اللعبة الكبرى.. كيف تعيد إيران تشكيل سوريا ديموغرافيًا؟/ عبيدة عامر
عندما وقعت حادثة تفجير مرقد الإمام حسن العسكري في سامراء عام ٢٠٠٥، وكانت الحدث الأبرز الذي بدأ الحرب الأهلية الدامية بين السنة والشيعة، كان مدير أحد المحطات الإذاعية يستفتي على الهواء حول من يكون المسؤول عن التفجير، ليجيبه أحد المتصلين بحماس شديد: “أنا أعرفه، إنهما أبو بكر وعمر.”
هذه الحادثة المروية على لسان الباحث السوري عبد الرحمن الحاج، في مطلع كتابه “البعث الشيعي في سوريا”، والصادر عام ٢٠٠٩، تشير إلى البعد التاريخي و”المظلومية” الحاضرة والمشكلة في طقوس البكاء والثأر في التدين الشيعي، الذي لم يستطع اختراق وتوغل الشام تاريخيًا، باستثناء فترة قصيرة من سيطرة الفاطميين على الساحل السوري، والمملكة الحمدانية التي لم تكن شيعية بالمعنى الديني، مما جعل نسبة الشيعة في عام ١٩٥٣ بعد تأسيس الدولة الوطنية بثلاثين عاما؛ لا تتجاوز ٠,٤%، بحسب الإحصاءات الرسمية في تلك الفترة.
من الجغرافيا إلى السياسة
يروي كاتب السيرة الذاتية لرئيس النظام السوري حافظ الأسد، المعنونة بـ “الأسد والصراع على السلطة”، والصديق الشخصي له، أن الأسد “كان يشارك أبناء طائفته العلوية عواطفهم في السخط على الماضي”، وكان ذلك واضحًا عبر ما أطلق عليه “علونة” حزب البعث، و”علونة” السلطة، أي تحويل القواعد الأساسية للحزب والسلطة بالتالي لقواعد علوية، عملية بدأت منذ انقلاب البعث في ٨ مارس/ آذار لعام ١٩٦٣، وتكثفت مع تسلُّم الأسد وزارة الدفاع، وبلغت ذروتها بعد انقلابه واستلامه للرئاسة، إذ وصلت نسبة تمثيل ضُبَّاط منطقة اللاذقية إلى ٦٣,٢% من ضُبَّاط القيادة القُطرية لحزب البعث، مما كان له أثر بالغ بأحداث الثمانينات، التي انتهت ذروتها بقتل أكثر من ٣٠ ألف شخص، باعتراف شخصيات النظام نفسه، بمجزرة حماة عام ١٩٨٢، بينهم العشرات ب “الذبح الطائفي”.
مع تعديل الدستور عام ١٩٧٣؛ الذي أسس مركزية الرئيس بشكل رسمي كموقع وحيد للقرار، ليجمع كل مراكز القوة سياسيًا بكونه الأمين العام لحزب البعث وقائد الدولة والمجتمع، وعسكريًا بجعل الرئيس هو القائد العام للجيش والقوات المسلحة، وتنفيذيًا بإسناد تشكيل الحكومة للرئيس، واجه الأسد معضلة دستورية ودينية تمثلت بأن السُنَّة والشيعة يعتبرون الطائفة العلوية المنتمي لها الأسد “خارج دائرة الإسلام”، بما يتعارض مع الشرط الدستوري الذي يقضي بأن يكون رئيس الدولة مسلمًا، مما أدى لما يمكننا أن نطلق عليه “أول ارتباط علوي- شيعي”..
هذا الارتباط تمثَّل بفتوى المرجعية الإيراني، رئيس المجلس الشيعي الأعلى في لبنان وصديق الأسد، الإمام موسى الصدر، بأن العلويين “طائفة من الشيعة” في العام نفسه، ثم تبع ذلك بقليل تأسيس “الحوزة الزينبية” على يد المرجعية العراقي حسن مهدي الشيرازي، الذي هرب إلى سوريا من نظام صدَّام حسين مع عدد من علماء الدين الشيعة العراقيين، والذي سيلعب دورا لاحقًا في نشر “التشيع” داخل الطائفة العلوية، لا الأكثرية السنية، حتى اغتياله عام ١٩٨١، في ظل الاحتقان الطائفي داخل أوساط السنة بسبب “العلونة الممنهجة” للجيش والسُلطة، وفتوى الصدر.
مع نجاح الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩، ووصول “الملالي” إلى حُكم إيران؛ عمل الأسد على الحفاظ على علاقة دقيقة وملتبسة مع إيران، سواءً بشكل مباشر، أو في لبنان عبر الصدر، وكان حازمًا ودقيقًا بإدارة هذه العلاقة: محور سياسي خالص يلعب دور توازن في القوى الإقليمية لمصلحته لا مصلحة النظام الإيراني، لا أكثر من ذلك، سواءً بسبب الرفض الذاتي لكل من الخميني والأسد لبعضهما البعض (الخميني يرى حزب البعث كافرًا، والأسد كان يراه أصوليًا)، والذي تجاوزته إيران بالصمت عن أحداث الثمانينات رغم حرصها على “تصدير الثورة”، ولذلك لم يلتق الأسد الخميني حتى موته، كما لم يسمح لأي من أعضاء حزب الله وقياداته بدخول سوريا حتى مطلع التسعينيات.
كان الأسد الأب يجيد لعبة التوازنات ما بين الداخل والخارج لحفظ حُكمه، ويجيد استخدام الأحداث الإقليمية الموضوعية لتثبيت مقعده ذاتيًا، وانطلاقا من ذلك؛ فقد أدَّت الأحداث الإقليمية ما بين أعوام ١٩٨٩- ١٩٩١، متمثلة بانتهاء حرب الخليج واتفاق الطائف في لبنان وموت الخميني، إلى انعطاف مهم جعله يسمح بمزيد من النشاط والتشيع في المدن السورية، فبدأ الشيعة بالقدوم إلى دمشق وإلقاء الدروس والمحاضرات، مثل أحد أكبر شخصيات حزب الله: محمد حسين فضل الله، الذي كان يلقي درسًا أسبوعيًا في حوزة السيدة زينب، كما صار له مكتب للفتاوى..
ترافق ذلك مع قدوم أعداد كبيرة من الشيعة العراقيين من النشطاء الحركيين بعد “انتفاضة الجنوب” الشيعي في عام ١٩٩١، إلى منطقة السيدة زينب، مما حفَّز النشاط الشيعي بشكل أكبر، وبرزت شخصيات مثل عبد الحميد المهاجر، الذي كان ناشطًا في العمل التبشيري، وظهر في التلفاز السوري، حيث بدأت حركة تشييع واضحة في القرى والأرياف، ترافقت مع “اكتشاف” عدد من المقامات وإعادة تأسيسها، أبرزها مقامات (السيدة زينب)، و(السيدة رقية)، و(حجر بن عدي)، لكن التشيع الأكبر كان ضمن العمالة السورية التي تدفقت إلى لبنان بعد اتفاق الطائف، كان بينهم آلاف من الأكراد، نتيجة الاحتكاك مع المجتمع الشيعي اللبناني والعمل في الجنوب..
والذين دخلوا في الشبكة التي يسميها الباحث عبد الرحمن الحاج بشبكة “التبشير الشيعي”، حيث ساعدوهم ومولوا جولات لآيات الله والمستشارين الثقافيين تصل إلى عمق صحراء الجزيرة والبادية، وقُراها الصغيرة النائية شمال شرق سوريا، كما مدوا الشبكة التبشيرية النشطة بأموال المرجعيات الإيرانية والمُحسنين الخليجيين ودعمهم المعنوي، وبالأساتذة والمدرسين المنتدبين، شبكة كانت جميعها من غير السوريين، وبلغت أوجها بعد منتصف التسعينيات، حيث زار عدة مرجعيات دينية ووعاظ أماكن التواجد الشيعية في أنحاء سوريا المختلفة، وترافقت زياراتهم مع تأسيس أكثر من خمس حوزات علمية خلال خمس سنوات فقط (١٩٩٥- ٢٠٠٠)، في مدينة السيدة زينب لتبدو كأنها “قُم الصغرى”.
وقع كل ذلك تحت مرأى ومسمع الأجهزة الأمنية للأسد، الذي لم يجد فيه ما يؤذي سلطته، بل إن تلك الأنشطة ساعدته في الوقت نفسه على مهمته التي تفرغ لأجلها بعد إنهاء الأزمات الأخرى: تهيئة خليفته الرئاسي، بتأمين الانتقال السلس لابنه باسل، والذي قتل في حادث سير في عام ١٩٩٤، مما دفعه لإعادة ترتيب الملفات الداخلية والخارجية، لأن الابن الآخر بشار لم يكن بالحنكة والخبرة والدهاء الكافين لاستلام الحكم..
فأعاد التقارب مع السُنَّة بأن أعاد الشيخ السُنِّي (محمد رمضان البوطي) للواجهة، وجعله يؤم صلاة الجنازة على ابنه باسل، وكان هناك تفكير بإيجاد حزب سُنِّي “مُعتدِل” مُنافِس، بحسب ما يروي البوطي، ودفع العلاقات مع الإسرائيليين بثلاث جولات مكوكية من المفاوضات في مركز المؤتمرات في معهد “إسبن” في “واي ريفر” برعاية أمريكية، وسار لمفاوضة الإخوان المسلمين ثم أوقفها فجأة، وأخيرًا كان السماح لحُرِّية نسبية للشيعة والترخيص الأمني لمكاتب المراجع والحوزات.. “رشوة” لم يكن لها صدى كبير في إيران لـ «امتعاضها» من التقارب مع إسرائيل.
من السياسة إلى الديموغرافيا
“إن كانت إيران تلعب دورًا سياسيًا كبيرًا، فهذا لصالح المنطقة، ونحن ليس لنا مصلحة بأن نكون دولًا ضعيفة، فلماذا التخوف؟”.
كان الجانب الآخر الذي أعاد به الأسد الأب هندسة المجتمع السوري هو التخطيط العمراني، متحركًا به على محورين: تعزيز الوجود الشيعي بـ “احتلال” المناطق المحيطة بالمقامات أو اختلاقها، بحسب الباحث السوري الحاج، وتقوية الوجود العلوي، بإعادة توزيع الجاليات السكانية بمسميات “إعادة تخطيط عمراني” حول المدن الكبرى.
أما بالنسبة لتعزيز الوجود الشيعي، تمَّت إعادة ما جرى حول مقام السيدة زينب من إنشاء المقام ثم توسيعه، ثم التوسع حوله بالشراء والاقتلاع، حيث بدأ الشيعة “ينقِّبون” عن مقامات لأهل البيت لإحيائها، فما أن انتهى عقد الثمانينات حتى سطا الشيعة على الأوقاف السُنِّيَة التي تضمنت مقاماتهم المكتشفة، وكان أبرزها مقام السيدة رقية، حيث تعرضت البيوت المحيطة بالمقام للتخريب من أجل إقامة مبنى ضخم للمقام يتضمن مدرسة ومسجدًا كبيرًا، وبالفعل انتهى إعماره عام ١٩٩٠، وهو ما تكرر في كل من مقامي عدي بن حجر الكندي في ريف دمشق، وعمار بن ياسر في محافظة الرقة.
في أحد أيام عام ١٩٩٩، استيقظ أهالي مدينة داريّا بالغوطة الغربية لدمشق، المعروفة بتمسكها بسنيتها، على لافتات تشير إلى مقام صغير شُيِّد حديثًا باسم مقام (سكينة بنت علي)، مقامٌ كانوا متيقنين من عدم ثبوت مكانه كما لم تذكره أي من كتب التاريخ الكبرى، مشهد تكرر سابقًا في مقام (محسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب) في حلب، حيث يتم إيجاد المقام ثم يبدأ الزوار بالقدوم إليه، ثم ينشأ سوق حوله لتلبية احتياجات الزائرين، ليعاد بناؤه أو توسعته، ثم يصبح مركزًا تبشيريًا، ويبدأ سعي المرجعيات والمتدينين للإقامة قربه، ومن الطبيعي حينها انتشار اللغة الفارسية، ثم تنتشر الحسينيات والحوزات، ليصبح “اللامكان” خلال عقد واحد من الزمن مركزًا تبشيريا واجتماعيًا شيعيًا، وهو ما جرى في كل المقامات، بحسب “البعث الشيعي في سوريا” لعبد الرحمن الحاج.
كان بشار الأسد يلتقي قيادات حزب الله وزعيمه حسن نصر الله، وبدا وكأن نصر الله سَحَرَ الأسد بشخصيته ومنطقه الكلامي البليغ، وكان أيضًا من أوائل المعزّين بوفاة الأسد الأب في يونيو/ حزيران ٢٠٠٠، في استقبال كثيف الرمزية، إذ كان نصر الله خارجًا لتوِّه مِمَّا عرَّفه العالم العربي بـ “انتصار” تاريخي على إسرائيل، ومستعرضًا أمام الأسد حينها رتلًا خاصًا من مقاتلي حزب الله، وكأنه يقول له: “مقاتلونا جنودك”، بحسب ما يروي الحاج.
أما الملالي، فما إن توفي الأسد حتى بدأوا يستثمرون العلاقة التي كانت تربطهم به خلال السنوات الست التي كان يستعد بها الأسد الابن للتوريث، إذ كان يلتقيهم ويزورهم ويحاول تلبية مطالبهم، فحصلوا على موافقات وتراخيص أمنية بتسهيلات غير اعتيادية لإقامة الحوزات والحسينيات، حتى وصلت إلى مرحلة التأسيس بدون موافقات، في حين لم تتأسس خلال ثلاثين عامًا في سوريا سوى بضعة معاهد أو مدارس تعليم شرعي باستثناءات خاصة ولأسباب سياسية وأمنية، فتم تأسيس عشرات الحسينيات في المدن والقرى السورية، بأموال المرجعيات أو الحكومة الإيرانية أو متبرعين خليجيين، بدون أن تُسجَّل لدى وزارة الأوقاف السورية.
من القصص الشهيرة في هذا الصدد قصة تأسيس ما قد نطلق عليه أول “منظمة تبشيرية شيعية” اجتماعية نشطة باسم: (هيئة خدمة أهل البيت)، والتي نَظَّمت أول نشاط شيعي علني في قلب دمشق الأموية، بتسييرها موكب عزاء شيعي، في ٤ أغسطس/ آب ٢٠٠١، بمناسبة ذكرى “الصدِّيقة الكبرى فاطمة الزهراء”، موكبٌ انطلق من الحوزة الزينبية وانتهى عند مقبرة الباب الصغير، قاطعًا عشرة كيلومترات على الأقدام، بشعارات “جهادية ورثائية” في أكبر شوارع السُنَّة، مُحاطًا بالحماية الأمنية، ثم أصبح الموكب عادة موسمية.
بعد احتلال العراق، والدور السوري بتسهيل مرور المقاتلين والأسلحة والدعم اللوجستي، والدعم لإيران هناك، ثم بعد الضغط الأمريكي والمجتمع الدولي على سوريا، بعد اتهامها باغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، اندفع النظام السوري نحو مزيد من التشبث بالعلاقة مع طهران، بحُجَّة حاجة كلا النظامين للآخر، ليتحول الدور السياسي والنفوذ الإقليمي إلى مصالح حيوية لإيران في العراق ولبنان، والحفاظ على النظام ذاته بالنسبة لسوريا، أصبح بها النظام السوري هو الطرف الأضعف، بعكس موقفه أيام الأسد الأب..
هذا الضعف دفع إيران لاستغلال الحالة داخل المجتمع السوري، بموازاة مد اقتصادي يستحوذ على صفقات القطاع الحكومي، والصناعات الثقيلة، ودفعت لتوقيع اتفاقية عسكرية للتعاون والدفاع المشترك في منتصف يونيو/ حزيران ٢٠٠٦، ترافق ذلك المد مع التعاطف السوري، والحشد الإعلامي والشعبوي والعاطفي للشعب لصالح حزب الله؛ “وكيل إيران” في لبنان، بعد حربه مع إسرائيل، فرفعت أعلام حزب الله وصور حسن نصر الله في شوارع سوريا وبيوتها كما لم يحدث من قبل.
بلغ الانتشار الشيعي مداه، وتحول من “تشيع” إلى “تشييع”، فخلال خمسة أعوام فقط أُنشأت في قرية السيدة زينب أكثر من اثنتي عشرة حوزة شيعية، وثلاث كليات للتعليم الديني الشيعي، وحصلت أول جامعة إسلامية شيعية مختصة بالعلوم الدينية على ترخيص أمني، أي أنه خلال ست سنوات فقط أقيم ثلاث أضعاف ما أُنشأ في ربع قرن، معظمها بدون ترخيص ضمن معركة “الحوزات”، مما دفع علماء الشام لإصدار بيان هو الأول من نوعه منذ 35 عامًا، موجه إلى بشار الأسد، في ٦ يوليو/ تموز ٢٠٠٦، ينتقدون فيه تأسيس الحوزات ويدعون لإغلاقها لكونها “هيئات تبشيرية أجنبية”، ثم تبع البيان تحذيرات رسمية ودينية وشعبية، ومحلية وإقليمية، مما سمي بـ “خطر التشيع في سوريا”.
ويرى الباحث الحاج أن المؤسسة الأمنية والاستخباراتية تبنَّت، بعد حُكم الأسد الابن، مشروع التشييع رسميًا، مع تشييع الوزارات والهيئات الحكومية، بالإضافة لدور السفارة الإيرانية في دمشق، مترافقًا مع إضعاف المؤسسة الدينية السنية، حيث تضاعف التشيع مرتين خلال سبعة أعوام من حكم الأسد الابن، عما كان عليه في ثلاثين عامًا من حكم الأسد الأب، تشيع كانت نسبته الأكبر بين العلويين أنفسهم، ثم في منطقة الجزيرة السورية بمحافظاتها الثلاث (الرقة- دير الزور- الحسكة).
من الديموغرافيا إلى العسكرية
«نحن لسنا مثل الأمريكيين، ولا نتخلى عن أصدقائنا.»
في دمشق مطلع عام ٢٠١٢، كانا مقامي السيدة زينب والسيدة رقية هما أول ما خطته قدما حسين همداني، جنرال الحرس الثوري الإيراني رفيع المقام، والصديق المقرب لقائد فيلق القدس قاسم سليماني، زيارة أتت استجابة لأمر القائد العام للحرس الثوري الإيراني (محمد جعفري) نفسه، وتحقيقًا لرغبته بأن يكون هناك “دفاعًا عن حرمة الأسياد”، ثم عقد اجتماعًا استلم به إدارة الأمور في سوريا، قبل أن يتوجه إلى حمص، وينظم أكثر من ٥٠٠ شاب شيعي و٢٠٠٠ شاب علوي، في الخطوة الأولى من بدء تشكُّل المليشيات الشيعية في سوريا، تحت اسم: “قوات الدفاع الوطني”، بحسب ما ترويه مذكرات همداني: “ذاكرة الأسماك”.
بعد أن عرض همداني الوثيقة على الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، الذي أصبح المشرف العام على “محور المقاومة” في سوريا، اقترح نصر الله أن يتم “إخراج النظام وحزب البعث من المستنقع الغارقين فيه، قبل إطعامهم وكسائهم وتعليمهم”، ليلغي كل السياسات المقدمة، ويركز على الجانب الأمني والعسكري، في وقت كان حزبه يستعد به لدخول سوريا، ووضع أول موطئ قدم له منتصف ٢٠١٣، بسيطرته على بلدة القصير الاستراتيجية، الواقعة في ريف حمص، قرب الحدود اللبنانية، بعد عام من مجزرة الحولة، التي قُتل بها مئة شخص تقريبًا، منهم العشرات بالسكاكين على يد السُكَّان العلويين المؤيدين في القرى القريبة، وقبل عام تقريبًا أيضًا من إخلاء أحياء حمص القديمة.
بعد اندلاع الثورة، وباستخدام سياسات العقاب الجماعي، متمثلة بالقصف العشوائي والتجويع والحصار والتطهير العرقي، ثم المجازر التي وصل عددها إلى العشرات، ثم سياسات الإخلاء المنظمة للمدن الكبرى وآخرها حلب، التي يتم بها إجراء تبادل سكاني بين منطقتين على “أسس طائفية”، بإدخال أداة إيران المفضلة في المنطقة: المليشيات (وأكبرها حزب الله)، عملت إيران وحليفتها روسيا على إعادة هندسة المجتمع السوري، سعيًا للوصول إلى ما يطلق عليه “سوريا المفيدة”، الواصلة على الطريق الدولي من درعا إلى حلب، وتضم محافظات دمشق وحمص وحماة، بالإضافة للساحل، معقل النظام الحاكم، والتي تمثل الثقل الثقافي والسياسي والاجتماعي في سوريا.
أدى ذلك إلى حدوث تغير جغرافي في السكان السوريين أكثر من التغير السكاني، حيث لم يشهد التوزع الطائفي والديني في سوريا تغيرًا كبيرًا نسبيًا، لكنه شهد تغيرًا كبيرًا في التوزيع الجغرافي، حيث كانت الأغلبية الكبرى من اللاجئين، الذين يصل عددهم إلى ٥,٢ مليون سوري، والقتلى الذين يقدر عددهم بنصف مليون قتيل، من السكان “السُنَّة”.
لم تكن المليشيات مجرد أداة للتغيير الداخلي وحسب، بالاعتماد على التجنيد على أسس طائفية أو مقابل المال، لكنها عملت كأداة ذات أثر إقليمي، حيث يتم الحشد بالدرجة الأولى على أسس طائفية، بدعوى حماية المراقد، وأبرزها مرقد السيدة زينب، حشد دعائي صوري وعاطفي كثيف للشيعة في كل مكان، من باكستان وأفغانستان، مرورًا بالعراق ولبنان، وصولًا إلى اليمن، ثم تنظيمهم بعد استقطابهم ضمن مليشيات مختلفة، وإعادة توطينهم في المناطق التي يسيطر عليها النظام حديثًا بعد طرد سكانها منها، في “لعبة إيران” المفضلة، سعيًا لربط “سوريا المفيدة” بالعراق الذي شهد صعودًا شيعيًا بعد الاحتلال الأمريكي له، وبلبنان الذي يمثل به “وكيل” إيران حزب الله الفاعل الأكبر، تحقيقًا لما يسمى بـ “الهلال الشيعي”، الذي ازداد تأثيره وفعالياته بعد سقوط حلب.
الهلال الشيعي أو كل ما سبق
“إذا كان هناك عراق يقوده الشيعة ويملك علاقات قوية مع إيران، وهناك علاقة مع سوريا، ومع حزب الله اللبناني، فنحن نتحدث عن هلال جديد يبدو مضرًا باستقرار الخليج والمنطقة كلها”.
لم يعد الهلال الشيعي الممتد من طهران إلى بيروت، مرورًا بحلب ثم دمشق، مجرد “مخاوف سياسية” أو تضخيم دبلوماسي؛ حيث يمكننا أن نرى الممر الواصل، سواء عبر “وكلاء” طهران في العراق ولبنان، أو عبر الوجود المباشر للمليشيات الإيرانية في سوريا.
استطاعت إيران تشكيل هذا الهلال عبر سياسة طويلة امتدَّت لعشرات الأعوام، منذ اندلاع الثورة الإيرانية، واعتمدت على جانبين اثنين: الدبلوماسية، والمليشيات، حيث وفرت لها الدبلوماسية الوقت الكافي لتطوير استراتيجية ردع، متمثلة بدعمها “للمسلحين المعادين للغرب”، وتطوير أسلحة حديثة خاصة أنظمة الصواريخ ومضاداتها، وأخيرًا برنامجها النووي، بينما عملت المليشيات بأفكار موحدة وعمليات مشتركة، ضمن شبكة “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني، الذي يقوده قاسم سليماني؛ “رجل الظل” الأبرز والأخطر في الشرق الأوسط.
يمثِّل هذا الهلال ممرًا شَقَّتهُ إيران شَقًّا، من طهران وصولًا إلى البحر المتوسط، ممر يمكنهم من خلاله نقل الأشخاص والموارد بين البحر والعاصمة “الملالية” تحت حماية إيرانية شديدة الكثافة، من سلاح وأشخاص وطبقات أمنية استراتيجية متعددة، ضمن سياسة طويلة من الصبر وطول النفس، لتخرج منها، رغم كل خسائرها التي كان أكبرها في سوريا، بزعم أنها انتصرت، وهو ما قد يبدو صحيحًا بتدقيق النظر.
ميدان