المثقف في زمن “الأحقاد”: ألبير كامو نموذجاً
وهـيـب مـعـلـوف
عندما توفّي ألبير كامو إثر حادث سيارة في فرنسا في كانون الثاني 1960 عن عمر 46 عاماً، رثاه الناس كروائي ومثقّف عام في جميع أنحاء العالم. وكان حصل على جائزة نوبل للآداب قبل ذلك بسنوات، بعدما جعلت منه روايته الأولى “الغريب” شخصية مشهورة.
وُلد كامو في الجزائر عام 1913 لعائلة فرنسية فقيرة استقرّت في المستعمرة لأجيال خلت. وبالرغم من أنه لم يعش أبداً في الجزائر بعد عام 1942، إلا أنه عاد إلى هناك باستمرار لزيارة عائلته، وأبقى على صداقات حميمة مع أصدقاء الطفولة وعلاقات ودّية مع عدد من المثقفين العرب.
بقي كامو، الذي اعتبر نفسه جزائرياً، لسنوات، يوجّه انتقاداته القوية للسياسة الإستعمارية الفرنسية في الجزائر، وأُجبر على ترك البلاد في 1940 بعدما أغلقت السلطات الصحيفة التي نَشر فيها مقالاته الأكثر جرأة وأهمية. لكنه كان متألماً وحزيناً جداً عند اندلاع حرب الاستقلال الجزائرية عام 1954، حيث كان نحو مليون مواطن فرنسي يعيشون في الجزائر، و75 بالمئة منهم مولودون فيها.
كان كامو دعا مع مثقفين آخرين من ذوي الميول اليسارية، الى إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية في الجزائر. كما أنه دعم في الاربعينيات من القرن الماضي القائد الجزائري فرحات عباس الذي دعا الى تمثيل سياسي لمسلمي الجزائر عبر الاتحاد مع فرنسا. ولكن مع رفض حتى هذه الاقتراحات المتواضعة من قبل المستوطنين الفرنسيين المتطرفين والحكومة الفرنسية، انتقل مركز القوة والاستقطاب ضمن الجزائريين الى الحركة الاستقلالية التي خَلصت الى ان العنف وحده يمكن ان يفرض التنازلات على الفرنسيين. وفي خضم الحرب الدموية التي بدأت واستمرت ثماني سنوات – عزّز خلالها الإرهاب والقمع الوحشي (من ضمنه تعذيب الجيش الفرنسي للمقاتلين الجزائريين) بعضهما البعض في حلقة مفرغة ومميتة – كان كامو عالقاً في الوسط: انطلاقاً من إيمانه العميق بالعدالة غير المشروطة للجميع، دعم التطلّعات الجزائرية لإقرار الحقوق السياسية، إلا انه لم يستطع التخلي عن حبه للجزائر وانتمائه لها. والأهم انه شعر بالغضب والرعب حيال عمليات القتل والمجازر التي ارتكبها طرفا الصراع.
في هذا الصدد، كتب كامو في 1955 نصاً بعنوان “رسالة الى مقاتل جزائري” دان فيه بشدة مجزرة ارتكبها الجيش الفرنسي بحق آلاف الجزائريين: “أنت وأنا، نحن الذين نتشابه جداً، الذين نتشارك الثقافة ذاتها والآمال ذاتها، الذين كنا إخواناً لفترة طويلة… نعرف بأننا لسنا أعداء”. إلا ان هذا النفحة التفاؤلية عند كامو سرعان ما يتبعها أخرى تشاؤمية: “قول هذه الأشياء اليوم هو… كالتبشير بحماقة الحرب فيما الرصاص يتطاير”.
اتخذ كامو موقفاً قاطعاً في رفض العنف، حتى عندما يمارس باسم المبادئ العليا، إذ إن “الإرهاب والتعذيب يدمّران الأهداف ذاتها التي يجب ان يخدماها”. وانتُقد موقفه هذا على أنه “مثالي”، وكان السبب في خلافه وقطيعته الشهيرة مع الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر الذي نظّر للعنف والإرهاب لتحقيق الأهداف السياسية.
لكن كامو أصرّ على موقفه: “بالرغم من أنه صحيح تاريخياً أن القيم مثل الامة والإنسانية لا يمكنها البقاء، إلا إذا قاتل المرء من أجلها، إلا أن القتال وحده لا يمكنه أن يبرّرها (ولا القوة). على القتال أن يُبرر ويُشرح انطلاقاً من القيم”.
وجاءت الحرب الأهلية الدمويّة في الجزائر في التسعينيات من القرن الماضي لتعيد الإعتبار لموقف كامو الرافض للعنف ونبوءته لمستقبل بلد ولد من رحم الإرهاب والحرب الأهلية، إذ كتب في 1955: “غداً ستكون الجزائر أرضاً للخراب والجثث ولن تسطيع اي قوة أو سلطة احياءها في قرننا الحالي”.
وعن مسؤولية المثقفين في أوقات الكراهية والأحقاد كتب كامو، انطلاقاً من إيمانه الكبير ككاتب بالقوة المهدّئة للغة المستخدمة بعناية
وبالمنطق: “إنها شرح معنى الكلمات بطريقة توعّي العقول وتهدئ العصبيّات”.
فمن يذكر اليوم كتابات ألبير كامو؟ بالنسبة لكثيرين، قد تبدو هذه الآن بمثابة “تبشير بحماقة الحرب فيما الرصاص يتطاير” من حولنا. إلا أن مواقف كامو الأخلاقية لا تزال ذات معنى كبير وتكتسب راهنية خاصة اليوم في خضم انفلات العصبيّات والأحقاد الطائفية والمذهبية في المنطقة العربية وهيمنة مثقفين لا يجيدون سوى تبرير العنف والحرب والإرهاب بإسم المبادئ العليا والمقدّسة. وكأنّي بألبير كامو يقول عن واقع الحال في سوريا اليوم: “غداً ستكون سوريا أرضاً للخراب والجثث ولن تستطيع أي قوة أو سلطة إحياءها في القرن الحادي والعشرين”.
موقع لبنان ناو