صفحات الثقافة

الله بالألوان


    أندلس الشيخ

بالرغم من إصابة مخيلتي بالرعاف، لا أستحضر في هذه الأيام جملة شعرية أو نثرية لأدونيس. كلوحات دالي الدامعة، تسيل من رأسي صور أحاول عبرها تَخيّل مجرى الحياة في وطني، لا سيما أن عدوى العصيان فيه أخذت تطال معظم المدن والقرى من القامشلي إلى بر الشام ومن جسر الشغور إلى البوكمال ودير الزور. ربما أعزو سيولة هذه الصور التي أستنبطها غالباً عند أفول الشمس، إلى بُرك الدم التي أسبح فيهـا ليلاً، بُعيد رؤيتي شريط الجرائم الذي ترتكبه ذئاب النظام السوري في حق شعب أعزل، خرج إلى الشوارع معبِّراً عن إرادته بوضع حدٍ لسنوات المهانة والذل التي عاشها على مدار خمسين عاماً.

في هذه الفوتوغرافيا الذهنية تلحّ، عما سواها من الصور، صورة صديق لي في أحد أحياء دمشق القديمة: ممدوح الأهـدب. الشعر مائل إلى الحُمرة والوجه ينقّطه النمَش والفم يعضّ بطراوة على خيوط الغبار. كأن عجلة الزمن لم تدر. فها أنا ألمح صديقي كعادته ممدَّد الجسد أمام باب الدار، أو مستند الظهر إلى حائط الحارة، جامعاً الركبتين بالساعدين وشابكاً أصابع اليدين بعضها بالبعض. في هذه الوضعية، يحاول ممدوح ما تيسّر له تكوير جسده السقيم، ليصبح مثل شرنقة تلجأ إلى آلهة الداخل هرباً من وجه الحياة.

كما كانت عليه الحال في الماضي، لم يزل منظر صديقي الأشعث الأغبر يثير تارةً سخرية الأطفال وطوراً شفقة الكبار وثالثةً فضول المارة. أما العارف بقصة هذا الشاب الذي كان مولعاً بالسيرة الذاتية لتروتسكي وبقصائد ناظم حكمت وأراغون، والذي اقتُلِع من بيت أهله ذات خريف ليُقتَاد إلى المجهول، يتطلع إلى سماء دمشق الأسيرة متنهداً ولاعناً أمهات الغدر وأعضاء الظلم التناسلية. ففي ثمانينات القرن المنصرم، اختفى صديقي عن باقي رفاق الحي من دون أن يجرؤ أحد على السؤال عنه، ولا حتى ذووه الذين اعتنقوا بعد تواريه ربّ الإنتظار. إذ إن السؤال عن سجين أو معتقل ضرب من ضروب الإنتحار في “سوريا البعث”، التي أراد حافظ الأسد بذهنيته الستالينية البشعة أن يجعل منها بلداً يروم به الخوف كما تروم الرمال في الصحراء.

 في الأشهر الأولى على غيابه، كانت أم ممدوح، حيث تحول الجسد إلى مقطع طولي لخلية وحيدة الوجع، تردّ باب البيت من دون أن تُغلقه، وذلك حتى ساعة متأخرة من الليل، علَّ من يأتي إليها بإبنها المفقود. أما العم أبو ممدوح، فكانت أصابع يديه لا تكف ليل نهار عن الدعاء والمناجاة دافعةً بحبات المسبحة على خيط الرجاء. يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وعاماً بعد عام، بدأ الإنتظار يطول وبدأت عيون الأب والأم ترشح من غير قصد بالدمع، كثمر التين الذي يقطر عسلاً أوائل شهر أيلول.

ثم مضت خمس سنين احترق فيها قلب الأهل، ولم يكن أحد لا من قريب ولا من بعيد، على معرفة إن كان رفيقي ينتمي إلى عالم الأحياء أو الأموات. ذات صباح، أخبرتني أمي وأنا في طريقي إلى الجامعة بأن عائلة ممدوح تنوي بيع كرم الزيتون في البلد من أجل تأمين مبلغ من المال سيتم دفعه إلى شخصٍ – واسطة كما يقول السوريون، في مقدوره جلب بعض المعلومـات عن “زهـر الشباب”.

مرةً واحدة لا غير، التقى فيها الأهل بولدهم طوال أيام حبسه. مرةً واحدة لا غير لم تستطع فيها الأم أن تقول لفلذة كبدها وهو على بضعة أمتار منها “اشتقتلك يا ابني”، خجلاً من عيون العسكر والضباط المشرفين على زيارات السجناء، الذين يغتصبون ببدلاتهم المومهة وببساطيرهم العتيدة حميمية لقاءات كهذا.

بعد ثلاثة عشر عاماً من الضياع، أُعيد ممدوح، الذي كان قد رأى الله بالألوان أثناء فترة إعتقاله، إلى أبويه في سيارة “بيجو” بيضاء، وهو مختلّ عقلياً إثر ممارسات التعذيب الجسدي والنفسي الذي تلقاه وهو يتنقل بين سجون أجهزة الأمن السوري الخراب.

“يصبح الوطن فكرة حزينة عندما يقع تحت سطوة الطغاة”. ينتابني هذا القول عندما أستعيد اليوم وجه صديقي ممدوح الذي هو ليس سوى وجه الألوف من المعتقلين السوريين الذين إن أتيح لهم يوماً من الأيام الإفضاء عما ذاقوه في زنزانات دولة البعث الفاشية، لكتبوا بيوغرافيا وطن عذَّب أبناءه حتى الجنون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى