إيلي عبدوصفحات المستقبل

المجتمع المدني السوري بوصفه مُتخيلاً أسدياً / إيلي عبدو

 

تُحيل البرامج والخطط التي تطرحها منظمات المجتمع المدني السورية خلال ورشها ومؤتمراتها إلى الصورة المتخيلة التي يحلم كل مواطن سوري بأن تستقر بلاده عليها. فالحكم الصالح والتنمية واعتماد حقوق الإنسان وتطبيق آليات الديموقراطية وضمانة مشاركة المرأة، مفاهيم جذابة تحظى بإجماع الشرائح العظمى من السوريين. لكن المفارقة أن ذلك المتخيل يتناقض مع جوهره الذي يتمحور حول تدريب المواطن على تطبيق مفاهيم مدنية تكفل له حريته. ولعل الوصفات الجاهزة التي يجري اتباعها من جانب هذه المنظمات من دون الانتباه لطبيعة الصراع السوري القائم وتعقيداته، تكشف بدرجة ما طبيعة هذا التناقض.

فمعظم البرامج التي تُطرح في أنشطة المنظمات المدنية تتعامل مع نتائج الصراع وليس مع جذوره، لتكرس بذلك الأوضاع السابقة التي انتفض السوريون بهدف تغييرها. فالطروحات التي تتحدث عن حقوق الإنسان وكيفية ممارستها لا تشترط إسقاط النظام الذي تفنن في انتهاك هذه الحقوق أربعين عاماً ووصل إلى الذروة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بل على العكس تتعامل معه بوصفه طرفاً وجب إشراكه. وكذلك الأمر بالنسبة للديموقراطية والحكومة وغيرها من المفاهيم المدنية.

ما يعني أن صناعة المتخيل المدني ترتد تلقائياً إلى الماضي الأسدي بمجرد أن يتعاطى الصناع مع الصراع بآليات تقنية تتوسل التعميم لتوصيف ما يجري، من دون التوقف للبحث في المسببات الجذرية. والتقنية ليست سوى كلمة السر التي تصل بين الماضي الأسدي والمتخيل المدني. فالسوريون لم يدفعوا أكلاف النزوح والتهجير والتدمير والقتل إلا لكي يتمتعوا بالحقوق التي تتحدث عنها منظمات المجتمع المدني. لكن الأخيرة تقدم آليات وبرامج وخططاً للتطبيق، الأمر الذي يسهّل الخلط بين القاتل والقتيل ويفتح المجال لإشراك النظام بإنقاذ ما يساهم في صنعه.

وإذا كان الخطأ الأول لمنظمات المجتمع المدني يتمثل في تبرئة النظام من جرائمه وتحويله إلى طرف وجب العمل على إعداده حقوقياً، فالخطأ الثاني هو الاحتيال على الصورة التي أرادها السوريون لبلادهم انطلاقاً من ثورتهم ضد الاستبداد. فقد ثار هؤلاء لأنهم صنعوا مُتخيلهم الخاص المهجوس باستعادة الحقوق المسلوبة من ديموقراطية وحقوق إنسان وتداول سلطة ومشاريع تنمية، لتأتي هذه المنظمات وتصنع متخيلاً مضاداً يكتفي بالآليات التقنية لتطبيق هذه الحقوق من دون البحث في شروطها السياسية.

ولا بد من أن نتذكر أن النظام السوري نفسه كان يهتم بالمجتمع المدني، وقد عمل الكثير من المنظمات في كنفه. تدرب الناس على ممارسة حقوق الإنسان فيما أصوات التعذيب تصدح في أروقة المعتقلات، وكانت تقام ورش حول الديموقراطية وآليات الحوكمة في بلد يعدّل دستوره بأقل من ربع ساعة ليناسب قياسات الوريث الجديد. هذا إن تجاوزنا عقيلة الديكتاتور أسماء الأسد التي أسست شبكة من المنظمات لتجمّل بعض ممارسات زوجها. وهو ما يؤكد أن نشاط منظمات المجتمع المدني لا يستوي مع وجود الديكتاتورية، إلا لكي يبررها ويلمع صورتها القبيحة.

أما لحظة اندلاع الثورة، فكان على هذه المنظمات أن تكون جزءاً منها بوصفها صلة الوصل التقنية بين مُتخيل الثائرين والواقع، لا ذريعة لخلق متخيل مضاد.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى