المترجم الأدبي ضياع الحقوق وتواضع المنزلة/ حسن سرحان
ما تزال حياتنا الثقافية العربية محكومة بتقييمات بالية، تضع المترجم الأدبي في منزلة ثانوية مقارنة بمنزلة المؤلف، وما زال الكثير من مثقفينا ونقادنا لا يكف عن النظر إلى الترجمة على أنها نسخة متدنية عن الأصل، وأن المترجم ليس أكثر من عبد أو خادم للنص المصدر، على أنه يجب الإشارة إلى أن هذه النظرة الدونية لمكانة المترجم الأدبي والنص المترجم لا تكاد تخص مثقفينا دون غيرهم. فهذا جيرار جينيت يقول في كتابه «أطراس» عندما يتعرض للترجمة وأهميتها في حياة الأدب «من الأحكم للمترجم، من دون شك، أن يتقبل كونه لا يقوم سوى بفعل ضار، وأن يحاول، مع ذلك، القيام به على أحسن وجه ممكن، ما يعني غالبا القيام بشيء آخر». ليس هذا مقام مناقشة سداد رأي جينيت من عدمه بخصوص استحالة الترجمة، لكننا نورد رأيه كي نلفت الانتباه إلى أن هذه النظرة المتدنية الظاهرة في كلام الناقد الفرنسي تجاه الترجمة الأدبية والتنكر لكل مجهود جمالي يبذله المترجم الأدبي، تشير بوضوح إلى بخْس الناس، خواصهم قبل عوامهم وعلمائهم قبل جهّالهم لفضل المترجم، وبالتالي عدم استيعابهم لطبيعة دور الترجمة في التفاعل والتثاقف والتعرف على الآداب الأجنبية والتلاقي مع الآخر البعيد والمختلف، وفي إنتاج نشوة القراءة. رغم خطورة هذا الدور، يكون المترجم، في الأعم الأغلب من الحالات، شخصاً منسياً، وقد لا يجد ناشرون ضيرا كبيرا عندما لا يظهر اسمه على صفحة الغلاف الأولى من الكتاب الذي ترجمه، حتى القانون الفرنسي، الذي تساوي بعض فقراته الخاصة بالملكية الفكرية المترجمَ الأدبي بكاتب النص الأصلي، وتمنحه صفة المؤلف وتعترف له، بالتالي، بحقوق ليست أقل من تلك التي للمؤلف الأصلي، يبدو هذا القانون، رغم كونه واحداً من أفضل القوانين وأكثرها إنصافاً للمترجم الأدبي، متراخيا إلى حد ما بخصوص إلزام الناشرين بذكر اسم المترجم على الصفحة الأولى لغلاف الكتاب الذي ترجمه، حاله في ذاك حال المؤلف، حيث أنه يكتفي بملاحظة «أن الأطراف المتعاقدة تتفق على أن اسم المترجم الظاهر في صفحة العنوان، يجب أن يُكتبَ بوضوح في الصفحة الأولى لغلاف الكتاب أو، إذا ما تعذر ذلك، أن يوضع على الصفحة الرابعة للغلاف». وهذا استدراك يتضمن غبناً وحيفاً بحق المترجم الأدبي، إذ أنه يعني أن بإمكان الناشر، إذا شاء، أن يدع، لأسباب تجارية، إسم المؤلف يحتل لوحده صفحة الغلاف الأولى مؤجلا، إلى الصفحة الأخيرة، الإعلان عن اسم المترجم، من دون أن يجد في ذلك غضاضة، بما أن القانون الخاص بهذه المسألة يحتوي على هامش من المرونة، لدرجة أنه يترك للناشر فسحة للمناورة تجنبه الوقوع في مخالفة قانونية.
مما سبق يمكن ملاحظة أن غموضا وتناقضا يكتنف وضع المترجم الأدبي، إذ أنه على الورق مبدع مستقل، إذا ما نظرنا إلى أحكام المواد الخاصة بهذا الموضوع من قانون الملكية الفكرية، أو بعض النصوص الرسمية ذات العلاقة. لكن الواقع العملي يقول خلاف ذلك، ففضلا عن تجاوز ذكر اسمه على الغلاف الأول للكتاب، وهو حق معنوي أصيل وليس منة من أحد، يعمد بعض ناشرينا العرب إلى دفع أجرٍ للمترجم لا يتناسب وحجم العمل والوقت الذي يكرسه لنقل نص إلى اللغة الهدف، يبذل المترجم المبدع كل ما بوسعه من أجل أن يجعل ذلك النص يحمل كل أو الكثير من ميزات النص الأصلي. وللتمثيل فقط نشير إلى أن دار المأمون، وهي المؤسسة الرسمية الوحيدة في العراق، التي تعنى بالترجمة والنشر، تمنح المترجم مبلغا متواضعا عن كل كتاب ينقله إلى اللغة العربية، وتمنح ربع ذلك المبلغ الزهيد أساساً إلى خبير الترجمة الذي يقوم بمراجعة الكتاب، ولا تخصص للمترجم حصة من أرباح بيع الكتاب الذي ترجمه. هذه الحال التي لا نعتقد أنها تشكل خصوصية عراقية، بل لعلها تمتد لتشمل واقع المترجمين الأدبيين في كل أقطارنا العربية، لها مردودات سلبية على واقع الترجمة في بلداننا، وقد تكون سبباً رئيساً في قلة ما يترجم عندنا من كتب، مقارنة بما يترجمه غيرنا من نتاجات أدبية تفوق أحيانا ما يكتبونه بلغاتهم الأم. هذه المنزلة التي يتمتع بها المترجم الأدبي في بلداننا العربية أدت إلى أن يكون المترجم، على المستوى الاجتماعي، غير قادر على الاعتماد على الترجمة من أجل كسب قوت يومه، عكس الحال في العديد من البلدان الغربية وغيرها، التي تمنح المترجمين اعترافا ماديا واعتباريا يليق بهم. ففي ألمانيا، مثلا، يستلم المترجمون عموما حقوقا لا بأس بها من مبيعات الأعمال التي يترجمونها، إضافة إلى أجور الترجمة التي هي عالية أساساً، وفي فرنسا يتقاضى المترجمون الأدبيون أجوراً أفضل من تلك التي يتقاضاها زملاؤهم الأنكلوسكسونيون. في فرنسا وألمانيا واليابان وأماكن أخرى، رغم أنه يعيش، عموما، تحت ظل المؤلف، فإن المترجم الأدبي، مستقلا كان أم تابعا لإدارة معينة، يستطيع تحت هذا العنوان أن يجني أرباحا تمكنه من عيش حياة ميسورة.
تأسيسا على ما تقدم، نجد من الضرورة بمكان إعادة النظر بمكانة المترجم الأدبي، ولا يكون ذلك إلا عن طريق الاعتراف، أولا، بأن المترجم الأدبي مبدع فني لا يقل إبداعا عن صاحب النص الأصلي. إذا كان النص المكتوب بلغة أجنبية يدين بوجوده الأول إلى مؤلفه، فإنه يدين بديمومته إلى مترجمه، ذلك أن الترجمة تمنح النص حياة أطول وقابلية أكبر على البقاء والاستمرار. إن الترجمة في حقيقتها هي عملية إعادة إنتاج وتحويل وتوليد لنص جديد يحل محل النص الأصلي الذي عليه، إن شاء البقاء لمدة أطول، أن يكون قابلا للترجمة. أن هذه المسائل وغيرها من الأكثر بداهة من تلك المتعلقة بالحقوق الاعتبارية والقانونية للمترجم الأدبي، التي يجب ألا تقل عن تلك التي يقر بها القانون لمؤلف النص الأصلي، ما زالت من دون معالجة جذرية في بلداننا العربية، والسبب في ذلك يعود، ولو بشكل جزئي، إلى الغياب شبه المطلق لمؤسسات مستقلة ومهنية تدافع عن الترجمة والمترجمين. وما دام الحال كذلك، يجب أن نأخذ على عاتقنا، كمترجمين، مهمة النضال من أجل أن يشمل قانون الملكية الفكرية الترجمات. يجب أن يفهم النقاد الأدبيون وغيرهم وكذلك الجمهور أن للمترجم الحق وليس فقط الامتياز بأن يربط اسمه بالكتاب الذي ترجمه أو راجعه. يجب ألا يكتفي المترجمون الأدبيون بأن تظهر اسماؤهم على صفحة العنوان، أو حتى على الغلاف بل أن يكون لهم حق ليس أقل من حق المؤلف في إعادة النشر والتوزيع. إن هذه المنزلة، لو تم العمل بجد وإخلاص على تحقيقها، ستضمن للمشتغلين بحقل الترجمة الأدبية حقوقاً معنوية ومادية لا يستهان بها تساهم حتما في رفع مستوياتهم المعاشية مما سينعكس، بالضرورة، على أدائهم المهني وتقوي من رغبتهم في الإنتاج والإبداع فهم، في نهاية المطاف، بشر اعتياديون يهمهم تحسين وضعهم المادي وتأمين متطلباتهم الحياتية بطريقة تحفظ كرامتهم وتجنبهم شظف العيش.
كاتب عراقي
القدس العربي