صفحات المستقبل

المتظاهر مفقود والشبّيح مولود


لينا صالح

دموعها لم تجف منذ أن غاب قسراً، تأبى الجلوس إلا عندما يهدها التعب من اللف والدوران في غرف المنزل. يخال المرء أنها في حالة بحث مستمرة عن شيء أضاعته في إحدى زوايا البيت – المأوى الذي لجأت إليه في لبنان مع زوجها واولادها الأربعة هرباً من البطش والظلم والقتل.

ما “سلخ” من أحضان أمل ليس موجوداً في زوايا المنزل ولم تعرف مكانه حتى الآن، تركته في سوريا ولم تسمع عنه خبراً منذ ان اعتقله أمن الدولة من منزلها في الصليبة – اللاذقية، للإشتباه بأنه خرج بمظاهرة سلمية تندد بنظام بشار الأسد وشبيحته، وهنا لا بد من التشديد على كلمتي “اشتباه” و”سلمية”.

جهاد شاب في الخامسة والعشرين من عمره، كل ذنبه أنه يحلم بنظام ديموقراطي، له أصدقاء تظاهروا ضد الظلم وله أب مدّ ثوار بانياس وأهلها بالمؤونة بعد أن فرغوا من آخر كسرة خبز وقطرة ماء.

إبن أمل إبن البحر عمل في بوابيره وصادق أمواجه، لكن الأم لم تألف مدّه وجزره، لم تكن تنتظر أن تعاقبها الحياة بهذا الكم من الظلم والخوف. فكان 28 أيلول تاريخ اعتقال جهاد يوماً ظالماً، وأصبحت حياتها من بعد هذا التاريخ مليئة بالذعر والرعب.

خافت الأم على أولادها الأربعة الآخرين، فمن يأمنهم من “كتائب الأسد”؟ ومن يحمي ابنتيها من الاغتصاب ويمنع اعتقال إبنيها؟ الا يكفي اعتقال ولد واحد؟ ألم تكشف شاشات التلفزيون ومواقع الإنترنت ما يحدث في سوريا من بطش وضرب واغتصاب ونحر واقتلاع حناجر؟.

هي لا تفقه شيئاً في السياسة، لا يعنيها سقوط النظام أو بقاؤه، لا تعرف الفرق بين حكم “البعث” أو حكم ديموقراطي. تهتم بتربية أولادها، تحلم بتزويج إبنتيها، تتمنى أن يجد أبناؤها عملاً، وجل ما تطمح إليه السترة وراحة البال.

تعود بالذاكرة الى طفولة جهاد، هو الأقرب لها من كل أولادها، تحن لتلك الفترة عندما كان صغيرا، تتذكر شقاوته، فكاهته، واحتياله للوصول الى مبتغاه. يختبئ تحت السرير أو على غصن شجرة الحور للهروب من الإستحمام، أو يرمي قطع اللحم في صحنه للهرة خوفاً من أن تجبره أمه على أكلها.

كان دائماً يضرب إخوته ويجهش بالبكاء ليحمي نفسه من “الأتلة” والمضحك أن خطته كانت تنجح دائماً. كان يهددهم باستخدام هذه الخدعة لأخذ مصروفهم أو ألعابهم، وكان يعتمد على حبها الزائد له. فأمل كانت تصدّق جهاد دوناً عن إخوته، ولو قال لها اللبن أسود.. واليوم حملت حقيبة ذكرياتها معها الى لبنان وتركت قلبها في سوريا حيث هو مفقود هناك.

يشاهد أحد أولادها موقع “يوتيوب” حيث تعرض لقطات لكتائب الأسد تنهال بالضرب على المتظاهرين في الشارع. الفوضى عارمة والعصي تكسّر أضلعهم ورؤوسهم، منهم من يجر على الأرض كالذبيحة، ومنهم من يركل، يسقط على الأرض فيركل أكثر.

تشاهد اللقطات، فتفكر كم ضربة عصا يضرب جهاد في اليوم، وكم ركلة يركل.. غريبة غريزة الأمومة ترفض الأكل خوفاً من أن يكون إبنها جائعاً وهي “شبعانة”، ترفض الجلوس لعل إبنها تعِبٌ وهي مرتاحة، ترفض النوم خوفاً من أن يغمض جفنها وإبنها في يقظة الأوجاع..

لا تملك سوى أضعف الإيمان الدعاء، تستجدي الله أن يفك أسره، تدعو له أن تسكن أوجاعه تكرر دوماً آية “يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم”، فقد قال لها أحدهم ان هذه الآية تخفف من آلام الضرب الذي ينهال عليه، كما خففت آلام النار عن النبي ابراهيم.

أمل الغريقة التي تتعلق بقشة، نسيت أن زمن المعجزات انتهى مع الرسل والأنبياء. نار كتائب الأسد ليست برداً وسلاماً على أجساد المعتقلين، ضربهم موجع وبطشهم وتعذيبهم ينهال عليهم حمماً، يؤلمهم ويحرقهم.

ليس بيد هذه الأم أن تقوم بأي شيء فالموقوف من قبل أمن الدولة لا يحق له حتى ان يوكل محامي يدافع عنه. ليس بيدها أي شيء إلا الانتظار ثم الانتظار. فإما ان يطلقوا سراحه وهذا من سابع المستحيلات، وإما ان يصلها خبر موته وهذا الاحتمال الأكبر.

مرّ على وجودها وعائلتها في لبنان ثلاثة أشهر، ولا تفكر في العودة الى سوريا قبل انتهاء الثورة، لا يعنيها كيف تنتهي أببقاء الأسد أم برحيله، لكنها حتماً لن تعود لتقدم المزيد من أولادها على طبق من فضة للقاتل.

زوجها عاد الى سوريا لرؤية براعم الثورة تزهر، وتركها مع الاولاد لدى أحد الأقارب، فهو أيضاً اكتفى بالتضحية بإبن واحد وبنفسه. هو يعلم ان ما حصل معه ومع عائلته ليس الأسوأ، فالكثيرون من الثوار قتلوا حتى النساء والاولاد قتلوا، وربما جهاد ما زال حياً.

حتماً ليست هذه القصة الأسوأ على الإطلاق، هي مشهد من مسلسل الظلم اليومي الذي يتكرر مطيحاً الجميع، هي أبسط نماذج الديكتاتورية. لا يدري أحد من سيكتب النهاية النظام أم الثوار، لكن المؤكد ان آلاف الأمهات يبكين وآلاف الثوار والأبرياء يُقتلون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى