“المرأة ذات الشعر الأحمر” لأورهان باموك: الحفر لاستخراج الأب/ نزار آغري
حاز أورهان باموك جائزة نوبل 2006. لكن هذا لم يدفعه لأن يرتاح وينام في عسلها. بل لعله كتب أفضل رواياته بعد نيله الجائزة. روايته الأخيرة، “المرأة ذات الشعر الأحمر”، وهي روايته العاشرة، إحداها. وهي، على غير العادة، قليلة الصفحات مقارنة برواياته السابقة، لكنها ليست أقل عمقاً وكثافة وغنى. هي لا تختلف، أيضاً، من حيث الثوب الفني الذي يصر باموك على إلباس رواياته، كلها تقريباً، سوى أنه أقصر ومن دون عناوين فرعية.
الرواي جيم، المهندس المعماري الناجح والمتألق، يعود بذاكرته إلى الماضي، إلى طفولته، في ثمانينات القرن الماضي. كان والده صيدلانياً ناجحاً، وكانت حياته هانية في كنف أسرة ميسورة. لكن الوالد يرحل فجأة، من دون سابق إنذار، تاركأً إياه ووالدته في محنة. لا معيل، لا دخل، لا حنان أب. حرمان مادي وروحي هبط فجأة مثا صاعقة.
يضطر إلى العمل كمساعد لحفار آبار، المعلم محمود، في اسطنبول. عمله مع الحفار يتيح له أن يجمع ما يكفي من المال ليلتحق بالجامعة، وهو في الأثناء لا يكف عن القراءة والحلم بأن يصبح كاتباً. هكذا تصطبغ أيامه بالحفر. حفر الآبار وحفر الماضي وحفر الكتب بحثاً عن المعاني والأفكار، وطبعاً حفر الذاكرة بحثاً عن تفسير لرحيل الأب وغيابه. دأبه هو هذا: الحفر، التقصي، الكشف عن الأعماق.
كان المعلم محمود حفاراً ماهراً، يكفي أن يدق الأرض بقدميه ليعرف العمق الذي سيجد عنده الماء. ويصدف أنه، مثل الراوي، مغرم بالحكايات والأساطير. هكذا يساهم الحفار نفسه في مد خزينة جيم بتحف الأوّلين وسيرهم ومآثرهم وصنيعهم. يروي له قصة الملك الإغريقي أوديب، الذي يقتل أباه ويعاقبه القدر بأن يتزوج أمه فيقلع عينه. يروي له قصة رستم وزهراب، التي روتها “الشاهنامة”، ويقتل فيها الأب ابنه.
عاش رستم في سيستان في بلاد فارس، وكان بطلاً محبوباً من الملك كياووش.
ذات مرة فقد حصانه، وراح يبحث عنه، فدخل أرض سمنغان، حيث حل ضيفاً على ملكها. هناك التقى بالأميرة تهمينة التي عشقته. في الليل تدخل غرفته، وتطلب منه أن ينام معها، لكي تنجب منه مولوداً، وفي مقابل ذلك ستعيد إليه حصانه، فيفعل. وقبل أن يغادر، يعطيها شيئين: إن كان المولود بنتاً جوهرة تعقدها مع جديلتها، وإن كان صبياً عقداً تربطه بذراعه. بعد تسعة اشهر ننجبت ولداً سمّته زهراب. مرّت سنوات، ونشبت حرب بين فارس وبلاد طوران. في المعركة، قاد زهراب الجيش الفارسي ولا أحد استطاع أن يغلبه. كان زهراب قد ذاع صيته كبطل مغوار يتم الاستنجاد به. خاض الرجلان مبارزة عنيفة وضارية وطويلة. وحين شعر رستم أن التعب بدأ ينال منه، وحفاظاً على سمعته، طعن زهراب في القلب. في تلك اللحظة، رأى العقد الذي كان قد أعطاه إلى تهمينة كي تربطه بذراعه. تصل تهمينة إلى أرض المبارزة كي توقف الصراع بينهما، لكنها وصلت متأخرة، لتجد زهراب مقتولاً على صدر أبيه رستم.
هكذا، ندخل في متاهة من الحكايات والأساطير والقصص، متداخلة، متشعبة، تلتف حول بعضها البعض مثل شجيرات عميقة الجذور في دغل كثيف.
ككل روايات باموك، الحكاية الأولية، صاحبة الحبكة الأصلية، ليست سوى ذريعة للنفاذ إلى ما بعدها، لإيصال ما في دخيلة الكاتب من أفكار وأحكام وتقييم لوقائع الزمان ومسارات التاريخ، ماضيه وحاضره. وكما في كل مرة، تحضر فكرته شبه الأيقونية عن تلاقي وتصادم الشرق والغرب. في المنبع والمصب. في السيرورة والمقاصد. كأن ثمة إصراراً على الدوران حول مقولة كيبلينغ المدوية عن “أن الغرب غرب والشرق شرق ولا يلتقيان”. لكل منهما مرآته الخاصة يرى فيها وجهه ووجهته. يقرأ فيها ماضيه وتاريخه. وفي انعكاس الضوء على وجهها المصقول، يبرز الإتجاه الذي يمضي إليه كل واحد منهما، منذ الإغريق واساطيرهم، حتى اليوم. منذ الشاهنامة، وصولاً إلى آخر مواجهة بين الترك والكرد في بلاد الأناضول.
هذه رواية حفر: حفر الآبار، حفر الماضي، حفر التاريخ، حفر الأساطير، حفر المشاعر والأحاسيس والعواطف.
لكن، مَن هي المرأة ذات الشعر الأحمر؟
من طبيعة القص التي صارت سمة النص الروائي لدى باموك، إضفاء طابع شبه بوليسي على السرد. هناك دوماً تلك اللمسة السحرية، الملغزة، التي تترك الباب موارباً أمام أفق غامض لا بد أن يتابعه القارىء بلهفة كي يتمكن من فكه، عبر القراءة، في نهاية المطاف.
كان والد جيم قد اختفى، لكنه أشاع أن الحكومة اعتقلته. كان يسارياً وكانت الحكومة، في الثمانينات من القرن الماضي، تطارد اليساريين. لكن يتبين، لاحقاً، أنه لم يكن مسجوناً، بل هرب مع امرأة. هذه المرأة كان الراوي قد رآها صغيراً، بشكل عابر، ثم اختفت. بعد أن يتخرج جيم ويصبح مهندساً، يعمل في مشروع لدى شخص اسمه سري. سري كان صديق والده. هناك يتعرف إلى المرأة ذات الشعر الأحمر، وتهتم به كثيراً. يتذكر جيم هذه المرأة. إنها تلك التي كانت ذات يوم برفقة والده. لقد كانت عشيقة والده. لقد اختفى والده معها. من أجلها تركه وترك أمه.
يلتقي بها. تهتم به. تتحدث معه. تقول له: إذهب وابحث عن أب آخر لك. فالبلد هذا فيه آباء كثيرون.
بالفعل، يقول باموك. زعماءنا هم آباؤنا. أتاتورك أب، ومندريس أب، وأجاويد أب، وديميريل أب، وأوزال أب، وأردوغان أب. الجميع آباء. نحن جميعاً نتمنى أن نؤمن بمنقذ. نخشى الفوضى وننتخب الأب حتى ولو كان سيئًا. هناك الدولة التي تلقب بالأب، وهناك من يصفون إلههم بالأب، وهناك الباشا الأب، وهناك المافيا الأب. لا أحد يعيش من دون أب. الأب يمتلك السلطة، ونحن نريد التخلص منه، فلماذا نشعر بحاجة إليه في الوقت نفسه؟ نشعر بحاجة إلى الأب، ونتمرد عليه. نرغب في قتله، وبعد قتله ندرك أننا اقترفنا الجريمة الكبرى. الأب يخبر ابنه أنه يحبه كثيراً ويقطع رأسه ويبكي عليه بحرقة.
كيف ربط أورهان باموك كل هذه الأشياء معاً، وصهرها في بوتقة سردية تشد القارىء وتدفعه للمضي في القراءة إلى السطر الأخير؟ ذلك هو سر الغاوية التي يمسك باموك، منذ أولى رواياته وحتى الآن، بناصيتها. لكن، من أين جاءته فكرة حفار الآبار؟ ذات يوم رأى معلم حفر آبار، وتلميذه، يحفران بئراً في حديقة جانبية، بالقرب من بيتهم في نيشان تاشي. راقب عملهما. استهواه ذلك. انشغل بهما وبعملهما: يعملان، بدقة، بشغف، بلهفة، ثم يطلع ماء زلال. بقيت الحادثة والفكرة في رأسه سنوات طويلة ثم خرجت في شكل رواية.
المدن