المرحلة الانتقاليّة في سوريا بين مشروع ‘اليوم التالي’ وتوافقات المعارضة السوريّة
سمير العيطة
أتى مؤتمر أصدقاء سوريا في 6 حزيران بعد يومين من انتهاء مؤتمر توحيد المعارضة في القاهرة، حيث صادقت مجمل أطياف هذه المعارضة على وثيقتين أساسيّتين مشتركتين تؤسّس للعقد بينها، بل بالأحرى لسوريا المستقبل، كانت لجنة تحضيريّة قد أعدّتهما: هما العهد الوطني وخطّة المرحلة الانتقاليّة. وفي الحقيقة، كان هناك ضغوط حقيقيّة على الجامعة العربيّة وعلى اللجنة التحضيريّة لإنجاز هذه الوثائق وعقد مؤتمر القاهرة قبل مؤتمر الأصدقاء، في حين كان تحتاج التسويات التي حصلت ضمن اللجنة التحضيريّة إلى بعض الوقت وإلى شرح وعرض على مختلف الأطياف في ندوات خاصّة، كي لا تتفجر بعض الإشكاليّات في مؤتمر موسّع، كالقضيّة الكرديّة. لكنّ اللجنة التحضيريّة كانت قد نجحت في إخراج نتائجها، ووقّع عليها ممثّلو كلّ الأطياف، بمن فيهم المجلس الوطني والإخوان المسلمين. إلاّ أنّه سواء ضمن اللجنة أو في المؤتمر، ظهرت تشنّجات قويّة بغية عدم إنشاء أيّ إطار للمتابعة والتنسيق كي يتمّ تنفيذ مضمون هذه الوثائق بحرفيّته، بل تمّ رفض تشكيل حتّى لجنة اتّصال بالحدّ الأدنى يعلم فيها كلّ طرف الآخر بتوجّهاته ونتائج لقاءاته.
وخلال مؤتمر ‘أصدقاء سوريا’ في باريس، ألقى الرئيس الحالي للمجلس الوطني السوري، السيّد عبد الباسط سيدا، خطاباً طويلاً غير متوّقع، إذ أعطاه وزير الخارجيّة الفرنسيّة الكلمة على أنّها تقديم للأســـتاذ الجليل رياض سيف. ما لفت الانتباه في هذا الخطاب هو محاولة تنصـــــّل السيّد سيدا من وثيقــتي القاهرة بعد يومين من التوافق عليهما، في حين أشاد بهــــما جميع الحاضرين، بمن فيهم وزراء خارجيّة الدول الكبرى المساندون للمجلس. ربّما كان أكثر منطقيّة أن تتهرّب فئات المعارضة الأخرى المتواجدة داخل سوريا والمشتبهة برغبتها بالحوار مع السلطة القائمة من وثيقة المرحلة الانتقاليّة، بما أنّها تتعرّض مباشرة لقمع النظام. إلاّ أنّ السيّد سيدا هو الذي تهرّب، وذكر أنّ المجلس الوطني كان قد أعدّ مشروعاً متكاملاً ‘لليوم التالي’ (أي الذي يلي سقوط النظام) يشكّل مرجعيّته بالإضافة إلى وثيقة القاهرة. وهذا يعني خروجاً عن التوافق، علماً أنّ هناك تناقضات صريحة بين الوثيقتين.
مشروع ‘اليوم التالي’ هو مشروع أطلقه المعهد الأمريكي للسلام (USIP، وهو مركز أبحاث تابع للخارجيّة الأمريكيّة) والمعهد الألماني للشؤون الدولية والأمن (SWP، وهو أيضاً مركز رسميّ يترأسه الخبير عن سوريا فولكر بيرتس). تديره لجنة تنفيذيّة من سوريين تمّ إخفاء أسماءهم. في حين يشار فيه إلى أنّ ‘أعضاء بارزين’ في المجلس الوطني يشاركون في هذا المشروع وكذلك لجان التنسيق المحليّة وشخصيّات من الداخل والخارج وتموّل أعماله عدّة جهات: الخارجيّتان الأمريكيّة والسويسريّة، والمنظمّتان الهولنديّة هيفوس والنروجيّة نوريف.
يقول هذا المشروع أنّه يتمحور حول ثلاث أهداف. أوّلاً، أنه يشكّل إطاراً للتواصل بين قادة المعارضة (أو بالأحرى من اختارهم بين المعارضة)، يقوّي تعاونهم، ويخلق لديهم تصوّراً مشتركاً عن مستقبل سوريا. ثانياً، أنه يؤمّن خبرات تقنيّة تمكّن هؤلاء من مواجهة تحدّيات بناء سوريا مستقرّة وديموقراطية. وثالثاً، أنّه يؤمّن قدرات على التخطيط السياسي خاصّة ضمن مؤسّسات المعارضة، بما فيها المجلس الوطني. ويشمل المشروع ستّ مجموعات عمل يقود كلّ منها سوريّ: إصلاح قطاع الأمن؛ تصميم النظام الانتخابي؛ السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة؛ آليّة وضع الدستور؛ العدالة الانتقاليّة؛ ودولة القانون.
تمّ نشر وتوزيع التقرير الأوّلي لهذا المشروع، وعرضه على اللجنة التحضيريّة في القاهرة بعد أن أنجزت أعمالها. وقد حضر مندوبون عن فريق العمل مؤتمر القاهرة، وكذلك مؤتمر أصدقاء سوريا. إلاّ أنّه عند قراءة هذا التقرير الأوّلي والحوار مع هؤلاء المندوبين، تبرز تناقضات واضحة في عدّة نواحي مع وثائق العهد الوطني والمرحلة الانتقاليّة التي أقرّها مؤتمر القاهرة، لا بدّ من توضيحها، ولا بدّ لأفرقاء المعارضة أن يحسموا ما الذي سيلتزمون به حقاً: وثائق القاهرة أم مشروع ‘اليوم التالي’ هذا؟
المرجعيّة الشعبيّة والدستوريّة
يقول تقرير هذا المشروع أنّه فور سقوط النظام يجب إلغاء دستور 2012 واستبداله بنسخة معدّلة من دستور 1950 أو بأليّة قانونيّة للمرحلة الانتقاليّة. ولا يوضح تفاصيل من هي الجهة التي ستقوم بهذه المهمّة، وما هي شرعيّتها السياسيّة والشعبيّة، ولا آليّة دقيقة بشأن وضع الدستور الجديد، مع أنّه يشيد بتجربة جنوب إفريقيا وينتقد تجربة العراق.
وفي الحقيقة، حظي هذا الموضوع بنقاشات طويلة ضمن اللجنة التحضيريّة لمؤتمر القاهرة. إذ أنّ كثيراً من القوانين مبنيّة على مواد دستوريّة وضعت بعد 1950، كما أنّه لا يمكن إبقاء البلاد في المرحلة الانتقاليّة دون أن يكون دولة قانون. وبرز واضحاً السؤال حول من يضع الآليّة الدستوريّة في اليوم الأول، في حين يحتاج انتخاب برلمان تأسيسي قانون انتخابي جديد ومدّة من الاستقرار (أقصاها سنة ونصف إلى سنتين حسب التقرير، وسنة ونيّف حسب وثيقة المرحلة الانتقاليّة). يحاول التقرير معالجة الصعوبات الحقيقيّة التي يطرحها هذا الأمر عبر اقتراح حلّ بديل يقوم على تسمية لجنة لوضع دستور جديد، يقرّه مؤتمر وطني غير منتخب. وفي هذا إشكال حقيقيّ يتعلّق بالتمثيل الشعبيّ في هكذا مؤتمر وطني. في حين كان الحلّ الذي أوجدته اللجنة التحضيريّة هو عقد مؤتمر وطني واسع وشامل من قبل حكومة تسيير أعمال، بعيد سقوط النظام، يكون هو المرجعيّة السياسيّة بعد رحيل السلطة الحاليّة، وتخرج عنه حكومة انتقالية وكذلك مجلس تشريعي مؤقّت (سمي ‘الهيئة العامّة للحفاظ على أهداف الثورة والانتقال الديموقراطي’، تيمّناً بالمثال التونسي) يصدر إعلاناً دستوريّاً ويقوم بسنّ قوانين مؤقّتة على أساس العهد الوطني الذي تمّ إقراره، بغية نشر الحريّات وإلغاء القوانين الاستثنائيّة ووضع قانون انتخابيّ. دور هذا المجلس المؤقّت أكبر من مثيله في التجربة التونسيّة، إذ يعمل رقيباً على الحكومة المؤقتة، حتّى انتخاب المجلس التأسيسي. هكذا يؤّمن هذا الطرح المتّفق عليه شرعيّة شعبيّة ومرجعيّة سياسيّة وقانونيّة، كي لا تبقى البلاد خارج القانون حتّى انتخاب البرلمان التأسيسي، الذي سيصبح هو حامل الشرعيّة الشعبيّة، وحتّى مناقشة الدستور الجديد ضمنه قبل عرضه على الاستفتاء حيث التصويت هو فقط بنعم أو لا.
يتابع التقرير مشيراً إلى ‘مصالح اجتماعيّة وسياسيّة كثيرة’ يجب وضع ضمانات لها في وثيقة فوق دستوريّة (أي عقد اجتماعي جديد)، ويضع أسساً عامّة لهذه الوثيقة، دون الإشارة إلى الآليّة التي يتمّ عبرها الاتفاق عليها والجهة التي ستقوم بذلك. إضافة إلى أن الأسس المشار إليها بقيت عامّة ودون ترتيب في الأولويّات، ما ترك كثير من المواضيع الإشكاليّة كي تناقش في خضمّ المرحلة الانتقاليّة، مع كلّ المخاطر التي يذكرها التقرير ذاته حول التفاوض في هذه المرحلة. على العكس، اختارت اللجنة التحضيريّة لمؤتمر القاهرة أن تضع، انطلاقاً من مشاريع عهود كانت مكوّنات مختلفة للمعارضة قد طرحتها سابقاً، عهداً وطنيّاً شاملاً وتوافقيّاً مرتّباً حسب أولويّات، يستند بدئاً على مفهومي وحدة الشعب السوري والمساواة التامّة في المواطنة ثمّ الحريّات الفرديّة والعامّة والجماعيّة، ثمّ هويّة البلاد وأسس حكمه واقتصاده. وقد وافق جميع مؤتمري القاهرة على هذا العهد الوطني، عدا المجلس الوطني الكرديّ الذي تحفّظ على عبارة، والذي يمكن التوصّل معه لاحقاً إلى تسوية، في مناخٍ أقلّ تشنّجاً، خاصّة وأنّ مندوب المجلس كان قد وقّع على مشروع العهد الذي طرحته اللجنة التحضيريّة وأنّ الاختلافات مع النسخة النهائيّة ضئيلة. هكذا يتوجّه العهد الوطني الذي أقرّ في القاهرة كرؤية لسورية المستقبل وكعقد اجتماعيّ جديد إلى كافّة أطياف الشعب السوري، حتّى تلك التي لم تشارك في الثورة، ويخلق ضمانات حقيقيّة لها قبل رحيل النظام الحالي. وبالتالي سيشكّل أحد ركائز المرحلة الانتقاليّة ومرجعيّـتها القانونيّة، بحيث سيتركّز النقاش حول تحويله إلى مواد في دستورٍ جديد للبلاد.
من المفترض إذاً أن تؤّكد أطياف المعارضة التزامها بهذا العهد الوطني التوافقي، وأن يعدّل فريق ‘اليوم التالي’ تقريره وآليّات المرحلة الانتقاليّة انطلاقاً من نتائج القاهرة.
إصلاح قطّاعي الجيش والأمن
بعد الإشارة إلى أنّ الأمن خلال المرحلة الانتقاليّة يشكّل عنصراً أساسيّاً لنجاحها، ينطلق التقرير من أنّه يوم سقوط النظام ستقوم الحكومة الانتقاليّة بتولية الأمن لقوّة أمنيّة انتقاليّة (دون توضيح كيف ستشكّل هذه القوّة؟!)، وأنّه سيتمّ ضمّ الجيش الحرّ إلى الجيش النظامي (في يومٍ واحد؟!)، والمسلّحين المدنيّين إلى قوّات الشرطة، وكذلك سيتمّ اعتقال عناصر الشبيحة (مئات الآلاف؟!)، وتأمين الأسلحة غير التقليديّة المتواجدة في البلاد (من سيؤمنّها؟!)، وأنّه سيتمّ سحب الجيش النظامي من المدن، وسيتمّ جمع الأسلحة الثقيلة (من يد الجيش النظامي، من قبل من؟). وعلى المدى المتوسّط، سيتمّ تحويل الجيش إلى جيش محترف (أي إلغاء خدمة العلم؟!) وكذلك أجهزة الأمن على أسس منفتحة وشفاّفة (كذا لأجهزة أمن؟!) وخاضعة للمساءلة (حتماً، لكن دون ذكر كيف سيتمّ التعامل مع أجهزة الأمن القائمة، مع إشارة لاحقة إلى أنّه سيتمّ حلّها فوراً) (ص 53 إلى 56، ثمّ ص 59 و60).
يفتقر هذا الطرح إلى أدنى درجات الواقعيّة، ولا يأخذ بأيّ شكل بعين الاعتبار تبعات التجربة العراقيّة التي ينتقدها، حيث خلق تسريح الجيش والأجهزة الأمنيّة فيه فوضى عارمة. بل يمكن رؤية هذا الطرح على أنّه يسوّغ لمشروع غير عقلاني، يحلّ دولة مكان الدولة، ويأخذ إلى حرب أهليّة.
هذا الموضع ليس سهلاً. وقد أخذ حيّزاً كبيراً من نقاشات اللجنة التحضيريّة لمؤتمر القاهرة. وكانت نتيجة الجهد ربّما أكثر واقعيّة. تبدأ بوقفٍ لإطلاق النار بين الجيش النظامي والجيش الحرّ، يتمّ إذا لزم الأمر برعاية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ثمّ يتمّ تشكيل مجلس أمن قومي بقيادة رئيس السلطة التنفيذيّة المؤقّت، وعضويّة ضبّاط من الجيش الحرّ وكذلك من الجيش النظامي لم تتلطّخ أيديهم بدماء السوريين. يقوم هذا المجلس بإخضاع القوّات المسلّحة وأجهزة الأمن لسلطته، ضمن قواعد العهد الوطني التي يضعها المجلس التشريعي المؤقّت. إذاً لا تحلّ الأجهزة القائمة وإنّما تخضع لقيادة جديدة توافقيّة، ويتمّ تطهيرها تدريجيّاً ممّن ثبت تورّطه، ويتمّ ضمّ من يريد من الجيش الحرّ والمقاومة المسلّحة إلى الجيش النظامي ويسحب السلاح من المدنيين.
وفي الحقيقة، يبقى هذا الموضوع كثير الحساسيّة، ويتعلّق بفهم الصراع القائم حالياً في سوريا: هل هو صراع بين طائفة مهيمنة على السلطة والأمن والجيش وأغلبيّة الشعب السوري الذي يدين بمذهبٍ آخر ويقوم بثورة (وهو الفهم الذي يتبنّاه التقرير في ثنايا شروحاته) أم هو صراع بين سلطة زجّت بجيشها وقوّات أمنها وحتّى ببعض المناصرين لها من أطياف مختلفة من السوريين في حربٍ ضدّ شعبها الثائر بسائر طوائفه ومكوّناته من أجل الحريّة والكرامة (وهو الفهم الذي تبنّته اللجنة التحضيريّة)؟ الفهم الأوّل لن ينهي الصراع حتّى لو رحل رأس النظام، حتّى وإن تمّ الحديث عن مصالحة ترافق المحاسبة في المرحلة الانتقاليّة؛ أمّا الفهم الثاني فهو يقول بأنّ ثورة الشعب السوري ستنتصر بإسقاط رأس النظام ورموزه الأساسيين، وبالتالي سينتهي الصراع حينها، ويجب وضع آليّات لمصالحة وطنيّة شاملة تترافق محاسبة ضمن القانون لمن أمر بالقتل وبالاعتقال والإهانة، مع الاعتراف بأنّ جراحات صراع مسلّح عميقة، ويجب أن تمرّ مدّة زمنيّة حتّى تدمل.
العدالة الانتقاليّة
يتحدّث التقرير عن ضرورة خلق ‘لجنة تحضيريّة’ للعدالة الانتقاليّة منذ الآن، يمكن أن تضمّ في ‘لجنة استشاريّة’ (فقط) أسماء محترمة من مكوّنات مختلفة من المجتمع السوري. يحلّ محلّ هذه اللجنة التحضيريّة فور سقوط النظام ‘لجنة وطنيّة للعدالة الانتقاليّة’، تخلق محكمة جنائيّة خاصّة تعنى بمحاكمة المسؤولين الرئيسين في نظام الأسد، وأفراد عائلته، وشركائهم الأساسيين. ويتحدّث أيضاً عن ضرورة الالتزام بمعايير العدالة العالميّة للحصول على تمويلات دوليّة لهذه العدالة (أي إلغاء حكم الإعدام مثلاً). ولكن أيضاً عن آليّات غير قضائيّة للمحاسبة، وعن محاكم ثوريّة يجب جلبها إلى مبادئ العدالة الانتقاليّة (كذا!)، وعن انفتاح على الخبرات الأجنبيّة، بل على إمكانيّة أن يكون هناك دور دوليّ في تطبيق العدالة الانتقاليّة (ص 11). والأهمّ أنّ التقرير ينوط بلجان العدالة التحضيريّة والانتقاليّة مهمّة إصدار القوانين ومعايير المحاكمات، ضارباً عرض الحائط كما في نواحي أخرى مبدأ فصل السلطات.
على عكس ذلك، لا تفصل وثيقة المرحلة الانتقاليّة بين المحاسبة والمصالحة، كآليّة واحدة يناط بها إلى ‘هيئة عامّة’ (أي جسم حكوميّ)، تعمل تحت إشراف الجسم التشريعي المؤقّت المذكور أعلاه، ثمّ البرلمان المنتخب على أسس العهد الوطنيّ. وتفصّل الوثيقة كثير من الحالات التي يجب أن تعمل عليها هذه الهيئة، بما فيها محاسبة أعضاء النظام الحالي (الذين تطلب التحفّظ والحجز على أملاكهم فور سقوط النظام وحتّى المحاكمة) وإزالة آثار السياسات السابقة. إلاّ أنّه انطلاقاً من مبدأ فصل السلطات لا تنوط بهذا الجسم الذي يمكن أن تنبثق عنه هيئة قضائيّة للبتّ في جرائم النظام الكبرى، مسؤوليّة إصدار القوانين والقواعد، وإنّما بالجسم التشريعي المؤقت ثمّ المنتخب.
هناك الكثير من التفاصيل المفيدة في التقرير، يمكن البناء عليها، إلاّ أنّه يجب تطويرها ومراجعتها بشكلٍ جديّ، لأنّ روحيّة التقرير أكثر للمحاسبة من التصالح على المستوى الشعبي، ومرجعيّة اللجان غير واضحة، والمرجعيّة التشريعيّة ناقصة، وهناك طرح عن ‘لجان لسيادة القانون’ وطنيّة ومحليّة يحتاج إلى تمحيص دقيق، خاصّة وأنّه يخلق ازدواجيّة مع مؤسسات الدولة القائمة، إذ يظهر كنوع من جهاز الشرطة، وأنّ التقرير يطلب أن ‘يتمّ التحاور مع الجيش الحرّ والمجموعات المسلّحة لاستشفاف دورها في إدارة العدالة (كذا!) في المرحلة الانتقاليّة’! (ص 26).
الوضع الاقتصادي والاجتماعي
هناك فروقات جوهريّة بين ما أتى في التقرير مع سعة تفصيلاته وما أتى في وثيقة المرحلة الانتقاليّة المعتمدة في القاهرة فيما يخصّ الأوضاع الاقتصادية والاجتماعيّة. إذ يقول التقرير أنّه يجب ‘العمل مع الشركاء الأجانب لضمان رفع العقوبات فوراً’ (ص 83)، دون أيّ ذكر لأموال السلطة المحتجزة في الخارج والتي لم يصرّح حتّى الآن عن حجمها وأماكنها. فيما تصرّ الوثيقة، انطلاقاً من تجارب دول أخرى على ‘مطالبة المجتمع الدولي فور سقوط بشار الأسد بإلغاء كافّة العقوبات الشاملة المفروضة على سوريا ومؤسساتها، وأن يساعد على استعادة الدولة لأموال السلطة المحتجزة في الخارج’. هذا في حين أنّ التقرير يطالب بشكلٍ مثير للدهشة أنّه يجب منذ الآن ‘جمع معلومات عن المصرف المركزي ووزارة الماليّة (…) لتطوير استراتيجيّة تؤمّن أنّه سيتمّ دفع أجور موظّفي العدالة خلال المرحلة الانتقاليّة’ (ص 25).
كما يدخل التقرير في تفاصيل سطحيّة حول سياسات الحكومة وميزانيّاتها دون أن يأخذ بعين الاعتبار استمراريّة الدولة حتّى قبل سقوط النظام وعملها على تأمين الحاجات الأساسيّة. في حين تعتبر الوثيقة أنّ الدولة مستمرّة، وتبني رؤيتها على هذا الأساس. إلاّ أنّها تأخذ بعين الاعتبار أنّه سيكون هناك، كما في أيّ مرحلة تأتي بعد نزاع طويل، ضرورة لخلق جسم خاص، سمي ‘الهيئة العامّة للتعويضات الاجتماعيّة وإعادة الإعمار’، يعنى بالنفقات الاستثنائيّة المترتّبة على إزالة آثار الصراع: إعانة المنكوبين؛ وتعويض أهالي الشهداء والمعتقلين والجرحى والمعاقين؛ وإعادة النازحين والمهجّرين في الداخل والخارج؛ والمساهمة مع الحكومة في إعادة إعمار البنى التحتيّة والمنشآت العامّة المتأثّرة من الأحداث، وفي تمويل الإجراءات الاقتصاديّة والاجتماعيّة العاجلة. وينظر إلى هذه الهيئة على أنّها مؤسّسة حكوميّة، تعمل تحت إشراف الجسم التشريعي المؤقت ثمّ البرلمان، اللذان يضعان قواعد عملها، انطلاقاً من أسس العهد الوطني (ويقصد بهذا الضوابط التي تصون المال العام وتكبح الاحتكارات والمال السياسي، إلخ). ويشار في الوثيقة إلى أنّه ستوضع تحت سلطة هذه الهيئة جميع المعونات الخارجيّة والدوليّة، بالتنسيق مع الجهات المانحة. وتصرف من مخصّصاتها مخصّصات ‘هيئة المحاسبة والمصالحة الوطنيّة’، المشار إليها أعلاه. وهكذا تعالج الوثيقة إشكاليّة أساسيّة بين مرحلة الصراع الحالي والمرحلة الانتقاليّة، لم يتطرّق إليها التقرير: وهي أنّ جهود الإغاثة الحاليّة في مرحلة الصراع مشرذمة وتتبع بشكل غير شفاف للجهات المانحة ولأفرقاء سياسيين بعينهم، رفضت حتّى الآن كلّ الجهود لتنظيمها تحت رعاية الأمم المتحدة؛ إلاّ أنّه لا بدّ من ضبطها في المرحلة الانتقاليّة حتّى لا تشكّل أساساً لاختلالات كبيرة تقوّض عمل الدولة وتفرط عقد المساواة في المواطنة. وحتماً يتطلّب هذا التزامات واضحة سواءً من الجهات الدوليّة المانحة أو من مختلف الأطياف السياسيّة السوريّة القائمة. على عكس هذا المنحى، يشير التقرير (ص85) إلى أنّه ‘من المهمّ وضع خريطة وسبل استخدام للمجموعات المدنيّة والدينيّة. لأنّ استخدام هذه المجموعات سيشجّع مفهوم الانتماء إلى مجموعة وسيخلق قدرات محليّة بالتوافق مع لاعبين خارجيين’ (كذا).
أخيراً، يأتي التقرير بخطاب يتضمّن تناقضات كبيرة دون إيجاد سبل فعّالة لمعالجتها بشكلٍ واقعيّ: بين ضرورة زيادة النفقات العامّة بشكلٍ ملحوظ خلال المرحلة الانتقاليّة والعمل على الحفاظ على الاستقرار في الاقتصاد الكلّي؛ وبين ضرورة كبح الفساد وعدم الحديث عن الاحتكارات. كما يضع أولويّات للمرحلة الانتقاليّة، مثل إصلاح القطّاع المصرفي أو خصخصة الشركات الحكوميّة، لا يبدو مناسباً الولوج فيها في مرحلة لم تستقرّ فيها الأوضاع الاقتصاديّة والتشريعيّة والأمنيّة.
عندما عرض بعض أعضاء فريق عمل مشروع ‘اليوم التالي’ نتائج بحوثهم على اللجنة التحضيريّة لمؤتمر القاهرة، التي كانت تضمّ كافّة أطياف المعارضة السوريّة بما فيها الحراك الثوري، طالب أعضاء هذا الفريق اللجنة بأنّ تعدّل طروحاتها حسب نتائج مشروعهم. فأجابتهم اللجنة بلطف، أنّها تحترم الجهد الذي بذل في هذا مشروعهم وتشكر القائمين عليه، ولكنّ يجب النظر إلى الموضوع بشكلٍ مقلوب. إذ أنّ وثيقتا العهد الوطنيّ والمرحلة الانتقاليّة ستصبحان وثيقتين مرجعيّتين لجميع أطياف المعارضة بعد أن يقرّهما مؤتمر القاهرة، وأنّهما ستكونان أساساً للمؤتمر الوطني العام الذي سيضمّ أوسع أطياف الشعب السوري بعد سقوط النظام. وأنّ اللجنة ستكون شاكرة للقائمين على مشروع ‘اليوم التالي’ إذا ما تابعوا أعمالهم انطلاقاً من التوافق السوري، لا العكس هذا إلاّ إذا كان هناك في سوريا ثورتين ومشروعين لوطنين مختلفين.
‘ مدير النسخة العربية من صحيفة لوموند دبلوماتيك
القدس العربي