صفحات العالم

المثال السوري


    إبرهيم الراعي

منذ بداية الحرب الاهلية في لبنان، كان المندوب السامي السوري يأتي الى بيروت، أحياناً بقميص وزير الخارجية السيئ الذكر عبد الحليم خدام، وأحياناً بقيمص ضابط مخابرات، ليجتمع برئيس الجمهورية اللبنانية ويملي عليه النصائح لإنهاء الحرب. كان الممثل السوري يأتي ليعطي الرئيس الماروني دروساً في المواطنة والعلمانية وحقوق الانسان، طالباً منه الضغط على مجموعته المارونية “المتصلبة” لقبول التنازل عن بعض امتيازاتها في سبيل توزيع أكثر عدالة للسلطة. كان الموارنة في ذلك الوقت، بالرغم من كونهم أحد المكوّنات الرئيسية والمؤسسة للكيان، قد تراجعوا من مرتبة الطائفة الأكثر عدداً الى طائفة تشكل حوالى 25 في المئة فقط من السكان، في ظل نمو شيعي وسني وضعها في المرتبة الثالثة. لكن الـ 25 في المئة آنذاك، إضافة الى رمزية هذه الطائفة التي لم تشفع بها كثيراً، تبقيان أفضل بكثير، بالمقارنة مع حال الطائفة العلوية الكريمة في سوريا، التي لم تلعب دوراً بالاهمية ذاتها في تكوين الدولة السورية، ولا هي كانت تشكل أكثر من 15 في المئة من عدد السكان تاريخياً. لكن هذا لم يمنع الاسد الأب من تبوؤ السلطة بشكل مستمر لحوالى ثلاثة عقود، ومن اختيار ابنه الميمون بشكل “اشتراكي – وراثي” ليتبوأ الحكم من بعده. هذه الحقيقة، لم تمنع الرئيس السوري الحالي، المنفتح على أفكار “عصر الانوار” في دولة البعث الحضارية، من التقدم بمشروع إصلاحي لا يلحظ تنازله عن الحكم إلا في أمد بعيد. لربما نسي الرئيس الشاب، أو هو في سن صغيرة، ليتذكر نصائح والده ومندوبيه الى ممثلي الطائفة المارونية في لبنان الشقيق. ربما يقتضي الامر أن يتوجه الرئيس أمين الجميل، وهو حي يرزق، الى دمشق اليوم، ليعطي نصائح مماثلة للرئيس الشاب بوجوب التخلي عن النظام الاحادي وإعادة الحياة السياسية الى وطن استعملت فيه الايديولوجيا البعثية لترويضه واستئصال الحياة منه، كما يستأصل طبيب الاسنان العصب من الضرس المريضة.

على سيرة العصب، لا بد أن نتذكر هنا مهرجان “التيار الوطني الحر” الذي أتى في هذه المرحلة الدقيقة “ليشد العصب”، كما قال زعيمه، في ذكرى مزدوجة الشؤم، 7 ايار: ذكرى عودة الجنرال من المنفى لإعادة شرذمة المسيحيين وتضليلهم، وذكرى استعمال سلاح “المقاومة” في الداخل كسلاح فئوي أدى الى عمليات قتل لم تتم محاسبة أحد من مجرميها، خلافاً لإتفاق الطائف الذي قضى بإعادة فتح ملفات كل زعيم سياسي (كما حصل مع سمير جعجع) في حال إخلاله بـ “السلم الاهلي” بعد انتهاء الحرب. لكن ما هو حلال في حق “القوات اللبنانية” لمجرد الاشتباه، وقبل صدور الحكم في قضية تفجير كنيسة سيدة النجاة، هو حرام وممنوع التداول فيه، في حالة “حزب الله”. فالحزب هو “إلهي”، لذلك يتعذر على أي مرجعية قضائية الاقتراب منه. أما في ذكرى عودة الجنرال، فلا بد من التوقف عند أمر لافت ومثير للدهشة. لقد أطل الجنرال ليمجد النظام السوري في ذكرى عودته من المنفى الذي نفاه اليه هذا النظام ذاته! أطل أمام المحتشدين من أنصاره ليعطي شهادة عليا بالديموقراطية لنظام قتل أبناءه وقتل بعض أقرباء من كانوا يصفقون للجنرال في الحفلة المسرحية هذه. لعل اختيار مسرح في جونيه تقام فيه الحفلات الموسيقية والمسرحية لم يكن من باب المصادفة، في زمن تحولت فيه السياسة مسرحية ذات مستوى متدنّ.

ماذا كان شعور بعض هؤلاء الانصار من قدامى الجيش اللبناني أو عائلاتهم في الوقت الذي كان الجنرال يقدم براءة الذمة هذه مجاناً للنظام السوري الذي قتل أبناءهم في ضهر الوحش وجسر الباشا والحازمية وقصر بعبدا!؟ هل كانوا يصفقون وعلى وجوههم ملامح البهجة والرضا التي ظهرت على ثغور بعض النواب الحاضرين؟ وإذا كان الجنرال لم ينس كما أشار، وإن غفر نسبياً، جرائم وليد جنبلاط في حرب الجبل وسرقته أجراس الكنائس، فكيف يمكنه أن ينسى رحلة الذل هذه، “دركبة” من بعبدا الى السفارة الفرنسية، وإن كان قد اقنع نفسه وأزلامه منذ زمن بأن رحلة “الهرب” هذه لم تكن مثل هرب قبطان السفينة الذي وعد هو بأن يكون “آخر من يغادرها”، وإنما بناء على دعوة رسمية من السفير الفرنسي لتناول الوجبة الصباحية (مع كرواسان طازة) في السفارة؟ هكذا، وعلى غفلة من الزمن، اضطر الجنرال الى البقاء عند ضيفه، ومن ثم الهجرة الى فرنسا، التي لم تعد تمثل، هي وأميركا، النموذج الصالح للديموقراطية، بالمقارنة مع النموذج السوري المثالي.

نعم، فرنسا هذه، المملة بحملتها الانتخابية كما أظهرت الاسابيع الماضية، حيث المواجهة بين المرشحين الى الرئاسة لم تخرج عبارة نابية واحدة من “الزنار وبالنازل”، اصبحت دولة غير صديقة، ونموذجاً لا يحتذى به، مقارنةً بالنموذج السوري المثالي، بحيث لم تخل كلمة الجنرال من انتقاد للدولة التي آوته وأمّنت له الملاذ حين كانت الدبابات السورية تنفذ عملية بسط الديموقراطية البعثية على لبنان وتجرف في طريقها “لبنان الكرامة والشعب العنيد”.

أصبحت سوريا، بالنسبة الى الجنرال، من أفضل الديموقراطيات في المنطقة، مقارنةً بالطبع مع السعودية والبلدان الخليجية حيث يرتزق ويعيش ألوف اللبنانيين. إذ إن المواطن في سوريا يستطيع “اختيار طريقة عيشه”، كما قال. هنا أصاب الجنرال، وكان فعلاً على حق. في سوريا، يستطيع المواطن اختيار السجن الذي يريد، وطريقة التعذيب التي يفضل، وطريقة العيش، كما الموت. يمكنه اختيار “البالانكو” أو الحرق بالمازوت أو الكاز. يمكنه الاختيار بين أن يكون عضواً في الحزب الوحيد الحاكم أو أن يكون غير موجود ككائن سياسي. يمكنه أن يختار أيضاً بين أن يكون مشرداً يعمل في ورش البناء في بيروت، أو بائعاً متسوّلاً على مداخل بيروت العديدة. نعم، هذا هو النموذج الذي ربما كان يشتهي الجنرال تطبيقه في لبنان العصيّ على الفكر العسكري التوحيدي. لهذا السبب يعبّر عن كل هذه الحرقة، وعن كل هذه الخيبات والمرارات!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى