلّمه لبنانيّون كثيرون تحت وطأة احتكاكهم بالمسألة الفلسطينيّة، كما تعلّمه غيرهم متأثّرين بمسائل أخرى، ومفاده أنّ القضايا، مهما كانت نبيلة، تمرّ بقناة الدول والأوطان، وإلاّ جاء الطوفان على الجميع. ففي عالمنا، أقلّه منذ مصرع غيفارا في بوليفيا، لم يعد ثمّة دعم للقضايا “بغضّ النظر” عن آثار هذا الدعم على بلد أو مجتمع بعينهما.

هكذا نرانا في مأزق نوعيّ لن تُخرجنا منه “الحلول” الجاهزة. فلئن فات اللبنانويّين أنّ التكاره اللبنانيّ – اللبنانيّ غابة فيما الوحدة اللبنانيّة شجرة، فات العروبويّين أو الإنسانويّين، الساعين إلى علاقات “أخويّة” بين اللبنانيّين والسوريّين، والمستهجنين عدم قيامها، أنّ التكاره العربيّ – العربيّ الراهن غير مسبوق، والمخاوف التي يستجرّها غير مسبوقة أيضاً.

العفونة الأولى اسمها الانعزاليّة القرويّة. العفونة الثانية اسمها القوميّة العابرة للحدود، المستبطنة لعلاقات سلطانيّة لم نبرأ منها بعد.

موقع لبنان ناو

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى