صفحات الرأي

المسألة القومية أو الوطنية تستيقظ في قلب العولمة وعلاقاتها الدولية/ إدوار فيرنون

 

 

قبل أعوام غير بعيدة، ساد حسبان أن الأمة طويت صفحتها وانقضت. وبدا أن العولمة توشك على محو الحدود بين الدول والأمم تحت طبقات التداولات والمبادلات التي بثتها في أوصال العالم. ففي أوائل الثمانينات من القرن العشرين أرخ كثيرون لخاتمة سياق تاريخي كان القرن الثامن عشر ابتداءه أو مرحلته الأولى. وتولى هذا السياق رسم خريطة العالم، بدءاً بـ «الدول – الأمم» القديمة، ثم «الدول – الأمم» الأميركية اللاتينية أوائل القرن التاسع عشر، فالوحدتين الألمانية والبريطانية، وذيول الحرب العالمية الأولى، وتصفية «الاستعمارات». وكان سقوط جدار برلين حادثة ملتبسة، فهو حمل، من جهة، على فكرة ساذجة هي «نهاية التاريخ» في عهد سيطرة القوة الأميركية وانفرادها بالهيمنة.

لكن انفجار الاتحاد السوفياتي، وارتسام خريطة أوروبا الوسطى، وأوروبا الشرقية على وجه جديد، أشاعا وهماً بأن الأمرين ليسا إلا «استلحاقاً» أعقب مرحلة «التعليق» الشيوعية: فالدول – الأمم التي نشأت في أوروبا عن معاهدات الحرب الكبرى (الأولى) استعادت سيادتها مع بعض التطور أو التغير. وفي خريف 1991، استقلت كل الجمهوريات الاتحادية التي خرجت من إطار الاتحاد السوفياتي. وفي 1993، تبعتها سلوفاكيا وخرجت من الجمهورية التشيخية سلماً. وسرعان ما اضطربت الأمور، وخيبت التفاؤل. فاندلعت الحرب، في آب (أغسطس) 1991، في يوغوسلافيا، ودارت حرب بلقانية جديدة. ومجزرة تموز (يوليو) 1995 التي أودت بـ5 – 8 آلاف قتيل، قرينة على أن «الاستلحاق» نهض على الإقرار بمكانة «المسألة الوطنية» في صدارة العلاقات الدولية. فمن إريتريا (في 1993) الى جنوب السودان (في 2011)، سلماً أو حرباً، بلغ عدد الدول الوطنية 193، ومن كاتالونيا إلى اسكتلندا، يسود «مبدأ القوميات» وحقها في إنشاء دول مستقلة، عاجلاً أم آجلاً.

فمنذ نهاية الحرب العالمية الأولى، إلى اليوم، بقي المبدأ الأساس الذي تتمسك به النزعات الاستقلالية والوطنية هو «حق الشعوب في تقرير مصيرها»، كما جاء في نقاط الرئيس الأميركي الـ14. وينبغي التذكير بأن هذا الحق، في 1918، كان وقفاً على شعوب أوروبا لكن تأويله لم يلبث أن غيَّر معناه. والصعوبة الأولى مصدرها تعريف الشعب وقاعدته الإقليمية. والتاريخ هو المُعين على إثبات سيادة قديمة، شأن اللغة والدين. وإقامة أكثر من شعب في دولة واحدة من عوامل يقظة المطالبة الوطنية والاستقلالية. وفي القرن التاسع عشر، أسند البولنديون مطالبهم إلى تاريخ مملكة وسيطة لا شك في حقيقتها، وقسمها، أواخر القرن الثامن عشر، جيرانها الأقوياء.

ويبعث اليوم الاسكتلنديون معركة بانوكبيرن (في 1314)، واستقلال مملكة ضُمت في 1707 إلى المملكة المتحدة، برهاناً على كيان وطني سابق. ويستظهر الكاتالونيون بهزيمة نزلت بهم ونجم عنها انقلاب آل بوربون الإسبان على برشلونة في 11 أيلول (سبتمبر) 1714، واحتج الكرواتيون والسلوفينيون، أوائل عقد التسعينات من القرن العشرين، بالتنافر بين الأديان وبـ «نير» بلغراد، مسوغاً لتحررهم من «السجن» اليوغوسلافي. وهذا كله بعيد من معاهدة فرساي، غداة الحرب الأولى. وهذه المعاهدة وزعت الكرد على 4 دول (تركيا والعراق وإيران وسورية)، وزرعت معضلة في قلب المشرق، وقسّمت الصحراويين بين الجزائر والمغرب وموريتانيا.

وبعد التقسيمات الإقليمية المجحفة التي تلت الحرب الأولى، قامت عمليات تصفية الاستعمار غداة الحرب الثانية على مبدأ احترام الحدود التي اختطها المستعمرون في ضوء اعتبارات منها نزاعاتهم وخصوماتهم. ودول أفريقيا وآسيا والبحر الكاريبي والشرق الأوسط (في أعقاب اتفاق سايكس – بيكو على تقسيم الولايات العثمانية) ولدت من هذا المنطق الهش. وتوسلت تقويته بقاعدة: «يعود لك ما كنت تحوزه»، وكانت حكَّمت مطلع القرن التاسع عشر بأميركا اللاتينية. وخُلص منها إلى تكريس الحدود واحترام التخوم الإقليمية التي كانت للدولة حين استقلالها. واستعادت منظمة الوحدة الأفريقية هذا المبدأ، وعممته على أفريقيا كلها غداة «حرب الرمال» بين الجزائر والمغرب في 1963، إثر مطالبة المغرب بتندوف وحاسي بيضة، وهذه ضمتها فرنسا إلى المحافظات الجزائرية في 1952.

والجمع بين تكريس الحدود نهائياً وبين «حق الشعوب» متناقض، لا سيما أن التكريس يقوم على مبادئ ومسوغات نسبية، تستند إلى تخمينات تاريخية. فحين تصدع الاتحاد السوفياتي، حظيت الجمهوريات الاتحادية بالاستقلال، وتحولت دولاً. وهذا، أي الاستقلال والتمتع بكيان دولة، حرمت منه الجمهوريات والأقاليم ذات الإدارة الذاتية، مثل الشيشان وتتارستان. وأُعمل المبدأ ذاته في يوغوسلافيا، فأفضى في 1998 إلى أزمة كوسوفو الدموية. ولا تكاد تحصى، اليوم، أزمات تخطيط الحدود وترسيمها، والمثال قضية كشمير بين الهند والصين وباكستان. ولا شبهة أو شك في أن هذه الأزمات هي وليدة الجمع بين معيارين مختلفين وفي أحيان كثيرة متناقضين: معيار الحدود المكرسة ومعيار حق الشعوب.

وإذا افترضنا أن تعريف واحد من الشعوب محسوم، ويترتب عليه جواز الانفصال الذي تقره قوانين البلد، ويسوغه الاقتراع الشعبي – وهذا ما حصل أخيراً في حال اسكتلندا – فالجواب بـ «نعم» على الاستفتاء في 18 أيلول 2014 كان مؤداه الاستقلال (وفاز الجواب بـ «لا» بـ55.4 في المئة من أصوات المقترعين). فكل انفصال لا بد له من التوسل باستفتاء. ويفترض طرح ذلك الاتفاق على دائرة المستفتين: ففي 1962، «أقر» 80 في المئة من الفرنسيين تحرر الجزائر من الإطار الفرنسي. وبناء على ذلك يقول بعض أهل القانون أن إقرار انفصال «شعب» يعود إلى سكان الدولة كلهم وليس إلى «الشعب» وحده.

وعلى خلاف سياسة لندن، لا تعترف مدريد بـ «استفتاء» نظمه الكاتالونيون في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014، ودعوا وحدهم إلى الاقتراع فيه. وتحتج سلطات جزر كومور بالذريعة ذاتها على فرنسا في شأن جزيرة مايوت. فسكان هذه الجزيرة في المحيط الهادئ اقترعوا في 1974 و1976 و2009، وأقروا ضم جزيرتهم في الاستفتاءات الثلاثة إلى فرنسا. واقترعت الجزر الثلاث الأخرى للاستقلال في 1974. وعلى رغم أن الاستفتاء الأول نظم يوم كان أرخبيل الكومور غير مستقل، استصدر الكوموريون، في 1976، من الجمعية العمومية للأمم المتحدة توصية بإدانة فرنسا لانتهاكها وحدة أراضي الأرخبيل (وضمها مايوت بعد استفتاء سكانها). ويذكر اليوم بهذه الوقائع لأن الروس يقارنون على الدوام بين القرم وبين مايوت، وينسون أن جزيرة مايوت لم تسلخ من دولة قائمة، ويغفلون عن الظروف التي لابست الاستفتاءات الشعبية (حياد السلطات، وحرية الصحافة، والمراقبة الأجنبية…) قياساً إلى ظروف القرم.

ويحتج الروس باستقلال كوسوفو، وهم لم يعترفوا به، في ختام نزاع دموي طويل من عام 1990 إلى عام 1999 وبعد مدة طويلة (1999 – 2008) من الترجح سعى المجتمع الدولي في إرساء موازنة دقيقة بين منطقة انفصالية وبين شعبين يقيمان فيها ويلتحقان بدولتين جارتين هما صربيا وألبانيا… والحل هيكل مضطرب لم يلقَ إجماعاً بعد: اعترفت به 106 دول ولم تبرمه الأمم المتحدة. وتتذرع روسيا باستقلال كوسوفو لتسويغ «استقلال» أوسيتيا الجنوبية أو أبخازيا، وهما إقليمان من جورجيا يتمتعان بإدارة ذاتية، أو ترانسنيستريا، الإقليم المولدافي. وبلغ عدد الدول المعلنة من جانب واحد، ولا تلقى اعترافاً دولياً، عام 2014، عشر دول.

وتجاه مثل هذه الأوضاع الناجمة عن ظروف التاريخ وحوادثه، في إطار سيطرة الدول الكبرى ونزاع المعيارين (تقرير المصير – الحدود المكرسة)، يواجه القانون الدولي عسراً في البت في المسائل التي تعرض. فهو لا يقر إقراراً صريحاً بالحق في الانفصال، لكنه لا يعارضه معارضة جازمة. وهذا ما ذكرت به محكمة العدل الدولية في 2010، حين أعلنت أن القانون الدولي العام لا ينطوي على مادة تحظر إعلان الاستقلال. وعلى هذا، يعود القول الفصل إلى تفحص الأحوال التي تفضي إلى إعلان الاستقلال، مثل وجود «شعب»، وانتهاك الدولة التي يرغب الشعب في الانفصال عنها، حقوق الإنسانية من غير أن يحول التقاضي والتفاوض دون دوام الانتهاك، ومثل تعبيره عن إرادته إعلاناً ظاهراً وواضحاً بواسطة الاستفتاء الحر. والدولتان اللتان أعلنتا أخيراً، وهما كوسوفو وجنوب السودان، استجاب إعلانهما هذه المعايير. وإعلان إريتريا، في 1993، ماشى مبدأ «يعود لك ما كنت تحوزه»، فإثيوبيا كانت ضمت إريتريا، المستقلة ذاتياً، في 1962.

ولا يصح هذا في القرم. فهي لم تستقل بل ألحقت قسراً، ولا تعريف واضحاً لـ «شعبها». وقرار خروتشيف (الأمين العام للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي يومذاك) ضم شبه الجزيرة إلى أوكرانيا، في 1954، يُحمل على صدفة تاريخية. وثمة، في أوروبا وغيرها، أقليات كثيرة يصح فيها هذا المنطق.

وعلى رغم زعزعة العولمة الدولة – الأمة من فوق، وزعزعة النزعات المحلية والإقليمية الوحدات السياسية المركبة من تحت، تعاظم عدد الدول، وداخلها شعوب وأمم، فبلغ نحو 200 اليوم، وكان لا يتعدى 46 دولة في 1900. وتتقاسم مناطق العالم الكبيرة هذه الزيادة. ففي أوروبا قامت أخيراً، دولتان (مونتنيغرو وكوسوفو)، وواحدة في آسيا (تيمور الشرقية) وواحدة في أفريقيا المحلية والوطنية، وقدمت الهويات الخصوصية على الجامع العام الكوني. وغذت أدوات تقنية شائعة، مثل وسائط الاتصال والإعلام، الميول «المنزلية» والخاصة. وأخفقت محاولات تخطي الأمة (في عهدة الدولة) صوب مجاميع تاريخية تربط اللغة والثقافة أجواءها وتشدها. ومثال ذلك تفكك النزعة العربية الجامعة التي وحدت سورية ومصر في 1958 – 1961. وبقيت محاولات أخرى، شأن الوحدة الأفريقية أو الوحدة الأميركية (الجنوبية على الخصوص)، في مرحلتها الأولية. ولم يلبِّ الاتحاد الأوروبي، وهو أكثر محاولات الدمج نجاحاً وتوفيقاً، الأمل في بلورة «وطنية دستورية» جامعة، تتخطى الوطنيات والقوميات القائمة على روابط خاصة بالجماعات. وتضطلع الديانات، في بعض الأقاليم والمناطق، بتصديع الدول والقيام محلها.

* صحافي ومؤرخ، عن «ليستوار» الفرنسية، 1/2015، إعداد منال نحاس

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى