صفحات العالم

المجلس الوطني بين المستحيل والمستحيل


عبدالعزيز حسين الصاوي *

يبدو التدخل الإقليمي والدولي العسكري غير وارد في سورية بسبب الحماية الروسية – الصينية للنظام، فضلاً عن تأثير اختلاف الدوافع والظروف الليبية عن السورية في ما يتعلق بمحددات موقف أوروبا وأميركا. لا مخرج إذن إلا بالمواجهة العسكرية بكل ما يملك السوريون عسكريين ومدنيين من أسلحة، وما يمكن توفيره من أي مصادر أخرى، مع القدر الممكن من الضبط السياسي، وهو ضئيل كما يفصح عنه موقف المجلس الوطني.

هنا، في ما يبدو، يحتدم الخلاف بين أغلبية تحاول اجتراح توازن بين الاستجابة لمطلب التصعيد العسكري وعقلنته سياسياً، ومجموعة حسمت خيارها مع الشق الأول للمعادلة (المالح-اللبواني) وغض النظر عن النتائج الآنية والمستقبلية. المجلس لا يستطيع التحرك تحت سقف مطلب الإسقاط الناجز والكامل للنظام بالقوة حتى لو افترضنا جدلاً ان الأخير مستعد لذلك، وإلا فقد صلته بالمقاومين في الداخل. هؤلاء انخرطوا في معركة كسر عظم مع النظام شعارها «كل شيء او لا شيء»، دفع بهم إليها انفجار مخزون الظلم المتراكم عقوداً من الزمان بشرارة بوعزيزية، في وجه عنف يتعاظم أفقياً وعمودياً كل ساعة، ولا يستطيع المجلس الوطني مجاراتهم خطوة تصعيد عنفي بخطوة، بما ينسف جسوره مع أطراف عربية وإقليمية ودولية تراهن كلية على سيناريو يضطر فيه النظام للقبول بمخرج (يمني) تحت وطأة الضغوط الاقتصادية والسياسية والتصدعات المترتبة عليها في الحلقات الرئيسية خارج الأسرة الأسدية.

ولكن ليس هذا هو القيد الوحيد على حرية المجلس في التحرك تحت السقف المفروض على الانتفاضة السورية، إذ يرجح ان بعض مكوناته المنتمية فكرياً ومزاجياً الى الطيف العلماني والليبرالي تشكل مصدر قيد طوعي، معززاً ببعض اوساط الأقليات غير العربية و/أو غير المسلمة. هذه تخشى من تصّدر الإسلاميين المشهد الانتخابي، وتالياً السلطوي، لمرحلة مابعد البعث – الأسد في وقت لا زال فيه أقرانهم التونسيون والمصريون يخوضون اختبارات التوفيق بين الإسلام الأيديولوجي وإسلام البناء ديموقراطياً وتنموياً من دون نجاح ظاهر: أإسلام تركي وماليزي وإندونيسي أم سوداني وإيراني؟

وما يعمق هذه الخشية قاعدة تقول بعلاقة طردية بين ازدياد حدة العنف، وهوالفارق بين النموذج السوري والنموذجين الآخرين ومعهما الليبي واليمني، وارتفاع نفوذ مكون الإسلام الأيديولوجي، وذلك وفقاً لتحليل هذا المقال الصادر عن الخارج السوري المضاعف، أي عن غير معرفة تتغذى بخبرة العيش داخل سورية أو حتى بخبرة الانتماء المواطني اليها، ما يعرض صاحبها لسوء التقدير مهما بلغت الرغبة الذاتية في التماهي مع الحالة السورية.

نظام البعد الواحد الشمولي المزمن ينمي ظاهرة متناقضة، فهو يرفع ويعمم مستوى رفضه لدى المحكومين، وبنفس الدرجة مستوى العجز عن إلغاء إمكانية استنساخه من قبل أطراف منتمية الى نفس الأوساط التي أنجزت إسقاطه بل ربما أقواها. فهو إذ يغلق فضاءات تواصل وتراكم أفكار وتجارب وإبداعات صنع الحياة وتطويرها محلياً، وفي التفاعل مع نظيراتها عالمياً، يشل محركات وعقليات الرفض الإيجابي المنتج لنقيضه الديموقراطي مستقبلاً، فيحل محله بالضرورة رفض سلبي مرشح لإعادة إنتاج جوهر النظام السابق.

سيرة حياة سيد قطب من مشروع ناقد طليعي الى مفكر تخريب العقل المسلم تجسيد لانقطاع خبرة إعادة استزراع الإسلام في العصر الحديث كما ابتدرها نهضويو المرحلة الواقعة بين القرنين التاسع عشر والعشرين، تحت تأثير هذه النوعية من الأنظمة التي هيأت أيضاً مناخاً لم يحتمل وجود نصر أبو زيد بين ظهراني أهله ونصب المشنقة للمفكر الديني السوداني محمود محمد طه.

إلى ذلك فنظام البعد الواحد يهيئ شروط إنتاج نوعية الفرد – القطيع مولوداً من الرحم المتصحر بانعدام ما لا يتغذى عليه عقلاً وروحاً سوى الموروث الديني والمجتمعي الراكد قروناً، فيتخذ منه مادة رفضه للنظام. رفض غير صدامي في المرحلة الأولى تتخذ فيه المقاومة شكل انسحاب الفرد إلى أقصى أركان القوقعة الطائفية أو القومية أو الدينية التي ولد فيها، مكتسباً بذلك قابلية للمواجهة الصدامية عندما تندلع، قابلية بطولية لأنها شبه غريزية كونها دفاعاً عن الأب والأم المشخصين وليس عن الوطن المجرد.

مع انحسار وزن مواقع الرفض المستنير في الصراع مع النظام السوري الممعن في تطبيق حله الأمني دون هوادة، يزداد وزن مكون العنف المنفلت من العقلانية والتعاطي السياسي في الطرف المقابل. في مبتدئه وأصله وتواصله، هذا العنف منبثق من الطبيعة التسلطية للنظام ووسائله المفضية للبربرية في تعامله مع أي معارضة جدية، ولكن أحد العوامل المساعدة في تصاعده، هو وجود قابلية العنف المضاد لدى الضحية المقاتلة دفاعاً عن النفس، كما عاشتها وتقولبت فيها طوال عقود من العزلة عن الآخر، العَلوي والكردي وغير المسلم في الحالة السورية، موبوءة بالجهل والشكوك كبذرة للحرب الأهلية. هكذا بمرور واحتدام معركة «كل شيء أو لاشيء» من قبل الطرفين، وهي تدخل عامها الثاني، تتجمع لدى المكون الليبرالي العلماني في المجلس الوطني، وبعض الأوساط غير المسلمة وغير العربية، عوامل الخشية من البديل فتجعل منه وزناً مضافاً الى الحسابات الدولية الإقليمية والتكوين الاستشهادي لمقاومي الداخل في تعقيد مهمة المجلس الوطني.

*كاتب سوداني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى