المسألة الديمقراطية في العالم العربي
سليمان تقي الدين
كيفما عالجنا مسألة الديمقراطية ووفق أية معايير أو مؤشرات، فإن الاستنتاج الأساس يؤكد أن الديمقراطية بنية دولة ومجتمع وليست مجرد نظام سياسي . كي تكون الديمقراطية مستوفية شروطها كما في معظم الفكر السياسي والقانوني والاجتماعي، يجب أن تقوم علاقة عضوية بين مؤسسات الدولة وبين النظام السياسي أو السلطة السياسية . الانتخابات وحدها ليست الديمقراطية . والنظام التمثيلي ليس وحده الديمقراطية والليبرالية أو الحريات وحدها ليست الديمقراطية .
تحتاج الديمقراطية إلى دولة حديثة، ثم إلى مجتمع حديث أي مدني، وإلى ثقافة ديمقراطية تتأكد في الممارسة لا إلى مجرد إيديولوجيا ديمقراطية أو عنوان ديمقراطي . فقد أنتجت الأنظمة التمثيلية ظاهرات متناقضة للديمقراطية في غير مكان من التجارب الإنسانية .
هذه الإشكاليات أنتجت فيضاً من الأبحاث والكتب والنظريات من غير المجدي عرضها أمام الوقائع الحيّة المعاشة في تجربة التحول الديمقراطي الراهن في العالم العربي .
شاع المطلب الديمقراطي في العالم العربي في العقود الثلاثة الماضية، بعد أن كان مكبوتاً بفعل الأنظمة التسلطيّة ذات التوجه التعاضدي (التعاون الاجتماعي) والعضوي (الحامل لإيديولوجية قومية تعلي قيمة وحقوق الجماعة على قيمة وحقوق الفرد) وتضع المسألة القومية في أولوية اهتماماتها السياسية .
أنتج هذا الواقع دولاً ومجتمعات (الدول تؤطر المجتمعات وتتحكّم بتطورها) ذات مواصفات معينة .
على صعيد الدولة: الحكم الأمني العسكري، بيروقراطية ثقيلة الوطأة متشعبة الوظائف، هيمنة إيديولوجية على سلطة الدولة، تشكل نخب سياسية اجتماعية ذات بعد فئوي وجهوي وقبلي ومؤسسات سياسية شكلانية غير فاعلة .
على صعيد المجتمع: مجتمع مدني ضعيف التكوين، بنيات اقتصادية اجتماعية مختلطة بين الحداثة والتقليد، ثقافة سياسية تقليدية في وسائل تقنية حديثة، تعايش البنيات والهويات القبلية والطائفة وتوترها، ومؤسسات سياسية شعبية (الأحزاب بصورة خاصة)، تحمل مواريث النزاعات العنيفة والفكر الحصري والبطريركية .
تقوم شرعية الدولة في العالم العربي (السلطة المعنوية الشاملة) على المصادر التالية: الشرعية الدينية، الشرعية القبلية العائلية، الشرعية الانقلابية، الشرعية النضالية والشرعية الطائفية .
تطورت هذه الشرعيات عبر الزمن لكي تشكل لنفسها مصادر دعم وتغذية كما في الدولة الريعية أو عقائدية (إيديولوجيا القومية) أنشأت هذه الدول مؤسسات تختلف مسمياتها لكنها تشترك في العناصر الآتية:
تحول الجيش إلى العمود الفقري للدولة والمجتمع في جميع الدول العربية من دون استثناء . هو العصب الأساس للسلطة وهو النواة الأكثر تماسكاً من بين هيئات المجتمع .
كانت الجيوش على اختلافها القوة المنظمة الفاعلة الأكثر حداثة والأكثر عضوية في التفاعل مع المجتمع والأكثر استقلالاً بالمعنى السياسي بين جميع المؤسسات السياسية الأخرى .
يعتقد البعض أن دور العسكر يرتبط بالمواريث التاريخية لمنطقة الشرق الأوسط التي توالت عليها إمبراطوريات ذات طابع عسكري وشهدت حروباً ونزاعات وغزوات وفتوحات عسكرية متتالية .
أجمعت دراسات من اتجاهات فكرية مختلفة على الأهمية الخاصة للجيوش في الشرق الأوسط والعالم الثالث، حيث انتدبت نفسها لمهمة النضال من أجل الاستقلال والتحرير الوطني ثم إدارة عملية التنمية والتحرير . لقد تقدم الجيش إلى هذه المهمات جرّاء عجز القوى المدنية الحديثة خاصة الليبرالية من جهة، ولوجود تحديات عسكرية إقليمية وحروب من جهة ثانية .
لكن هذه الجيوش لم تكتفِ بدورها الحربي فقد أعطت المؤسسات البيروقراطية نخبة من كوادرها كما حصل في أكثر من بلد عربي، كما انخرط معظم الناشطين في المؤسسات السياسية التي أقامتها الأنظمة في الدول القومية التوجه .
لأن معظم الدول أنشأت مؤسسات تمثيلية تحت سلطتها ووضعت قيوداً على الحريات السياسية والمدنية، فلم تكن الانتخابات وسيلة لتحقيق المشاركة السياسية بقدر ما كانت وسيلة لبناء نخبة سياسية من حول النظام لدعم شرعيته . بل إن الانتخابات التي كان يمكن أن تؤدي إلى نتائج غير مؤاتية للسلطة جرى تزويرها أو تعطيلها وفي مطلق الأحوال كانت السلطة التنفيذية محصورة برأس الهرم السياسي والأدوات الأمنية والإدارية الخاضعة له أو المشاركة في صوغ القرار السياسي والاقتصادي والأمني والإداري .
تحتاج الديمقراطية إلى “شروط مسبقة” تشمل مستوى تعليمياً متطوراً، ومستوى مرتفعاً للدخل الفردي، وطبقة وسطى كبيرة الحجم، ومجتمعاً مدنياً نشطاً ومنظماً، ومؤسسات عامة قوية مستقلة الواحدة عن الأخرى، وأحزاباً سياسية ارتكازاتها وطنية، تعتمد برامج متمايزة وثقافة سياسية تفسح في المجال أمام التسامح والنقاش والتسوية .
إن تجربة الأحزاب في العالم العربي لها ظروفها وخصوصيتها . فخلال نصف قرن سيطرت أحزاب السلطة ذات العقيدة الجمعية (القومية) ولم يتم تشكيل أحزاب برلمانية فعلية، وسيطرت على المجال السياسي الشعبي حركات الإسلام السياسي التي فرضت شرعيتها من شرعية الثقافة الدينية ومؤسساتها (الجامع والجمعيات الدعوية والخيرية لا سيما الأوقاف والصدقات والزكات والخمس . . .) وهذا نظام اجتماعي له فاعليته الخاصة .
تتصف المجتمعات العربية بغلبة الثقافة الدينية والإسلامية، باعتبار أن الإسلام هو دين الغالبية الساحقة من العرب .
من هذه البيئة الثقافية الواسعة نشأت نظريات الحكم في العالم العربي على مدى قرون . في معظم هذا التاريخ قامت النظم السياسية على شرعية الإسلام والولاء له، سواء أكان الإسلام عربياً أو غير عربي حتى نهاية القرن التاسع عشر مع ظهور الفكر القومي والحركات القومية . لكن الفكر القومي لم يقطع مع هذا الإرث الثقافي بل جعله من ضمن هويته بأشكال مختلفة وبنسب مختلفة . إلا أن الجديد كان التركيز على الهوية العربية وعلى هوية المواطنة كجزء من هوية الأمة .
لكن الفكر القومي هو الآخر “فكر جمعي” يغلّب مصلحة الأمة والجماعة على حقوق الأفراد الطبيعيين . ففي نقد هذا الفكر قيل إن القوميين هم “عبّاد الدولة” . الدولة في نظرتهم هي الشخصية الأساسية للأمة لا أفرادها كما هو حال الفكر الليبرالي .
انتهت التجربة القومية فكراً وممارسة (وقد حكمت معظم الأقطار العربية) إلى فشل في بناء دولة الأمة وفي بناء المواطنة . هذه هي الدلالة الفعلية الأصلية لكل ما يجري الآن من ثورات سياسية في العالم العربي، ما زالت تطرح قضيتي الكرامة الوطنية والكرامة الإنسانية .
ويلخص الكاتب التركي “جول” أسباب صعود التيارات الإسلامية في: فشل النخب العلمانية القومية، ونقص المشاركة السياسية، وأزمة البرجوازية الصغيرة، والبترودولار والتنمية الاقتصادية غير المتوازنة، ونتائج التآكل الثقافي .
الخليج