المسألة الكردية في سورية –مجموعة مقالات-
مساقات المحليّة ومآلاتها/ دلشاد محمد
1
تولي معظم الهيئات عبر-الدولية العاملة في مجال السلام، وهو المجال الذي تغلب عليه النزعة الليبرالية أو النيوليبرالية أحياناً، أهمية كبرى لدور العنصر المحلي في عمليات إعادة بناء مجتمعات ما بعد الصراع، وتحقيق السلام فيها؛ أو «السلام الليبرالي» كما يحلو لأكاديمييّ هذا المجال نعته 1 . يأتي هذا من مبدأ مفاده أنه لا يمكن الاعتماد على الجانب التدخلي وحده لهذه الهيئات لتحقيق أهداف «السلم» في المشروعات التي تتبناها الهيئات نفسها. وهو مبدأ يبدو منطقياً، ولو بصورة جزئية، لجهة أن «أهل مكة أدرى بشعابها»، وأن لمشاركة العنصر المحلي دور أساس في انجاح واستدامة أي سلام. لكن يبقى السؤال الكبير هنا: من أو ما هو العنصر المحلي في هذه المجتمعات المستقبلة؟ هل هو البنى السياسية أم الدينية أم القبلية أم الجنسوية؟ هل هو مجموع هذه التنويعات كلها؟ هل يختلف هذا العنصر باختلاف مجتمعه؟ أم هو البنية الأقوى مهما كانت طبيعتها أو توليفتها، وأياً كانت طبيعة علاقتها مع البنى المحلية الأقل قوة الأخرى؟
2
يعزو معظم دارسي تاريخ القومية والدولة القومية الحديثة، كالفيلسوف والانثروبولوجي البريطاني من أصل تشيكي أرنست غيلنر والمؤرخ البريطاني الماركسي إريك جون هوبزباوم، ظهور هذه المفاهيم وتطبيقاتها إلى آليات تحديث المجتمعات الأوربية خاصة خلال حقبة الثورة الصناعية. وبتطور هذه المفاهيم وتهجينها بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، تحولت الدولة الحديثة خاصةً في أوربا إلى دولة المواطنة التي تعتبر جميع مواطنيها سواسية في حضرة قوانينها الوضعية ودساتيرها القومية.
إلا أن بعض الأوساط المعاصرة، والتي قد تُحسب على تيارات ما بعد الحداثة، ترى في نمط هذه الدولة نمطاً ناجحاً بقدر ما يكون مجتمع هذه الدولة متجانساً، وتراه نمطاً فاشلاً بقدر ما يكون المجتمع متنوعاً. بالنسبة لهؤلاء فإن جميع مواطني الدولة الحديثة غير متساوين، وأن هناك لا عدالةً تعاني منها بعض فئات المجتمع المتمايزة ثقافياً. أقصد هنا بـ «ثقافياً»، المعنى الواسع للكلمة، الذي يتضمن الدين والإثنية والميثولوجيا وإلى ما هنالك من التشكيلات التي تصبغ المجموعات البشرية بمزايا محددة. بالنسبة لهؤلاء المشككين، مهما كانت الدولة الحديثة مدنية وديمقراطية وتكنوقراطية خاضعةً للقانون ومجردة من أي خصائص دينية أو عرقية، فإنها لا بد أن تحمل وتحمي خواصاً ثقافية خاصة بالأغلبية المكونة لمجتمعها. والمثال الأبرز عند هؤلاء هو أنه طالما كان لدولة كهذه لغة رسمية أساسية فإن هذه اللغة، لا بوصفها أداة تواصل بل بوصفها حامل لثقافة قوم محدد، تعمل ولو بصورة غير مباشرة على إيذاء الجماعات غير المتحدثة بهذه اللغة إيذاءاً ثقافياً.
يأتي على رأس هؤلاء الفيلسوف السياسي الكندي ويل كيمليكا، وأفكاره المتعلقة بما يسميها هو «الأقليات الوطنية» و«المواطنة متعددة الثقافات». فوفقاً لكمليكا يكمن الحل الأمثل لإدارة دولة متعددة الأٌعراق والطوائف في اللامركزية، وفي توفير قدرات وصلاحيات حَوكمية كبيرة نسبياً للعناصر المحلية الأقلوية، بهدف ضمان عدم إهدار حقوقها الثقافية والسياسية.
3
بعد غرق الجيش الأمريكي في حيثيات وتبعات تدخله في أفغانستان والعراق، ومن ثم طي عهد ما يسمى بـ «المحافظين الجدد» الليبراليين 2 ، لقيت فكرة الانكفاء التدخلي العسكري رواجاً كبيراً في الأوساط الأمريكية، خاصةً أثناء وفي أعقاب فوز الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما بمنصب الرئاسة، الذي تعهد وقام فعلاً بسحب جيشه من هذين الكيانين لا الدولتين (أفغانستان والعراق). إلا أن حالة الخواء الدولتي في العراق بعد الانسحاب الأمريكي، واتجاه الثورة السورية، لأسباب خارجة عن إرادتها بالطبع، نحو الحرب الأهلية، أعاد إدراج منطق التدخل الدولي ضمن أجندات الدول الكبرى، خاصةً بعد بروز ظاهرة داعش المنتشرة أساساً في العراق وسوريا، والضاربة أيضاً عبر شتى الحدود القومية للدول الإقليمية وكذلك الأوربية. لكن هذا التدخل في نسخته الحالية أتى مُعدلاً كما تجلى في ما يسمى باستراتيجية إدارة أوباما لقتال داعش، القائمة على ضرب التنظيم جواً والاعتماد على العناصر المحلية المقاتلة براً.
في الحالة السورية، برزت قوات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) كإحدى أقوى أعداء داعش. حالة العداء هذه يمكن تفسيرها، بعجالة، ضمن مستويات أيديولوجية واقتصادية وحَوكمية وإقليمية مختلفة.
فبينما يتبنى حزب الاتحاد الديمقراطي فكراً اشتراكياً علمانياً ولو نظرياً على الأقل، تعتمد أيديولوجية داعش على أكثر التفسيرات تشدداً للإرث والنصوص والتعاليم الدينية الإسلامية. إلى جانب ذلك، يتقاسم كل من داعش وحزب الاتحاد الديمقراطي السيطرة على إحدى أغنى المساحات الجغرافية السورية بموارد الطاقة والزراعة؛ الأمر الذي خلق بين الطرفين حالة من التنافس الاقتصادي خاصة في مجال التجارة السوداء في السوقين المحلية والإقليمية، كالتجارة مع النظام السوري وكذلك طرح المنتجات السورية، النفط ومشتقاته بالأساس، في السوق التركية. هذا ناهيك عن حالة التضاد الكاملة بين نموذجي الحوكمة لدى كل طرف، الخلافة الإسلامية في حالة داعش، والإدارة الذاتية الديمقراطية وكانتوناتها الثلاثة في حالة حزب الاتحاد الديمقراطي. على ألا يغفل عن أذهاننا الأسباب، وإن كانت ثانوية، التي أدت إلى تسارع معدل عسكرة الجانبين. فمن مخرجات ما تمسى بمسيرة السلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني التي بدأت في العام 2012 وانهارت قبل أيام، انسحاب مقاتلي الحزب إلى خارج الأراضي التركية 3 ، 4 حيث وجد هؤلاء المقاتلون في روجافا ملاذاً شديد الترحاب بهم نظراً لسيطرة فصيل من حزبهم عليها 5 . على الجانب الآخر أدى انهيار منظومات الجيش والشرطة والمصارف في محافظة نينوى العراقية إلى ترك كميات هائلة من المال والسلاح المتطور لقمة سائغة لتنظيم داعش، الذي استفاد بشكل هائل من هذه الإمكانات في قتال وحدات الحماية الشعبية في سوريا. 6
كل هذه العوامل أدت إلى تقديم حزب الاتحاد الديمقراطي على أنه الرقم واحد في مكافحة إرهاب وفظائع داعش. وأدت بالنتيجة إلى تعويم الحزب وميليشياه، وحدات الحماية الشعبية، بوصفها الحليف المحلي الأكثر فاعلية للولايات المتحدة ولاستراتيجية رئيسها الهجينة في مكافحة داعش. واستفاد الحزب من هذا التنسيق العملياتي العسكري بشكل كبير في تدعيم سلطة الأمر الواقع التي يتبوءها عبر تقديمه، أي التنسيق، كـ «شرعية دولية» تعزز شرعيته المحلية في الفضاء المحلي الذي يسيطر عليه.
من جهة أخرى وكما هو الحال في معظم المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة\حروبا أهلية، فإن صوت السلاح هو الأعلى وإن الجهة الأقوى عسكرياً (واقتصادياً أيضاً)، ضمن فريق ما، هي الجهة المسؤولة عن\المتحكمة بجميع ميادين الحياة ضمن الفريق نفسه. وبالرغم من أن استفراد هذه الجهة بسلطتها المحلية قد يكون له مبرراته الميكافيللية والواقعية (Realpolitik) من قبيل «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، فإن الوقوف في وجه الممارسات الخاطئة لهذه الجهة أثناء وبعد الصراع ضروري لمنع تراكمها، أي الممارسات، وتحولها، بمرور الزمن، إلى سلطة لها صفات الاستبداد والشمول.
في حالة حزب الاتحاد الديمقراطي، هناك العديد من حوادث الاعتداء على مراكز الأحزاب والتيارات السياسية الكردية الأخرى، التي اتهم مناصروها وموالوها حزب الاتحاد بالوقوف وراءها، كحادثة حرق مكتب حزب يكيتي في بلدة عامودا قبل عامين ونيف، والاعتداء على مقر حزب البارتي في مدينة الحسكة مؤخراً. هذا كله ناهيك عن عدم قيام مؤسسات الحزب القضائية بتوفير إجابات عن حالات التصفية الجسدية، التي جرت في ظروف غامضة، بحق عدد من الناشطين المحليين، وكذلك وجود اتهامات بتجنيد القاصرين والقاصرات قسراً للانضمام إلى صفوف ميليشيا الحزب كحادثة تجنيد الطفلة همرين عيدي على سبيل المثال لا الحصر 7 ، وادعاءات بوجود انتهاكات بحق السكان العرب في منطقة جنوب الرد من الجزيرة السورية. 8
يشير مجموع ونوع هذه الادعاءات إلى سير الحزب وهياكل سلطاته المحلية الحاكمة في سيرورات قد تفضي به وبها إلى التحول المطلق إلى بنىً غير ديمقراطية لا تحتمل وجود أصوات مخالفة لها. وأن الحزب وإن انتهت حالة الاقتتال في سوريا، فإن موقعه الحالي بوصفه شريكاً مقاتلاً محلياً قوياً في الحرب على الإرهاب سيمهد، على الأرجح، الطريق أمامه ليكون الشريك المحلي مع الجهات الدولية التي قد تنشط في سوريا ما بعد الصراع، ضمن نطاق نشاطات ما تسمى بإعادة البناء وترسيخ السلم.
4
يبدو مما سبق أن هناك تركيزاً متزايداً نشهده الآن على أهمية العنصر المحلي في بناء وإدارة الدول والمجتمعات التعددية. وأن هذا التركيز العولمي هو تركيز راسخ في الحقيقة له جذوره في الفلسفة السياسية المعاصرة، وفي أدوات العولمة كالمنظمات الدولية، وبصورة ملموسة أكثر في ميادين القتال وعسكرة المجتمعات ومكافحة الإرهاب.
تجدر الإشارة هنا إلى أن السلبية الأساسية لهذا التركيز لا تكمن في مبدأ أهمية العنصر المحلي بحد ذاته، والتي تبدو وبحق فكرة جذابة، بل في طبيعة هذا العنصر وبنيانه. فالكثير من الأسئلة بهذا الصدد غير واضحة الإجابة: كيف يفرز العنصر المحلي طبقة السلطة فيه؟ كيف ومن قبل أي جهة ضمن العنصر المحلي سيتم استخدام المزايا الممنوحة إليه؟ كيف يمكن ضمان حقوق أفراد\مواطني هذا العنصر المحلي إن كانت لهم توجهات ثقافية أو سياسية مغايرة للعنصر المحلي الذي [ينتمون] إليه؟ أي، كيف يمكن ضمان تعددية هذا العنصر نفسه؟ من يضمن عدم نشوء بنىً استبدادية محلية بصورة أو بأخرى ضمن العنصر المحلي؟
في حال عدم تقسيم الوطن السوري، فإن تنميط العناصر المحلية أو الأقليات الدينية والعرقية سيكون جوهر المشكلة التي سيعاني منها مواطنو سوريا المحسوبون على هذا العناصر المحلية. وقد لا تعني قابلية تطبيق أفكار ويل كيمليكا في حالة مقاطعة كيبك الكندية، بالضرورة، أن تكون كذلك في دول أخرى كسوريا. فالنظرة الرومانسية الزائدة للعنصر المحلي قد تحمل في طياتها مخاطر كبيرة. على أن كل هذا لا يعني إلغاء فكرة اللامركزية في سوريا المستقبل بل يعني ضرورة وجود أدوات وطنية دولتية مدنية يلجأ إليها جميع المواطنين من المركز واللامركز لمراقبة سلطتي المركز واللامركز على حد سواء. فالتخلص من نظام بشار الأسد وبناء سوريا مدنية لامركزية يجب ألا يعني الركون إلى سلطات محلية قد تصبح استبدادية.
هوامش
- ↑ Chandler, D.The uncritical critique of ‘liberal peace’. Review of International Studies (2010), 36, 137–155.
- ↑ قد يبدو وصف المحافظين بالليبراليين هنا مغالطة مفاهيمية للوهلة الأولى، لكن سياسيات هذا التيار، لا سيما الاقتصادية منها، ربما تبرر هذا الوصف.
- ↑ وفقاً لتقرير استخباراتي تركي فإن هناك حوالي 4 آلاف و500 مواطن تركي يقاتلون في صفوف وحدات الحماية الشعبية.
- ↑ يشير الكاتب التركي – المقرب من الكرد – فهيم تاشتكين إلى مقتل ما يزيد عن 500 مواطنٍ تركي أثناء قتالهم ضمن وحدات الحماية الشعبية ووحدات حماية المرأة في سوريا، الرقم الذي قد يشير إلى أن تواجد هؤلاء هو بالآلاف.
- ↑ روجافا هي التسمية التي يلقيها حزب الاتحاد الديمقراطي وتيارات سياسية وشعبية كردية سورية أخرى على المناطق الشمالية السورية ذات الغالبية الكردية.
- ↑ 6- الصفحة 78 من: Charles Lister (2014) Assessing Syria’s Jihad, Adelphi Series, 54:447-448, 71-98
- ↑ عرض حزب الاتحاد الديمقراطي شريط فيديو تظهر فيه همرين متحدثة عن عدم إجبارها من قبل أحد على الانضمام إلى قوات الحزب. إلا أن شقيق الطفلة مروان عيدي في مداخلة له على راديو صوت أمريكا – القسم الكردي، أكد أن أخته قاصر غير مسؤولة عن تصرفاتها، وأن الحزب أجبرها على التفوه بما قالته في ذاك الشريط.
- ↑ ينفي حزب الاتحاد عنه اتهامات التعرض للمدنيين، مشيراً في الوقت ذاته إلى وجود بعض الأفراد المتعاونين مع داعش من هذه المناطق.
موقع الجمهورية
“البعث…” ليس حلاً للمعضلة الكرديّة/ عمر قدور
غير قليلة هي الانتقادات التي يوجّهها مثقفون أكراد الى حزب الاتحاد الديموقراطي، بزعامة صالح مسلم. الانتقادات تُطوى غالباً إذا تعرّض الحزب نفسه لانتقادات من الضفة العربية، وحينها يُتّهم أصحابها بأنهم بعثيون أو داعشيون. ندرة من المثقفين الأكراد تحافظ على توازنها، وكذلك ندرة من المثقفين السوريين العرب تحافظ عليه، وسط الاصطفاف الحالي. باستخدام لغة الاتهام ذاتها، قد يجوز القول أن «البعث» أو «داعش» يتسربان من الشقوق أحياناً. المظلوميات القديمة والمستجدة ترجح استخدام لغة لا تعترف سوى بأوجاع أصحابها، فلا ترى الآخر إلا عدواً قديماً أو حالياً أو مستداماً.
في حواره مع جريدة «الحياة»، الذي أجراه رئيس التحرير غسان شربل، يحاول صالح مسلم الابتعاد عن واقع الاصطفاف الحالي. لكن للقفز على الواقع ضريبته، بخاصة عندما يقدّم سردية مثالية تتغاضى عن الوقائع أحياناً، وتلوي عنقها أحياناً أخرى. لقد عرف السوريون، وغيرهم من شعوب المنطقة، سرديات شبيهة. البعث نفسه لم يكن سوى تلك الأدلوجة القومية «المشرقة» التي خبأت تحتها اضطهاداً للجميع، وأهم ما خبأته أنها لم تكن يوماً إلا مشروع سلطة واستبداد. إجابات من قبيل «نحن لدينا العقد الاجتماعي، أي نوع من الدستور بين المكونات، وهو متقدّم. بعض الدول الأوروبية قال أنه أكثر تقدماً من تشريعات معمول بها في بعض دول الاتحاد الأوروبي»، لا يُستبعد أن تُذكّر بمقولة الرسالة الخالدة للبعث، بخاصة عندما يُسترجع التاريخ في جزء آخر من الحوار، فيرى صاحبها الإمبراطوريات القديمة بوصفها عربية أو فارسية، باستثناء حكم الأيوبيين الذي لم يكن كردياً. فهنا يُقفز على تاريخ السلالات الإمبراطورية في المنطقة، ويُجرد الأمويون والعباسيون ليصبحوا محض عرب كما صوّرهم البعث، ويُقفز أيضاً عن حكم سلالات أخرى لم تكن عربية مثل البويهيين والسلاجقة. وأهم ما يُقفز عنه، وهو ما يستغلّه «داعش» وأشباهه، ألا يُقرأ ذلك التاريخ بوصفه حقبة إمبراطورية إسلامية انقضى عهدها كشأن العهود الإمبراطورية جميعاً، وألاّ ميزة لأحد يمكن تحصيلها منه اليوم.
من حق صالح مسلم، كقائد حزبي، الترويج لقناعاته وسلوك أتباعه، مثلما من حق الآخرين خلخلة تلك الصورة التي يقدّمها. على سبيل المثال، يُستنتج من حديثه الوردي عن الإدارة الذاتية، في المناطق ذات الغالبية الكردية في سورية، وجود مثال مشرق جداً على التعايش بين مكوناتها، إلا أن وقائع ثابتة على وجود معتقلين سياسيين أكراد في كانتونَي الجزيرة وعفرين لا بد أن تنتقص من تلك الصورة الزاهية، وأن تستبعد تمتّع المكونات الأخرى بها. بالمثل، لا يستقيم النفي المطلق لوجود أي تجاوز لقوات الحزب، على حساب السكان العرب، مع الحديث عن تصحيح مظالم التعريب، والتنويه بأن التعريب الذي قام به حكم البعث لم يقتصر على وضع أسماء عربية بدل الكردية، بل كان أهم جوانبه اقتصادياً يتعلّق بتوزيع الأراضي فترة ما سُمي الإصلاح الزراعي، ثم منح قسم منها للعرب الذين غُمرت أراضيهم مع إنشاء سد الفرات.
في الواقع، كان هذا الجانب هو سبب الإحقان الأكبر، والاقتتال في العديد من الأحيان، بين ما يُسمى «عرب الغمر» والأكراد، وهو أيضاً سبب الاحتقان عندما رافق تحرير تل أبيض حديثٌ كردي عن تهجير قديم لأكرادها، وتزامن مع اتهامات تطهير عرقي لم تحقق فيها جهة حقوقية محايدة.
سيكون مؤسفاً دائماً قسر الوقائع، بما في ذلك أصغرها، وسيكون مؤسفاً ألا يكون زعيم الحزب المهيمن مطلعاً على حيثيات أهم انتفاضة كردية سورية قريبة العهد. فهو يقدّم رواية مؤامراتية مكتملة الأركان، تبدأ بالإعلان عن مباراة بين فريق من القامشلي وآخر من دير الزور على أرض الأول، استغلّها المشجعون العرب «الصداميون» لشتم قيادات كردية في أرض الملعب، وتولى التلفزيون نقلها مساهمة في توتير الأجواء. مؤسف ألا يعرف مسلم أن المباراة كانت تجري ضمن جدول للدوري مقرر لجميع فرق الدرجة الأولى، وأن كاميرا التلفزيون كانت تتنقل ضمن الملاعب كافة التي تجرى فيها المباريات في التوقيت ذاته، وما حدث أن إدارة التلفزيون أوقفت البثّ نهائياً عن ملعب القامشلي عندما أدركت تجاوز ما يحدث فيه مظاهرَ شغب الملاعب المعتاد.
ذلك كله لا ينفي وجود نية مبيّتة لدى النظام لترويع الأكراد، وإفهامهم ألا يستبشروا خيراً بالمكتسبات التي حصل عليها أكراد العراق.
تعقيباً منه على قمع بشار الأسد الانتفاضة الكردية، يضيف مسلم: «أنا أعتقد أن الأسد تحدّى الأكراد لإرضاء الأتراك، وهذا فخّ وقع فيه»، ثم «نعم دفعنا ثمن الأخوة بين بشار وأردوغان». هنا، وطوال الحوار، يهيمن الشبح التركي بوصفه عدو أكراد سورية الأكبر، وكأن ممارسات نظام الأسد في حق الأكراد ليست نابعة من بنيته القمعية أصلاً! التعجب لن يزول مع نفي مسلم أن يكون النظام قد تنازل عن السيطرة على المناطق ذات الغالبية الكردية بلا قتال، ولا مع واقعة عدم تعرّضها لعمليات انتقام جوية على غرار المناطق الأخرى، بما فيها المناطق العربية الملاصقة للحدود التركية.
التعجب يزول في ما لا تعلنه القيادة الكردية، وهو أن النظام تنازل عن تلك المناطق ضمن صفقة ينأى بموجبها الأكراد عن الحرب الدائرة في سورية، وكان من مندرجاتها أن يقمع حزب الاتحاد الديموقراطي التظاهرات المؤيدة للثورة في كوباني والجزيرة، وأن تطلق قواته الرصاص على المتظاهرين في مناسبات عدة في عامودا وكوباني. لكن أهم ما تدركه القيادة الكردية، ولا تعلنه، أن النظام في تخلّيه عن المناطق ذات الغالبية الكردية مطمئن إلى أن «عدوه» التركي لن يسمح بقيام كيان كردي فيها، ولن يكون عسيراً استرجاعها في ما لو قُيّض له البقاء.
أن يعلن صالح مسلم أن الثورة الحقيقية حدثت في المناطق الكردية فقط، وأن ما تشهده المناطق الأخرى «صراع على السلطة»، وأن يعيب على مناطق مثل درعا وغيرها من تلك الواقعة تحت قصف قوات النظام، عدم بلورتها إدارة ذاتية، فهذا هو الانفصال الفعلي الذي ينفيه وهو يركز على إرسال تطمينات تخصّ نوايا انفصالية محتملة لدى أكراد سورية. النزوع إلى الاستقلال ليس عيباً أو نقيصة، وبالمقارنة قد يكون الاستقلال أفضل من الجدران اللامرئية السميكة التي تعززها شعارات لا تنسجم مع الوقائع، أليس هذا ما فعله البعث؟
الحياة
القواعد الاجتماعية للأحزاب الكرديّة السوريّة/ رستم محمود
الجزء الأول
مقدمة
طوال نصف قرن، سيطرت رؤية كلية وفوقية حول الأكراد السوريين، تراهم كتلة بشرية/سياسية على شكل جماعة قومية فقط، كتلة متماهية ومتصالحة مع ذاتها، كجزء من النظرة التعميمية التي غلب عليها الطابع السياسي والفهم التقليدي لعموم الأكراد في المنطقة. لكن ما ضاعف هذا التعميم على الأكراد السوريين هي الإيدلوجية «القومية العربية» التي توشح بها النظام السوري منذ قرابة نصف قرن؛ والتي كبحت وأخفت أية تفاصيل عن الطبائع الاجتماعية والسمات الثقافية للمجتمع الكردي السوري. الأمر الأخير كان يتعلق بضمور المسألة الكردية في البلاد، مقارنة بنظيرتيها في كل من العراق وتركيا، لصغر الحجم الديموغرافي للكرد السوريين.
على عكس ذلك تماما، فأن المجتمع الكردي السوري –قرابة مليوني نسمة- كان جزءاً «عادياً» من عموم الطيف الاجتماعي-السياسي الشرق أوسطي، بألوانه وتنوعاته الطبقية والجهوية والثقافية والمجتمعية والتعليمية والدينية والمذهبية، وكذلك بديناميكيات وآليات حركته وتحولاته؛ حيث تشكل هذه التركيبة كلها أدوات لفهم ووعي المجتمع الكردي السوري وعلاقته مع باقي الأطياف المجتمعية السورية والمؤسسات الأهلية والمدنية والرسمية، وعموم الشأن العام في البلاد.
الاستثناء كان بافتقاد المجتمع الكردي السوري للحد الأدنى من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بينما تضخمت التنظيمات/الأحزاب السياسية «غير الشرعية» رسميا، حيث غدت تلك الأحزاب تقريبا شكل الانتظام الاجتماعي الوحيد بين الأكراد السوريين منذ أكثر من نصف قرن.
سؤال البحث الرئيسي:
ما هي الخصائص الاجتماعية الثقافية والاقتصادية والمناطقية والطبقية للقواعد الاجتماعية للأحزاب السياسية الكردية السورية، وكيف تحولت تلك الخصائص بالتقادم. وماهي دلالة تلك الخصائص وتلك التحولات.
مضامين البحث.
سيتضمن البحث خمسة أجزاء متكاملة:
فقرة توصيفية لطبيعة المجتمع الكردي السوري وخصائصه وأهم سماته وتحولاته.
فقرة حول الحركة السياسية الكردية في سوريا، مبرزة أهم سمات الأحزاب السياسية الرئيسية الأربعة.
فقرة رابطة بين هذا الطيف الاجتماعي الكردي السوري وهذه التنظيمات السياسي الكردية السورية.
فقرة تحليل كلي لتحولات المجتمع الكردي في سوريا.
يعتقد البحث أن ذلك ترتيب منطقي لفهم وقراءة القواعد الاجتماعي للأحزاب الكردية في سوريا، لأنه يؤمن بوجود سمات وفوارق وتطيف حقيقي بين «الكُتل» المشكلة لهذا المجتمع المتعين، وأن اندراج أجزاء منه ضمن تيار سياسي دون غيره ليس أمرا اعتباطيا، إنما ناتج عن تطابق وتماه بين عدد من السمات الطبقية والمناطقية، حيث يكون الموقع الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي متماه مع هذا التيار السياسي أو ذلك. وأن طبيعة هذا التوافق بين هذا التشكيلات الاجتماعية مع تلك التيارات السياسية، ذو دلالات عميقة على طبيعة الديناميكيات والتحولات التي مر بها المجتمع الكردي السوري.
منهجية البحث:
يعتمد البحث في بناء توصيفيه وتحليله على ثلاث أدوات معرفية رئيسية:
تحليل الوثائق والأدبيات الصادرة عن هذه التنظيمات السياسية الكردية السورية.
مقابلات أجراها الباحث مع قادة رأي ونُخب العمل السياسي الكردي السوري.
معايشة الباحث للبيئة الاجتماعية والسياسية الكردية السورية طوال عشرات السنوات.
إذ يتقصد الباحث التحليل والتوصيف، فأنه يسعى قدر المستطاع الابتعاد عن اللغة القيمية وميول التقييم.
- الأكراد السوريين، من البداوة إلى المدينية.
1.1. تعيين تاريخي.
لا يُقصد ب ال«تعيين تاريخي»، النبش عن تاريخ وجود الأكراد في سوريا، بدءاً من تكون الدولة السورية الحديثة 2 وحتى الوقت الراهن. بل يحاول تعيين بعض الخصائص الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الكردي السوري، منذ تكون الدولة السورية وحتى الراهن.
تاريخياً، شكل نمط الإنتاج الزراعي المظهر الاقتصادي الأبرز الذي يمتهنه الأكراد السوريون. حيث تنتشر الزراعات السهلية (زراعة الحبوب والقطن بالذات) في مناطق التواجد الكردي في محافظة الحسكة ومنطقة عين عرب، بينما تنتشر الزراعات الشجرية، وبالذات شجر الزيتون، في منطقة عفرين.
ذلك النمط كان ترافق مع وجود نسبي -متناقص مع التقادم التاريخي- لرعاية قطعان المواشي، في منطقتي الحسكة وعين عرب. طبعاً ذلك النمط كان يعتبر سائداً بشكل شبه مطلق في المراحل التاريخية الأقدم، وترافق مع أنماط إنتاجية أخرى في المراحل الأحدث، وإن بقي غالباً في المراحل كافة. كما أن الأكراد المقيمين في مدينتي دمشق وحلب يمتهنون المهن المدينية التقليدية.
ذلك النمط الاقتصادي الزراعي، كان مترافقاً مع تشكل قوي (بدرجة أكبر في منطقة عين عرب والحسكة) للروابط والتراتب العشائري، مع انتشار للطرق الصوفية والمشيخات الدينية التقليدية، على الصعيدين الاجتماعي والثقافي. لكن أكراد عفرين،يمتلكون نمطاً عميقاً من الولاء والترابط المناطقي القروي لسكان القرية الواحدة، حيث يعود ذلك بجزء منه، لطبيعة الاستقرار الدائم لسكان تلك القرى، متشابكاً مع ما يتطلبه نمط الزراعة الشجرية الجبلية من التضامن المناطقي الأضيق. بينما كان أكراد دمشق، الذين قدموا من بيئات مختلفة، ولا يجمع بينهم سوى الروابط اللغوية والإثنية المشتركة، كانوا يعيشون شكل التكافل الحاراتي (الانتماء للحارة الواحدة) في تنميط حياتهم المجتمعية.
لكن أبزر ملمح يساهم في فهم الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية التاريخية لمجتمع الأكراد السوريين كامن في غياب المدن التاريخية الكبيرة، التي عملت تقليدياً كبوتقة لتكون مؤسسات وتقاليد الحياة المدنية وترسيخ ثقافتها وقيمها.
2.1. عوامل تحوّل تقليدية.
كان ثمة بعض العوامل التاريخية التي ساهمت بإحداث تحولات في تلك البيئة الاجتماعية «الخاملة»:
– نزوح الكثير من النخب الثقافية والاقتصادية والاجتماعية الكردية من تركيا نحو سوريا. حيث إنه بُعيد فشل الثورة الكردية عام 1925 (ثورة الشيخ سعيد بيران)، مارست السلطات التركية وقتها نوعاً من العقاب القاسي بحق الطبقة الإقطاعية والبرجوازية والمدينية المتعلمة الكردية في تركيا. فقد كانت السلطات التركية تعتبر تآلف تلك الطبقات الكردية، هو السبب التكويني لاندلاع الثورات والتمردات في المناطق الكردية، فطبقت بحقها سياسات عقابية قاسية، الشيء الذي دفع بهؤلاء للنزوح نحو سوريا، التي كانت تشكل نوعاً من الحماية بالنسبة لهم؛ بسبب الوجود الفرنسي وقتها. حملت تلك الطبقة ثقافتها المدينية، ومستوها التعليمي العالي نسبياً، والمتكونة تاريخياً في المؤسسات التعلمية العثمانية المركزية في اسطنبول. كما أنها كانت تملك انماطاً معيشية وخيارات اجتماعية مختلفة وخاصة 3 . حيث أثرت بشكل كبير على المجتمع الكردي السوري الذي عاشت وسطه، اجتماعياً وثقافياً. وحددت فيما بعد الكثير من خياراته السياسية وتوجهاته.
– طبيعة مجاورة الأكراد للأرمن والسريان في البلدات والمدن المتشكلة حديثاً في بدايات القرن الجديد (بالذات أكراد محافظة الحسكة ومنطقة عين عرب)، أثرت على المجتمع الكردي ووعيه بدور الحياة المدنية الحديثة وأهميتها. فالأرمن والسريان الذين كانت كنيستهم التاريخية، تشكل مركزاً «معرفياً ومؤسساتياً» عميقاً في مجتمعهم، لها نواديها الرياضية 4 وفرقها الكشفية ومؤسسات للكفالة الاجتماعية والطبية …إلخ، كما كانت تشرف بشكل غير مباشر على عدد من الحلقات الفنية والثقافية. كانت لهذه المجاورة بين الأكراد والسريان والأرمن، تأثيراً على الأكراد في هذا المنحى.
– كانت المؤسسات التقليدية الدينية، تتمثل بجملة التكايا والمعاهد والمرجعيات الدينية الصوفية والتعليمية الشرعية. فهذه «التنظيمات» كانت تعدّ امتداداً تاريخياً طبيعياً لشكلها العثماني التقليدي. حيث كانت السلطات العثمانية تعتبر تلك المؤسسات الدينية الصوفية أداتها لضبط الأمن وضمان الولاء. طبعاً، كان ذلك إلى جانب اعتمادها المباشر على القوة العسكرية، فالمناطق الكردية الوعرة، كانت من أكثر مناطق الإمبراطورية العثمانية ممانعة للخضوع والسيطرة. الشكل التنظيمي لتلك التكايا والمعاهد، كان يختصر بمجمع صغير في إحدى القرى، حيث يقيم شيخ الطريقة، وعدد أصغر من التكايا في القرى الأبعد. كانت تُدرس في تلك المجمعات المركزية التدريسية جملة من العلوم الفقهية؛ ثم يوزع المتخرجون على القرى، ومن هناك يديرون الشؤون الدينية. لم يختصر دور الشيوخ والخريجين (الملالي) على الحيز الديني، بل كانوا جزءاً مهماً من اللعبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في تلك المناطق، خصوصاً وأنه كان يُعرف عنهم ولاؤهم المباشر للإقطاعية الزراعية الكردية فيها، ومنذ بداية الأربعينات وحتى نهاية الستينات، تعزز الدور المباشر لتك الزعامات الصوفية، بسبب صعود نفوذ الحزب الشيوعي السوري بين أكراد الجزيرة ومنطقة عفرين. كما أنها كانت دوماً تشكل حيزاً مضاداً للأفكار القومية الكردية، وهو الشيء الذي أتاح لها مجالاً أوسع في العقود الأخيرة من تاريخ سورية السياسي.كان للكثير من العائلات التي قادت تلك الطرق الصوفية دور كبير في الحياة السياسية والاجتماعية للأكراد السوريين، ومازال لها بعض الدور، وإن لم يكن بذلك الزخم الذي كان، مثل عائلة الخزنويوحقي وحجي موسى…إلخ. فالتصوف يعتبر الطريقة التعبيرية الأبرز في الممارسة الدينية لدى المجتمع الكردي السوري.
لكن الدور السياسي لهذه التكايا كان أعمق في منطقة عفرين، خصوصاً في الفترة التي شهدت فيها حركة مسلحة ضد الفرنسيين والإقطاعية المحلية، أو ما سميت ب«حركة المريدين»، فتلك الحركة تكونت لمواجهة القوانين الوضعية الفرنسية وسلطة الآغوات الذين كانوا على وفاق اجتماعي وسياسي مع مؤسسات الحٌكم الفرنسية 5 .
3.1. عوامل تحول حديثة.
ما يُقصد بعوامل التحول الحديثة، هي تلك الآليات الجديدة التي طرأت على المجتمع الكردي السوري عقب تكامل تشكل الكيان السوري جغرافياً وسياسياً ككيان واحد، وبتأثير هذا الكيان بمؤسساته وسياساته ومساره التاريخي.
فالمنطقة الكردية السورية عاشت فترات مديدة في حيز جغرافي «قلق الكيانية». فهو كان جزءاً تاريخياً تقليدياً من جماعة إثنية وقعت بأغلبيتها المطلقة ضمن الأراضي الحديثة للدولة التركية عقب الحرب العالمية الأولى، حيث كان أكراد تركيا الامتداد الاجتماعي الجغرافي التقليدي للأكراد السوريين، وهم بقيوا بأغلبيتهم المطلقة ضمن الكيان التركي، وكانت جميع المساعي السياسية التركية في مماحكاتها مع الوجود الفرنسي تميل لضم هذه المناطق ذات الأغلبية الكردية في الشمال للكيان التركي الجديد، بالضبط مثلما فعلت فيما بعد مع لواء اسكندرون 6 . كما أن شعوراً قومياً كردياً كان يتنامى منذ بدايات تشكل الكيان السوري الحديث وحتى نهاية فترة الحُكم الفرنسي في أواسط الأربعينات، شعور يميل لنيل الاستقلال عن الدولة السورية، أو أخذ سمة الدويلة ضمن الدولة السورية الكلية 7 . الأمر الأخير فيما خص «القلق الكياني» هو عدم وجود بيئة سكانية وبشرية تقليدية مستقرة في تلك المنطقة. فتلك المنطقة تأسست بالجوهر من تجمع واستقرار المهاجرين الكرد والبدو العرب والمنفيين السريان والأرمن، وعلى دفعات متتالية منذ بداية القرن العشرين وحتى الأربعينات منه، خصوصاً في منطقة الجزيرة وكوباني (عين عرب) 8 .
انتهى ذلك «القلق» الكياني مع بداية الحُكم الوطني لعموم البلاد بُعيد الخروج الفرنسي عام 1946، وبداية تأسيس المؤسسات الوطنية المركزية، واندماج جزء من النُخب السياسية والاقتصادية الكردية في الكل السوري، وبدأت مرحلة تأثير الجغرافيا الاجتماعية الكردية في مؤسسات الدولة المركزية. وهو نفس العامل الذي أكسب المجتمع الكردي السوري مزيجاً من السمات التي تميزه عن باقي أقرانه في كلٍ من العراق وتركيا. وهذه العوامل هي:
– كان الأكراد السوريون يمتدون على طيف ريفي واسع. ويبقى وجود بعض «المدن» الصغيرة التقليدية، ذو تأثير طفيف في/على تحولات المجتمع الريفي التكويني، كونها لا تعتبر مدناً بالمعنى العميق؛ فجل سكانها من المهاجريين الريفيين، حيث تستمر روابطهم، شديدة العمق بالريف وثقافته ونمط إنتاجه. وكون حجمها يبقى محدوداً 9 .
منذ بداية الخمسينات بدأت عملية نمو شديدة لتلك البلدات «الكردية» وكانت مدينة القامشلي أولى الحواضر السكانية التي يزيد سكانها عن مئة ألف نسمة وذات أغلبية سكانية كردية. ثم في بداية السبعينات تحولت كل من مدينتي عفرين والحسكة لذلك الرقم. مع نمو للحجم السكاني في البلدات السكانية الأخرى الأصغر حجماً، كالمالكية في أقصى الشمال الشرقي وعامودا وكوباني…إلخ، فقد تراوح عدد سكان كل واحدة منها بين 50-100 ألف نسمة. كان التضخم السكاني في هذه المدن قد جلب معه المؤسسات المدينية التي كانت عامرة في سوريا الخمسينات، المدارس ودور السينما والمراكز الثقافية والمقاهي. والتي عنت بدرجة معقولة تنمية اجتماعية وتبديلاً لسلم القيم الاجتماعية وتبدلاً في منظومة القيم التقليدية للتراتبية الاجتماعية. فانحسر حضور دور الزعماء التقليديين، العشائريين والدينيين، وبات لاقتصاد المدينة التبادلي وشبه الصناعي والخدمي دور واسع في الحياة البينية.
– التحول في مؤسسات التعليم. فذاك الطيف الريفي-البدوي الكردي الواسع في سهول الشمال السوري، المتراكب مع بيئة خالية من تقاليد المدن التاريخية العريقة، لم يشهد تقريباً أي نمط من مؤسسات التعليم، حتى تلك التقليدية منها، والتي كانت في بعض المناطق السورية الأخرى، كحلب ودمشق والساحل السوري، فشبكات التصوف وتكايا التعليم الديني لم تكن تفتقر للبنى المؤسساتية والأدوات والمناهج المعرفية بحدها الأدنى فحسب، بل كانت محاربة بشكل عميق لتأسيس تلك المؤسسات 10 .
بدأت المدارس «المدنية» والدينية في الشمال السوري ذو الأغلبية السكانية الكردية منذ أواسط العشرينات، لكنها كانت محدودة للغاية وحكراً على نُخبة محددة من سكان المُدن الذين كانوا بأغلبيتهم المطلقة من غير الأكراد –أرمن وسريان ويهود-، فالانتماء لهذه المؤسسات التعليمية لم يبدأ بالنسبة للمجتمع الكردي السوري إلا مع أواسط الخمسينات حينما بدأ التعليم بالانتشار الأفقي في كثيرٍ من مناطق الريف السوري مع طابعه المجاني، ومنذ أواسط السبعينات كان التعليم قد بات عاملاً تأسيسياً لتغير مقاييس السلّم الاجتماعي في كافة المناطق الكردية، وغدا المجتمع الكردي يرى في التحصيل المعرفي قيمة عليا؛ وكان للأحزاب القومية الكردية السورية اليسارية والحزب الشيوعي السوري دور بارز في حجز مكانة ممتازة للتعليم في المجتمع الكردي منذ بداية الستينات من القرن المنصرم.
– التحول في «الوعي الجمعي» للأكراد السورين، وبدء «التعرف على الذات الجمعية». فالأكراد السوريين لم يكونوا على تواصل تاريخي حيوي، لأنهم كانوا يحيون في مناطق جغرافيةٍ (الأقاليم الثلاث الجزيرة وكوباني وعفرين) بعيدة عن بعضها. فوسائل الاتصال والنقل كانت بالغة الصعوبة في المراحل التي سبقت الستينات من القرن المنصرم. أُضيف لها انعدام العلاقات الاقتصادية بين الأقاليم الثلاث تلك.
مع ترسخ الكيان السوري بدأ فرط التسييس في «الوعي الجمعي» للأكراد السورين بالصعود. فبتماسهم المباشر مع أكراد العراق وتركيا، حضرت القضية الكردية العامة، بمعناها السياسي المباشر، بكثافة في المجتمع الكردي السوري، فتلك القضية كانت ساخنة دوماً في هذين البلدين (العراق وتركيا)، ودوماً كانت تعتبر المجال الكردي السوري ساحة خلفية يمكن الانطلاق منها. الشيء الذي كان يشجع ذلك، هو طبيعة الارتباط الضمني بين الحركات القومية الكردية في تلك البلاد والنظام السياسي الحاكم في سوريا، الذي كان يغض النظر عنها لتنشط في الاوساط الكردية السورية (منذ بداية السبعينات ومع حُكم حافظ الأسد بالضبط). هذا الحضور الكثيف خلق ربطاً محكماً لل«الوعي الجمعي» الكردي السوري والنزعة السياسة القومية بمعناها المحض والجاف، وهو ما يفسر تعارف المكونات الاجتماعي الكردية السورية على بعضها البعض في الأقاليم الثلاث 11 .
– تحول الدولة لدينامية مركزية في الحركة المجتمعية، نقصد بالضبط طبيعة هضم الدولة للمجتمع الداخلي السوري، الدولة ومعها جزء كبير من النخب السياسية والثقافية السورية في فهمها للملف والحضور الكردي في البلاد. فالثقافة الكردية لم يعترف بها في أي وقت كثقافة وطنية تكوينية، كما أن الشق السياسي بقي محصوراً بجانبه الأمني فحسب، حتى أن الأكراد لم يٌعترّف بهم، ولو بشكل إعلامي بحت، إلا عقب أحداث القامشلي عام 2004.
هذا التضييق على الأكراد وثقافتهم، خنق روح المبادرة المجتمعية المدنية الكردية. حتى تلك التي كانت في حالات كثيرة تراعي خصوصية الوضع الكردي، ولم تكن تصدر تحت عناوين قومية كردية مباشرة، ولم تكن تذكر أي صلة لها بالتنظيمات السياسية الكردية، لكنها كانت تواجه دوماً بالرفض من قبل المؤسسات الرسمية وبالقمع الأمني، حتى لو كانت في مجالات الموسيقا أو الأدب أو حقوق المرأة …إلخ. كان ثمة تهم مباشرة وجاهزة تطال أغلب الناشطين المدنيين الأكراد السوريين «محاولة فصل جزء من الأراضي السورية وإلحاقه بدولة أجنبية» 12 .مثل هذه الاتهامات كانت تؤدي إلى محاكمات «جائرة» أمام محكمة أمن الدولة العليا أو المحاكم العسكرية.
ما تحدد هنا بالذات هو تشوه تطور المجتمع الكردي السوري مقارنة بنظرائه من المجتمعات السورية المحلية، فالبيئات الكردية كان شبه معسّكرة وعليها قيود وحساسيات أمنية مبالغ فيها جداً، طرفية ومهمشة وغير نامية. لم يكن ذلك يحدث بمستوى وآلية واحدة طوال سنوات العقود الستة الماضية، لكنها في فترات حُكم عبد الناصر لسورية ومن ثم فترة حُكم البعثيين شهدت ذلك بعنف أرعن. إي أنه ليس الأكراد وحدهم من كانوا يعانون من فرط في تسيس هويتهم ووعيهم لذاتهم، بل إن الدولة بمؤسساتها أيضاً كانت كذلك، في وعيها وفهمها للكرد ومسألتهم.
4.1. أطياف المجتمع الكردي.
كان المجتمع الكردي قد دخل القرن العشرين بطيف بالغ البساطة من «التنوع» الاجتماعي، حيث طبقة ملاكي الأراضي وقطعان الغنم الصغيرة نسبياً، يقابلها السواد الأعظم من الفلاحيين والرعاة القرويين البسطاء.
مع أنه لم تكن ثمة سمات وخصائص تباين اجتماعي واقتصادي وثقافي وقيمي واضحة بين هاتين الطبقتين اللتين كانتا تتمايزان بالملكية فحسب. لكن بعد حدوث تلك التأثيرات والتحولات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، طوال قرابة قرن كامل، بات المجتمع الكردي السوري «راهناً» يتوزع على أربعة مستويات:
1.4.1. اقتصادياً: بعد عمليات الإصلاح الزراعي، وتفتت ملكيات الأراضي الواسعة، انهارت طبقة الإقطاعيين الكبار، وانهارت معها إلى حد بعيد روابط العلاقات العشائرية. تالياً بات في المجتمع الكردي اقتصادياً ثلاث طبقات؛ المزارعون الريفيون متوسطو الملكية، الذين تتراوح ملكيتهم بين 10-50 هكتار من الأراضي الزراعية في سهول الشمال السوري، أو تلال إقليم عفرين الشجرية. ثانياً الطبقة الوسطى من المشتغلين في النشاط الاقتصادي للمدن، الفنيون والبيروقراطيين وصغار التجار وموظفي الدولة…إلخ. وأخيرا طبقة العمال والعاطلين عن العمل، الذين يشكلون الفقراء المسحوقين.
2.4.1 جهوياً: سكان المدن المنتشرين في البلدات والمدن «الكردية» حديثة التكوين، على طول الشريط الحدودي الشمالي مع تركيا. هذه البلدات من أقصى الشمال الشرقي حتى أقصى الشمال الغربي هي: المالكية «ديريك»، القامشلي، عامودا،الدرباسية، كوباني، عفرين. حيث خلا مدينة القامشلي (400 ألف نسمة تقريباً) فإن أعداد سكان هذه البلدات تتراوح بين 40-60 ألف نسمة. يقابلهم القرويون المستقرون، الذين استفادوا من قوانين الإصلاح الزراعي، وكذلك من توسع مشاريع التنمية وانتشار التعليم ووصول الطرق إلى قراهم النائية، وباقي الخدمات التي وفرتها سنوات التنمية النسبية منذ السبعينات.
3.4.1 تعليمياً: انتهت طبقة رجال الدين، الذين كانوا يحتكرون المجالين الديني و«المعرفي» في المجتمع الكردي، لسبب التحديث نفسه المذكور سابقاً، ولصعود نفوذ التيار السياسي لحزب العمال الكردستاني «PKK» في أوساط الأكراد السوريين منذ أواسط الثمانينات. هذا التحطيم كان له تأسيس أولي عبر الحزب الشيوعي السوري، الذي كان ذا نفوذ واسع في أوساط الأكراد السوريين. وبات في المجتمع الكردي طبقتان تعليميتان متمايزتان: الأميّون كتابياً ومعرفياً الذين لم يحصلوا على الحد الأدنى من التعليم المدرسي والتحصيل المعرفي. هؤلاء الذين كانوا ينتشرون في سهوب الأرياف الكردية وضواحي المدن، وكذلك أغلب طبقة العمال المهاجرين إلى المدن السورية الكبرى، حلب ودمشق وحمص. الجدير بالذكر هنا، أن طبقة الأميين المعرفيين الأكراد في سوريا عانت بشكل مضاعف من «أميّتها» المعرفية هذه، فعدم إتقانها للغة العربية أخرجها تماماً من عموم المتن الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي والإعلامي في البلاد، فهذه القطاعات كانت كلها باللغة العربية، ولا يمكن لأي أحد لا يتقن هذه اللغة أن يغدو جزءاً طبيعياً من ديناميكيتاها.
مقابل هؤلاء، كان ثمة الطبقة التعليمية الكردية الوسطى، والتي كانت تتطابق تماماً مع الطبقة الوسطى الاقتصادية، فهم لم يكونوا من طبقة كبار المزارعين ولا من الفلاحين الأقل دخلاً، بل من أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين الأكراد من الريف نحو المدن الحديثة التكون، اعتباراً من خمسينات القرن المنصرم. هذان الجيلان الكرديان اللذان باتا متن هذه المدن «الكردية» حديثة التكون، وباتوا ينافسون الطبقة الاجتماعية السريانية المتعلمة والطبقة الاجتماعية الأرمنية شبه الصناعية واليهودية التجارية في هذه المدن.
- الحركة السياسية الكردية من فشل العقد التأسيسي للصدام
لا يمكن وعي الطبيعة التنظيمية والإيدلوجية للأحزاب الكردية السورية، والتي تُعدُّ محدداً جوهرياً لسمات قواعدها الاجتماعية، لا يمكن وعي ذلك بشكل دقيق دون إدراك مسألتين سابقتين، تتعلق الأولى بمسار تشكل «المسألة الكردية» في سوريا، والأخرى تتعلق بالتجارب السابقة لانتظام طيف من المجتمع الكردي السوري في تنظيمات سياسية سورية غير قومية كردية، وأخيراً باللحظة والمرجعيات التي تأسست فيها هذه التنظيمات السياسية/القومية الكردية السورية.
1.2 تشكل المسألة الكردية كتصارع قومي.
1.1.2 التأسيس.
يمكن رد المسألة الكردية في سوريا إلى ما يسمى بـ «انزياح أو انحياز العقد التأسيسي للدولة». فالدولة السورية لم تكن ثمرة تفاعلات اقتصادية وثقافية وسياسية داخلية جيدة ومناسبة، مارسها المجتمع السوري الراهن على فترات زمنية طويلة أرسى فيها قواعد عقد «دولتي» مشترك بين مختلف مكوناته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
كان الدور الأكبر في تكون الدولة السورية بشكلها الكياني الراهن 13 ، يعود لتفاعلات القوى الدولية التي هيمنت على الشرق الأوسط، عقب انتصارها في الحرب العالمية الأولى في عشرينات القرن المنصرم. لذلك جاءت الدولة السورية غير متساوية المسافة من كل ساكنيها.
الشكل السياسي الأولي للدولة السورية تركز عملياً في المنطقتين الأكثر كثافةً وتمدناً وقتئذ، العاصمة دمشق ومدينة حلب، ونسبياً في مدينتي حُمص وحماة؛ لذلك صبغت الهوية السياسية والثقافية الرمزية السورية بالقومية العربية وبالبُعد الإسلامي السُني. نقصد هنا ب«الهوية الكيانية» هذه اللغة الرسمية الوحيدة –العربية- والتعريف الدستوري للسكان والعلاقات الخارجية وطبيعة وهوية النُخب الحاكمة والمسيطرة، والتي انحدرت بمجموعها حين التأسيس وعقب الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي من سكان هذه المدن «المُسيطرة».
بسبب غياب الأجواء الديمقراطية والدستورية -سوى فترة الخمسينات القصيرة- فإن الزمن التاريخي الطويل الفاصل بين تلك اللحظة التأسيسية للدولة السورية، في عشرينات القرن المنصرم، وبين اللحظة الراهنة، لم يستطع تحوير الهوية السياسية للدولة السورية، والذي تمثل بالهوية القومية العربية والرمزية السُنية الإسلامية، وإن كانت كثيرٌ من نُخب الحكم باتت تنحدر من الطائفة العلوية منذ سبعينات القرن المنصرم. وقد كانت تلك الهوية السياسية القومية العربية في الدولة السورية لا تُلاحظ بشكلٍ مباشر في العهود الليبرالية في خمسينات القرن المنصرم، بسبب طبيعة النظام السياسي في ذلك الوقت. لكن بعد عهد الوحدة عام 1958 وحكم جمال عبد الناصر لسورية، ومن ثم انقلاب حزب البعث عام 1963 في سوريا. وكان هذان التياران السياسيان – الناصري والبعثي – هما الأكثر حدية في ممارسة الشكل الأيدلوجي السياسي المباشر للقومية العربية. انعكس ذلك مباشرة على الأكراد السوريين، باعتبارهم المقابل المباشر لتلك الأيدلوجية القومية السياسية.
2.1.2 سمات المراحل.
منذ الاستقلال إلى الوحدة: كان لطبيعة الحمال السياسي الذي قامت عليه المؤسسة السياسية في الدولة السورية عقب التحرر من الاستعمار الفرنسي، والذي تثوب بالرداء الليبرالي في الحكم دورٌ في عدم تهميش أي مكون من مكونات الدولة السورية، ومنهم الأكراد، الذين شاركوا في رسم الحياة السياسية العامة في البلاد، من خلال الأحزاب السورية العمومية وقتئذ (الكتلة الوطنية وحزب الشعب والحزب الجمهوري)، وهذه الأجواء مجتمعة ساعدت على تكوين أول حزب سياسي قومي كردي سوري في 14 /حزيران/ 1957 تحت تسمية « الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا – البارتي» دون أي ملاحقة قانونية أو أمينة لقيادته أو منتسبيه.
في مرحلتي الوحدة والحكم الأول لحزب البعث (1958-1970): كانت الوحدة بين سوريا ومصر بالشروط التي تمت، تعني نهاية الحياة الديمقراطية في الدولة السورية. حُلَّت الأحزاب وتوقفت الصحف عن الصدور …إلخ. مضاف إلى ذلك الطبيعة القومية للنظام السياسي الذي تشكل في البلاد. كل ذلك شكل تحدياً كبيراً للحركة الكردية في سورية. أودع الكثير منهم في السجون، وهرب البعض الآخر إلى العراق الذي كان يشهد «فترة ودّ» بين الأكراد وحكم عبد الكريم قاسم وقتئذ.
في عهد الانفصال (1961-1963) حصل بعض الانفراج النسبي، لكن الإحصاء الاستثنائي الذي نفذته السلطات السورية في عهد الانفصال في محافظة الحسكة، والذي جرد عشرات الآلاف من الأكراد من جنسيتهم السورية، أعاد الحساسية إلى سابق عهدها.
في عهد الرئيس حافظ الأسد ونجله بشار الأسد: طوال سنوات حُكمهما، كانت الورقة الكردية أهم أدوات الجناح السوري من حزب البعث في ضبط العلاقة مع الجار العراقي، الذي كان في المقابل يسعى للاستحواذ على ولاء القبائل البدوية السورية (السنية) في المنطقة الشرقية من البلاد، والدخول في عمق المعادلة الداخلية السورية أثناء فترة الأحداث العنيفة في سورية (1979-1982) عبر دعم جماعة الإخوان المسلمين. لكن الاستخدام السوري للورقة الكردية خارجياً لم يتوقف عند الحدود العراقية. فاللون السوري في حزب العمال الكردستاني كان واضحاً في التكوين والتمركز والنشاط منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، بهدف إقامة توازن مقبول مع الجار التركي الذي كان يستحوذ على ملفات المياه والانتماء لحلف الناتو…إلخ. لكن ذلك لم يعنِ بأي شكل انفتاح النظام على الأكراد داخلياً، فقد بقيت جميع القضايا عالقة (المجردون من الجنسية، والصهر الثقافي، والتهميش الاقتصادي …).
2.2 الأكراد والتنظيمات السياسية.
1.2.2 الأكراد في التنظيمات غير القومية.
تماشياً مع التكون التاريخي للنُخب السياسية في سوريا، في المرحلة التي سبقت الانقلاب البعثي 1963، فإن النُخب السياسية الكردية السورية انقسمت سياسياً إلى دفتين سياسيتين متقابلتين:
– انخرطت أُسر الإقطاع الزراعي الكردي سياسياً مع طبقة برجوازية المدن السورية؛ فكما كانت هذه الأخيرة تسعى للحفاظ على هيمنتها السياسية خشية صعود الأحزاب السياسية الإيدلوجية اليسارية، التي تهدد مصالحها الاقتصادية واحتكاراتها القطاعية؛ فإن العائلات الإقطاعية الكردية وشبه البرجوازية كانت تخشى من تمدد هذه الأفكار اليسارية في طبقة الفلاحين الأكراد، وأن يهز ذلك من سيطرتهم على شبكة الأراضي الزراعية الخصبة الواسعة في الشمال السوري، تلك التي استولوا عليها عبر قانون التمليك الفرنسي 3339 الذي صدر عام 1930، تلك الأراضي التي كانت بالأساس أراضٍ أميرية عثمانية، وتم تمليكها لهذه العائلات الإقطاعية الكردية حفاظاً على الاستقرار الذي كانت السلطات الفرنسية تبتغيه من تلك المنطقة الزراعية الخصبة للغاية.
اندمجت العائلات الكردية في منطقتي الجزيرة وكوباني بأغلبيتها في تيار الكتلة الوطنية السورية، الذي كان يقوده السياسي السوري المخضرم شكري القوتلي، ودخل عدد منهم البرلمانات السورية الديمقراطية تحت مظلة هذا التيار السياسي. أما الأسر الكردية في منطقة عفرين، فإنها انخرطت بشكل ما في حزب الشعب، الذي كان سياسياً يمثل منطقة حلب ومحيطها الجغرافي، حيث عفرين جزء منه 14 .
طبيعة العلاقة بين هذه التيارات السياسية السورية الحاكمة والطبقة الإقطاعية الكردية قامت على ثنائية بسيطة: كانت هذه التيارات الحاكمة تؤمن حداً معقولاً من تمثيل أبناء هذه العائلات في مؤسسات الحُكم الاقتصادية والبيروقراطية وحتى العسكرية، وتأمين ضبط عالي لأية حركة تمرد يمكن أن تشهدها مناطق سيطرة ونفوذ هذه العائلات. مقابل ذلك، فإن هذه العائلات كانت تؤمن انتخابياً كل الكتلة السكانية التي تسيطر عليها، فالفلاحون الذين كانوا يعملون كأجراء في مناطق ملكيات هذه العائلات كان مُهميناً عليهم تماماً، ولا يستطيعون مخالفة توجهات العائلات السياسية بأي شكل.
من خلال هذه العلاقة الاندماجية بين هذين الطرفين، تأسس الاندماج الأول للكرد السوريين المنحدرين من مناطق قصيّة من البلاد في المؤسسات الوطنية العمومية، وبالذات منها مؤسستي الجيش والأجهزة البيروقراطية الدولتية. بالمقابل فإنه تم تهميش أي صبغة للمطالب القومية الكردية الخاصة، فالنخبة السورية الحاكمة بقيت على حساسيتها من كثافة الانتشار الكردي في الشمال السوري وتواصله مع المجتمع الكردي في كل من العراق وتركيا 15 . ولم تحاول تعديل أي شيء من معايير العقد التأسيسي للبلاد، ولم تواجه بأي شكل النزاعات القومية المناهضة للأقليات القومية والأثنية في البلاد.
كانت هذه العائلات السياسية الكردية من الهشاشة السياسية بشكل يوازي تماماً الهشاشة التي كانت عليها معظم طبقة برجوازية المدن السورية في الخمسينات، فطابع علاقتها مع القاعدة الاجتماعية «الموالية» لها من الفلاحين كانت من نمط السيطرة المادية المباشرة عبر استحواذ الملكية، وليس بأي شكل من نمط الهيمنة الإيدلوجية أو السياسية أو التنظيمية؛ لذا انهار نفوذها وحضورها السياسي تماماً مع انهيار نمط الحُكم التقليدي في الخمسينات، ولم تجد أي قاعدة اجتماعية تدافع عنها، حتى أن كثيراً من أبناء الجيل الثاني من هذه العائلات هاجروا خارج سوريا بعيد انهيار سيطرتهم السياسية.
– مقابل ذلك، فإن تياراً لا بأس به من الأكراد السوريين انخرط في الحزب الشيوعي السوري، وكان أساساً من أكراد المدن الداخلية السورية (دمشق وحلب) وطبقة الجيل الأول من أبناء الفلاحين من سكان المدن ذات الأغلبية الكردية. كان للزعامة التاريخية لخالد بكداش (كردي دمشقي) للحزب الشيوعي السوري دلالة بليغة على ذلك. وكانت قاعدة جماهيرية واسعة للحزب تتشكل في المناطق ذات الأغلبية الكردية منذ أوائل الأربعينات من القرن المنصرم.
انخرط الكرد أساساً فقط في الحزب الشيوعي السوري ذو المطالب الطبقية، لأن الفصم الإيدلوجي القومي كان يمنعهم من الانخراط في الأحزاب «اليسارية» الأخرى، كالبعث والناصريين والقوميين السوريين…إلخ 16 .
حمل الحزب الشيوعي السوري مطالب طبقية محقة لقاعدته الجماهيرية الكردية، لكنه بالمقابل كان شديد المحافظة في المطالبة بأي حقوق قومية كردية لهذه القاعدة، ولم يكن مطلبه بإلغاء نتائج الإحصاء الاستثنائي عام 1962 الذي حرم آلاف الأكراد السوريين من جنسيتهم السورية، لم يكن مطلبه ذاك سوى تمايز خجول عما كانت تطبقه سياسيات الأحزاب اليسارية القومية بحق المناطق الكردية.
بالمقابل فإنه كان ثمة تفكير قومي كردي يرى بأن الأجندة الحقيقة للحزب الشيوعي السوري هي الالتفاف على المطالب القومية الكردية، وذلك بحصر مطالب الأكراد بالحيز الطبقي الاقتصادي، وبذلك تسطير وتكرس الذوبان الكردي «القومي» في الكل السوري «العربي». وكان ذلك تشكيلاً وتمايزاً جوهرياً لخطاب الحركة القومية الكردية اليسارية، التي كانت تزاحم الحزب الشيوعي السوري على نفوذه في أوساط الفلاحين والعمال الأكراد.
مع صعود الحركة القومية الكردية منذ أواسط الخمسينات من القرن المنصرم، انشقت قاعدة الحزب الشيوعي السورية الكردية إلى حيزين متقابلين، إذ انشقت نُخب المدن ذات الأغلبية الكردية عن الحزب الشيوعي السوري وانضمت للحركة القومية الكردية، وإن برداء ومطالب ذات بُعد يساري. وكان انشقاق الشاعر والأديب الكردي السوري جكرخوين عن الحزب الشيوعي السوري وانضمامه للحزب الديمقراطي الكردي السوري، نتيجة عدم موافقة قيادة الحزب بأن تكون منشورات الحزب وأدبياته في المناطق ذات الأغلبية الكردية باللغة الكردية، كان ذلك الانشقاق تعبيرا عن الفصام بين هذه النُخبة المدينية الكردية السورية في المدن الشمالية، وبين الحزب الشيوعي السوري.
مقابل ذلك فإن النُخبة السياسية الكردية المنحدرة من مدن الداخل السوري غرقت تماماً في الشكل السوري الرسمي للحزب الشيوعي السوري، دون أي مطالب خاصة بالمسألة الكردية في البلاد؛ وكان ذلك بالضبط مدخلاً لانهيار نفوذ الحزب في المناطق ذات الأغلبية الكردية في الشمال السوري.
2.2.2 التنظيمات القومية الكردية.
سيرة سياسية مختصرة:
تأسس أول حزب قومي كردي سوري في صيف عام 1957. انشق الحزب في أواسط الستينات إلى تيار يساري يتبنى الماركسية وحقوق الطبقات، وتيار أقرب لليبرالية السياسية والمحافظة الاجتماعية، لكن هذا الانشقاق كان قائماً بالأساس على خلاف سياسي كردي عراقي. حيث انحاز تيار اليسار لخيارات الزعيم الكردي الملا مصطفى البرزاني ضمن الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي، بينما انحاز فريق آخر لتيار إبراهيم أحمد وصهره جلال الطالباني ضمن الحزب الكردي العراقي نفسه. وحدث بذلك الانشقاق الموضوعي ضمن الحزب الديمقراطي الكردي السوري.
جرى اجتماع شهير لتوحيد الحزب عام 1971 برعاية الملا مصطفى البرازني في كردستان العراق، حيث كان الأكراد العراقيون قد استحصلوا حُكما ذاتيا هناك منذ قرابة العام. انتهى الاجتماع باتفاق شكلي لجمع قيادة الحزب، حيث ما إن عاد الحزب إلى سوريا حتى بات لدينا ثلاثة تنظيمات واضحة المعالم والقيادة والخيارات السياسية:
1- الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا «البارتي»
لم تنجح القيادة الموحدة التي أسسها الملا مصطفى البرزاني في الحفاظ على الوحدة التنظيمية للحزب بعد عودة الحزب إلى سوريا بُعيد الاجتماع الشهير في كردستان العراق، لكن القاعدة الجماهيرية التي حافظت على ولائها لهذه القيادة المشتركة، سمت نفسها بالحزب الديمقراطي الكردي في سوريا «البارتي»، والتي بقيت على ولاء تام لعائلة البرزاني وخياراتها الكردية الداخلية، وعلى عموم المناطق الكردية في المنطقة.
يملك هذا الحزب قواعد جماهيرية تفوق قدراته ومستواه التنظيمي، وخصوصاً في المنطقة الشرقية من الجزيرة السورية، في منطقة المالكية المتاخمة للحدود السورية العراقية، وجلّ شرق مدينة القامشلي، يسيطر الحزب نسبياً على قواعد جماهيرية لا بأس بها في الأوساط الكردية السورية في الجزيرة وعين العرب.
يعتمد الحزب بذلك على أكثر من ظرف؛ فالولاء النفسي للكثير من الأوساط العشائرية الكردية السورية لآل البرزاني وزعامتهم التاريخية التقليدية ولاء شبه مطلق. كما أن الإمكانيات المادية والإعلامية التي يوفرها الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي لهذا الحزب غير قليلة.
حدث أكثر من انشقاق عن الحزب المذكور، كان أشهرها انشقاقات بداية الثمانينات، حينما انشق القياديان إسماعيل عمر ومحي الدين شيخ آلي، وأسسا معاً حزب الوحدة الكردي، ذو النفوذ الواسع في منطقة عفرين.
كان الحزب بقيادة الشيخ دهام ميرو، الذي اعتقل لسنوات مع كل قيادة الحزب في بداية السبعينات، ثم آلت القيادة للمحامي كمال درويش ومن بعده للمحامي محمد نذير مصطفى وبعده الدكتور عبد الحكيم بشار.
في عام 2014 اتحد الحزب مع عدد من الأحزاب الكردية الأخرى، وسمى نفسه ب«الحزب الديمقراطي الكردستاني» وانتخب سعود الملا سكرتيرا للحزب.
2- الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي السوري.
هو امتداد لتيار «اليمين» الكردي السوري ضمن الحزب الأم، والذي كان يجمع بين الليبرالية السياسية مع المحافظة الاجتماعية، وكان على وفاق سياسي مع جناح إبراهيم احمد في الحزب الديمقراطي الكردستاني-العراقي، الذي تحول فيما بعد لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني.
يقود هذا الحزب منذ أواسط الستينات الشخصية الوطنية الكردية المعروفة الأستاذ عبد الحميد درويش. يستحوذ الحزب على تمثيل مناسب في الأوساط الكردية من الطبقة الوسطى العليا، جامعاً معها بقايا الإقطاعية في البيئات الزراعية الريفية والبرجوازيات المدينية. ما زال للحزب صلات وثيقة مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني.
3- حزب يكتي الكردي السوري.
يعتبر هذا الحزب محصلة حالات الانشقاق واتحاد التنظيمات ضمن تيار اليسار القومي للحزب الديمقراطي الكردي الأم، وهو يعبّر بعمق عن جميع الطروحات التي تأسس عليها التيار اليساري القومي الكردي.
ينتشر الحزب في الأوساط الشبابية الكردية، وذوي التحصيل المعرفي المتوسط، من الذين تفاعلوا مع المؤسسات البيروقراطية السورية. ما نستطيع أن نسميهم بالمنخرطين في الدوائر الرسمية لمؤسسات الدولة، في كل البلدات والمدن السورية ذات الكثافة الكردية العالية. تلك المؤسسات التي تشهد مزاحمة بين طبقة البيروقراطيين الكرد والعرب والسريان والأرمن.
كان المنتمون لهذا التيار السياسي هم أول من خاضوا عمليات مواجهة سياسية مع النظام السوري، خصوصاً مع حضور المظاهرات النوعية في مدينة دمشق وحلب.
4- حزب الاتحاد الديمقراطي PYD
يُعد الحزب امتداداً ايدلوجياً وسياسياً و«تنظيمياً» لحزب العمال الكردستاني pkk. ففي حين كان هذا الحزب الأخير يخوض حرباً ضروساً ضد تركيا، خلال أعوام 1984- 2011. فإنه كان يستفيد من قاعدته الجماهيرية والتنظيمية ضمن المجتمع الكردي السوري، ساعده في ذلك غض النظر من رأس النظام السوري عن النشاط السياسي ضمن المجتمع الكردي السوري، شرط أن يكون ذلك النشاط محصورا بالمسألة الكردية خارج سوريا. استطاع حزب العمال الكردستاني الاندراج بجزء مهم من الطبقة الكردية السورية الأكثر فقراً وهامشية، واستطاع أن يرسل ويدمج قرابة 15 ألف مقاتل كردي سوري في المؤسسات التنظيمية العسكرية التابعة لهذه الحزب، راح قرابة 4000 منهم كضحايا للقتال الضاري بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني خلال سنوات القتال المديدة بين الطرفين 17 .
انطفأت جذوة هذا الحزب تنظيماً وسياسياً خلال سنوات 1998-2011، حين كانت السلطات السورية على توافق مع نظيرتها التركية لقمع نشاطات هذا الحزب. لكن ما أن انطلقت شرارة الأحداث في سوريا وحدث الشقاق سياسي و«أمني» بين الجانبين السوري والتركي؛ حتى أعادت السلطات الأمنية السورية إطلاق يد هذا الحزب في المجتمع الكردي السوري. وذلك عبر توافق سياسي غير معلن بين الطرفين، تسمح عبره السلطات السورية للنُخب السياسية الكردية القريبة من حزب العمال الكردستاني بالنشاط ضمن المجتمع الكردي السوري، مقابل أن يسعى هذا الحزب لأن يوجه التطلعات الرئيسية للأكراد السوريين نحو الحالة القومية الكردية في تركيا، وغض النظر قدر المستطاع عما يجري في الداخل السوري العام.
بسرعة تامة استطاعت هذه النُخب الكردية السورية القريبة من حزب العمال الكردستاني ترتيب وإعادة تنظيم نفسها، وجذب تلك القواعد التي كانت مرتبطة بهذا الحزب من قبل. القواعد الأكثر فقراً وتهميشاً في المجتمع الكردي السوري، في ضواحي المدن ذات الأغلبية الكردية، وبين كتلة المهاجرين الكرد في المدن السورية الكبرى، والطبقة الأكثر أميّة وتهميشاً من القرويين الكرد.
هوامش
. ↑ أنتج الباحث هذا البحث بالتعاون مع مؤسسة Friedrich Ebert الألمانية.
- ↑ كان ثمة نقاش تاريخي «بائس» وسياسوي، مازالت له بعض الآثار الضعيفة في بعض الأوساط. كان يتناول تاريخ الوجود الكردي في سوريا، ويذهب في بعض الأدبيات العنصرية نحو اعتبارهم مهاجرين محدثين من تركيا، يجب إعادتهم لمكان الأصلي، وتوطين مواطنين عرب من مناطق أخرى مكانهم، لأن هجرتهم تلك كانت مقصودة للاستيلاء على «الأراضي العربية» في المناطق الشمالية من سوريا. كانت مثل تلك الخطابات الأساس الذهني والفكري-السياسي لبعض المشاريع السياسية التي طبقت بحق الأكراد السوريين في ستينات القرن المنصرم (مشروع الحزام العربي، وسحب الجنسية من الأكراد السوريين … الخ …) يمكن قراءة ذلك بالتفصيل في الدراسة الشيقة للباحث السوري محمد جمال باروت المنشورة في اللمونددبلوماتيك، «كيف نشأت مشكلة أجانب تركيا في سوريا؟»، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، آب/أغسطس 2009.
- ↑ تشكل السيرة الجمعية لعائلة «حاجو الهفيركي» نموذجاً لتأثير العائلات الإقطاعية النازحة على أنماط وسلوكيات البيئة التي نزحوا إليها. (نزحت تلك العائلة بشكل جمعي عام 1926 نحو منطقة القحطانية «تربسبية» شرق مدينة القامشلي، وكان لها تأثير بالغ على الحياة السياسية الكردية والسورية بشكل عام في خمسينات القرن المنصرم).
- ↑ شكلت المؤسسات الكنسيّة في الجزيرة السورية (محافظة الحسكة بالذات) ملمحاً بارزاً لتطور الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وتكريس الاستقرار «العشائري»… إلخ. لكنه تم تصفيتها بشكل شبه كامل بُعيد عصر الوحدة 1958. وكذلك كان لأرمن مدينة عفرين دور مثيل، الأرمن الذين كانوا يشكلون قرابة ثلث سكان المدينة حتى أواسط الخمسينات من القرن المنصرم.
- ↑ أوحت التكايا لمريديها بالخروج عن القوانين الوضعية للدولة السورية، ولاقت دعماً من قبل بعض أعيان المنطقة في مواجهة السلطات الفرنسية. كانت الحركة مدعومة من تركيا، حيث تسبب الانقسام الاجتماعي والسياسي حول أهداف الحركة، بنشوب أول حرب اهلية على مستوى منطقة جبال عفرين، حيث قٌتل العديد من المواطنين وهاجرت كثيرٌ من العوائل من المنطقة لحماية افرادها من هذه الحركة.كانت للحركة في بدايتها، اتصالات مع ابراهيم هنانو وقادة الثورة في سوريا حتى انتهى الأمر بهم إلى الانضمام إلى الكتلة الوطنية، وتم نشر العديد من المقالات في الصحف الرسمية لتمجيد هذه الحركة، لكن فقدت هذه الحركة رويداً رويداً كل مؤيديها وبقيت دون أي قاعدة شعبية. لهذه الحركة ذكريات مأساوية في ذاكرة الكرد في مناطق عفرين.
- ↑ بقيت الحدود السورية التركية حدود قلقة ومتحولة، حتى توقيع اتفاقية فرانكلين عام 1921 بين تركيا وفرنسا. ولم تأخذ شكلها الحالي إلا عام 1939 حينما ضمت السلطات التركية لواء اسكندرون، وبقيت طوال فترة انهيار الإمبراطورية العثمانية وحتى ذلك التاريخ في حالة تبدل مستمرة.
- ↑ كانت ذروة تلك المطالبات هي الرسالة والوثيقة التي بعث بها عدد من الأعيان والرجال الدين الأكراد والسريان واليهود ومعهم بعض زعماء العشائر العربية للرئيس الفرنسي عام 1936، يطالبون عبره السلطات الفرنسية الحاكمة بأن تمنح منطقة الجزيرة السورية وضعاً خاصاً ضمن الدولة السورية الحديثة – حاجو آغا يريد إقامة دولة كردية، بنكي حاجو.
- ↑ يمكن قراءة الكتاب الموسوعي للباحث السوري محمد جمال باروت عن تأسس الجزيرة السورية «التكوين التاريخي الحديث للجزيرة السورية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – الدوحة 2013».
- ↑ يرى الباحث أن المدن الكبرى هي التي أنتجت كل التحولات السوسيولويجة السريعة بمجتمعاتنا المحافظة طوال القرن العشرين، وأن الغياب النسبي لتلك المدن في المناطق الكردية حظر عليها تلك التحولات طوال قرن كامل، أنظر: «هل للجنس علاقة بالسياسية، الظاهرة الجنسية عند الأكراد» مقال للباحث في موقع جريدة الأوان.
- ↑ تشير مرويات الشخصيات «الحداثوية» كلها في المناطق الكردية، إلى تصارع مرير شهدته مع شبكات ونُخب هذه التكايا ودور الدين الصوفية، يمكن قراءة ذلك بوضوح في مذكرات الشاعر الكردي السوري الشهير جكرخوين، وسيرة المستنير رشيد حمو، وكذلك في مذكرات السياسي والسوسيولوجي الكردي نور الدين زازا. الأول خاض صراعاً في الشق الأدبي، والثاني في النشاط السياسي، والأخير في النضال المجتمعي.
- ↑ تأسس أول حزب سياسي – قومي- كردي في سوريا عام 1957، والمؤسسون الثمانية الأوائل كانوا موزعين على أكراد ينحدرون من أقاليم الجزيرة وعفرين ودمشق. وهذا التآلف السياسي لم يكن يوازيه تواصل وتفاعل اجتماعي بين مكونات هذه الأقاليم. كان ثمة فضاء شبيه بالحالة الفلسطينية عقب الانتفاضة الأولى عام 1987، حينما شكّل ذلك الحدث ديناميكية لتعارف المكونات الاجتماعية الفلسطينية على ومع عالم المخيمات الفلسطينية في دول الجوار. وكان للوعي القومي الكردي وتأسيس الأحزاب السياسية الكردية فعل شبيه بذلك في أواسط الخمسينات وما تلاها.
- ↑ تُعدّ تلك التهمة عامة لجميع الناشطين الأكراد تقريباً، حيث شكل، أي الناشطون الأكراد، نصف السجناء السياسيين السوريين في العقد الأخير.
- ↑ يؤمن الباحث بالنظرية التي ترى أن كل الكيانات السياسية هي كيانات مصطنعة، وأن حدودها السياسية لا تتطابق مع طبيعة جماعتها الأهلية والدينية والإثنية. لكن بالمقابل بأنه ثمة كيانات بالغة الاصطناعية، أي أن تشكلها لم ينتج لا عن إرادة سياسية واسعة من مجموع سكانها، ولا عن تشابه معقول ثقافياً وهوياتياً بين سكانها، بل من كتل جغرافية لم تحيا لفترات مديدة ضمن أي كيان سياسي موحد، وفي حالات كثيرة من قطع جغرافيا مجتزأة من كيانات تاريخية أعمق وأوسع محيطة بهذا الكيان الجديد. ينتمي الكيان السوري نسبيا للكيانات بالغة الاصطناع.
- ↑ الفرق الشاسع بين السياسة المحلية التي أنتجها حاجو أغا الهفيركي في أيامه السورية (1926-1940) حيث كان أقرب للسياسات الفرنسية في سوريا، وما أنتجه خلفه وأبنه حسن حاجو عبر انضمامه للكتلة الوطنية وتيار الرئيس شكري بيك القوتلي، يُستطاع أن يُفسر به كمثال نموذجي للسلوك السياسي للنُخب الكردية من ملاكي الأراضي؛ حيث كانت في صف الأقوى سياسياً على الدوام. لأن الحجم الكبير من ممتلكاتها التي كانت مهددة من قبل القاعدة الشعبية المحيطة، كان دوماً بمثل تلك الحاجة لموالاة القوة السياسية الأكثر قوة، لحفظ تلك المصالح.
- ↑ في متابعة دفتر نقاشات البرلمانيين السوريين في الخمسينات والستينات، يمكن ملاحظة ذلك بشكل جلي، فالبرلمانيون المنتمون للكتلة الوطنية وحزب الشعب لم يكونوا أقل حدة من التيارات القومية العربية في التحذير من خطورة اللون القومي الكردي في الشمال السوري، وإن بلغة وتعابير أكثر حياء.
- ↑ غير «وهم» الانتماء العرقي لخالد بكداش للقومية الكردية، فإن ما كان جاذباً للأكراد لدخول الحزب الشيوعي السوري هو طبيعة العلاقة الجيوسياسية التي ربطت الاتحاد السوفياتي عقب الحرب العالمية الثانية مع المسألة الكردية، فهي كانت دائمة التحريض ضد تركيا التي باتت جزءاً من حلف الناتو المناهض لنفوذ الاتحاد السوفياتي، وكان ذلك عبر دعمها لتطلعات الأكراد في تركيا.
- ↑ الأرقام الواردة في هذا المقطع اصطفاها الباحث من سلسة لقاءاته مع «عمر أوسي» المترجم والمستشار الكردي السوري السابق لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان خلال سنوات وجوده في سوريا.´
الجزء الثاني
- الربط بين المجالين الاجتماعي والسياسي:
1.3 تحديد قياسي للأحزاب السياسية الكردية:
تراوحَ عدد الأحزاب الكردية السورية بين 15 و25 حزباً منذ ثمانينات القرن الماضي، لكن الأحزاب السياسية الحقيقة، التي تستند إلى خطاب سياسي ذو ملامح معينة، وعلى تنظيمات حزبية حقيقية ومتراصة وذات أعراف، يمكن اختصارها إلى أربعة أحزاب، يشكل كل واحدٍ منها تعبيراً معيناً عن تيار أيديولوجي بذاته، وبالتالي عن طبقة اجتماعية معينة ذات ملامح.
1- الحزب الديمقراطي الكردستاني-سوريا: يمثل الخطاب والزعامة القومية التقليدية التي يمثلها آل البرزاني، وينتشر في الأوساط الريفية العشائرية التي تميل إلى تعاملٍ تراتبي وعائلاتي في المجتمع الكردي السوري. بهذا المعنى فإن هذا الحزب يعبر عن الطبقة المجتمعية الكردية السورية الأكثر محافظة وتقليدية. وبشكل ما عن تلك العائلات التي كانت موالية لزعامة البارزانية تقليدياً.
2- الحزب الديمقراطي التقدمي: يمثل مزيجاً من المحافظة الاجتماعية عبر اعتماده على طبقة الملاكين نصف المتمدنين، بالذات من أبناء الجيل الثاني والثالث لكبار ملاكيّ منطقة الجزيرة وعين عرب. مع مزيج من الليبرالية السياسية الرافضة للشعارات والطروحات والميول القومية الرومانسية.
3- حزب يكيتي الكردي (الخليفة الحقيق لتيار اليسار القومي الكردي): يمثل هذا الحزب التيار الاجتماعي الأحدث من الأجيال الكردية المندمجة في مؤسسات الدولة السورية. طبقياً يشكلون الطبقة الوسطى المتعلمة، الذين استفاد ذووهم من توسع خدمات التعليم في الأرياف السورية. بذلك يمثل هذا الحزب الطبقات الكردية الصاعدة تعليمياً وجهوياً، المهاجرة من الريف حديثاً نحو مراكز المدن، الجاذب لها بخطاب قومي كردي «حداثي» ذي أبعاد متعلقة بعموم الحركة الديمقراطية في البلاد.
4- حزب الاتحاد الديمقراطي PYD: يجذب ويمثل هذا الحزب الطبقات الكردية الأكثر فقراً وهامشية وأمية من المجتمع الكردي السوري، عبر خطاب وتوجه سياسي قومي رومانسي ممزوج برؤية يسارية، وبالعنف الثوري بعد مرور عام واحد من بدء الثورة السورية.
2.3 تركيب سياسي-اجتماعي أولي.
جمعية «خوييبون» والمجتمع الكردي البطريركي:
تأسست هذه الجمعية السياسية عام 1927، كأول تعبير سياسي عن الأكراد السوريين. صحيح أنها تأسست في مدينة بحمدون اللبنانية، وأنها كانت نتيجة لقاء بين النُخب الكردية والنُخب السياسية الأرمنية؛ لكن ما يهم هنا أنها كانت أول تنظيم سياسي «قومي» ضمن المجتمع الكردي السوري.
من خلال وعي طبيعة المؤسسين الثلاثة عشر الكرد لهذه الجمعية التي بقيت الناطق السياسي الرسمي الوحيد باسم المجتمع الكردي السوري، يمكن لنا وعي طبيعة المجتمع السياسي الكردي السوري وقتها.
كان الكرد الثلاثة عشر هم (الأمير جلادت بدرخان، ممدوح سليم بيك،علي رضا الشيخ سعيد، وحاجو آغا الهفيركي، قدري جميل بيك، أكرم جميل بيك، قدري جان، الأمير كامران بدرخان، محمد عيسى، الزعيم أوصمان صبري… إلخ)
يلاحظ بجلاء أن جميع الأعضاء المؤسسين هم من «نُخبة» البطريركية الأعيانية في المجتمع الكردي، من الذين خسرت عائلاتهم مراكزها الرمزية والمادية التقليدية في المجتمع الكردي-العثماني. ثم لم تستطع أن تستحصل أي مكانة أو حظوة مميزة في عصر الدول «الحديثة» التي تلت انهيار الإمبراطورية العثمانية.
كان العمل الأساسي للمنتظمين ضمن هذه الجمعية هو خلق تحركات عسكرية مناهضة للجيش التركي، انطلاقاً من الأراضي السورية، عبر استخدام هؤلاء الزعماء العشائريين لمواليهم من أبناء العشائر في تلك المناطق الحدودية. فشلت تلك التحركات العشائرية لأسباب سياسية ومناطقية وذاتية معقدة. ثم بدأت تتلاشى رويداً رويداً بسب التصارع السياسي الذاتي بين الأخوين الأميرين جلادت وكامران بدرخان من طرف، والأخوين قدري وأكرم جميل باشا من طرف آخر 2 .
المهم في هذا التأسيس الأولي للحركة السياسية الكردية وعي ثلاث نقاط متراكبة:
-لم تكن أي من الطبقات المجتمعية الكردية منخرطة بأي شكل في العمل السياسي، الذي كان حكراً على الطبقة العليا جداً من زعماء العشائر والأمراء والباشوات، هؤلاء الذين بنى اليسار القومي الكردي نظريته السياسية حولهم، معللاً فشل الحركة القومية في تحقيق أي مطالب خاصة بالكرد في المنطقة، بأنه يعود لطبيعة تلك الطبقة المهيمنة على الحياة الاجتماعية والسياسية. بينما كانت باقي أطياف المجتمع الكردي خارج اللعبة السياسية تماماً. كان المجتمع الكردي أقرب ما يكون لنموذج الأقنان السياسيين، يتبعون برضى وقبول تامٍ زعماءهم السياسيين المحليين، الذين كانوا يعتبرون ممثلين مباشرين لتطلعات هذه الكتل المجتمعية الكردية الأهلية.
-لم يكن التنظيم مبرمجاً على أية خيارات وخطابات سياسية ذات عمق ودلالة اجتماعية. بمعنى ما، لم يكن المجتمع الكردي موجوداً أساساً في مخيلة المؤسسين. فالشعار الوحيد الذي أطلقته الجمعية «توحيد وتحرير كردستان»، كان شعاراً فوقياً وذاتياً لهذه النخبة، ولم يكن يتفهم ويعي طبيعة المجتمع الكردي في تلك اللحظة التاريخية؛ وإن كان من جهة مقابلة شعاراً سياسياً محضاً ومضاداً للكيانات السياسية التي حوت المجتمعات الكردية في المنطقة.
-لم تكن الأيديولوجية والمعرفة السياسية من أدوات واهتمامات التنظيم السياسي الكردي الأول. ولهذا دلالةٌ بأن المجتمع الكردي السوري الريفي والأمّي كان خارج حركة التاريخ وقتئذ، المنقسم بين اليسار واليمين وقوى التحديث الاجتماعية والقومية…إلخ. بل بقي التصارع الداخلي أقرب ما يكون للتصارعات التقليدية الجهوية والعصبية بين الكتل المجتمعية الدموية، العائلات والعشائر والقبائل. فالتأسيس الأول كان ضمن هذا المعطى، عبر اتحادٍ وتواصلٍ بين هؤلاء الزعماء المحليين، وعملية النشاط السياسي كانت حكراً على هؤلاء فحسب، بينما كانت القاعدة الشعبية مجرد طرفٍ مطيع، وانفراط العقد السياسي كانت بسبب تصارع داخلي وشخصي فيما بينهم.
الحزب الديمقراطي الكردي السوري 1957، والتنوع المجتمعي:
بين عامي 1946-1957 لم تتأسس أحزاب سياسية كردية سورية تُذكر، سوى بعض التجارب الحزبية الجزئية المحلية، كتأسيس الشاعر جكرخوين حزب آزادي في بداية الخمسينات.
من خلال تتبع «المرجعية الاجتماعية» للأعضاء المؤسسين للجنة المركزية الأولى للحزب الديمقراطي الكردي في سوريا «البارتي» الذي تأسس عام 1957، ومقارنتها بما كان عليه تنظيم جمعية «خوييبون 1927»، يمكننا وعي قدر التحولات التي أصابت المجتمع الكردي السوري خلال الثلاثين عاماً التي فصلت بين تأسيس التنظيمين السياسيين الرئيسيين في تاريخ الأكراد السوريين.
الأعضاء المؤسسون وخلفيتهم الاجتماعية:
-الدكتور نورالدين ظاظا: ينحدر من عائلة إقطاعية كردية نصف متمدنة، أنهى دراسته في العلوم الاجتماعية من جامعة لوزان في سويسرا (إقليم الجزيرة).
-عثمان صبري: من عائلة إقطاعية كردية، يحمل شهادة الابتدائية (إقليم كوباني).
-عبد الحميد درويش: من عائلة ملاكي للأراضي، طالب في كلية الحقوق من جامعة دمشق (إقليم الجزيرة).
-حمزة نويران: من عائلة فلاحية، لم ينه تعليمه الثانوي (إقليم الجزيرة).
-رشيد حمو: من عائلة فلاحية نصف متمدنة، مدرس ابتدائي (إقليم عفرين).
-شوكت حنان: من عائلة إقطاعية متمدنة، محامي (إقليم عفرين).
-محمد علي خوجة: من عائلة فلاحية نازحة للمدينة، مدرس ابتدائي (إقليم عفرين).
يلاحظ بجلاء حجم التحول الذي فصل بين بنية المؤسسين للتنظيمين:
-ينحدر قرابة نصف المؤسسين لهذا التنظيم من عائلات فلاحية، لم يُعرف لذويهم مرتبة اجتماعية «عالية» في السلم الاجتماعي التقليدي في المجتمع الكردي السوري وقتها. هم من غير المنتمين لطبقة الإقطاعيين أو كبار ملاك الأراضي أو شيوخ الطرق الدينية.
-يستحوذ أكثر من ثلاثة أرباع المنتمين على مهن وظيفية مرتبطة بشكل أو بآخر بالتحصيل المعرفي العالي.
-ينتمي المؤسسون بشكل شبه متوافق مع التوازن الديموغرافي لتوزع الأكراد على الأقاليم الكردية الثلاثة.
-لا يشترك أي من المؤسسين الأوائل بصلات قرابة دموية. بل أغلب الصلات تكونت من خلال المشاركة في الأجواء نفسها، أجواء سوريا الديمقراطية في الخمسينات، التي كانت حيوية لدرجة تجمع مقاتلاً وثورياً تقليدياً «عثمان صبري» مع طالب صغير في العمر في كلية الحقوق «عبد الحميد الحاج درويش»، وتسمح بتواصل متخرجٍ جديد من كلية علم الاجتماع السياسي في مدينة لوزان السويسرية «نور الدين ظاظا» مع مدرسٍ شيوعي من أقصى شمال البلاد «رشيد حمو»، ومع فلاح متواضع «حمزة نويران»، ومع محامٍ …لخ.
3.3 تحولات المجتمع الكردي السوري 1927-1957.
يكاد التميز بين الكتلة المؤسسة لجمعية خوييبون، والكتلة المؤسسة للحزب الديمقراطي الكردي في سوريا، أن يكون متطابقاً تماماً لما تميز به وتحول إليه المجتمع الكردي السوري خلال تلك السنوات الثلاثين:
كانت هذه السنوات بالضبط السنوات التي تأسست فيها المدن والبلدات الكردية في كامل الشمال السوري، الذي كان ذا بنية شبه ريفية مستقرة «كردية» مع مزيج من البداوة المتنقلة في المناطق الجنوبية لها «عربية بالأساس»، مع بعض التمركزات الحضرية الصغيرة «سريانية وأرمنية» 3 .
لكن تلك المعادلة الديموغرافية الأولية تحولت منذ أواسط الأربعينات من القرن المنصرم. مع بدء الزحف السكاني الكردي من الريف نحو البلدات الصغيرة في الشريط الحدودي، خصوصاً بعد أن بدأت دورة الإنتاج الزراعي تأتي بموارد كبيرة للغاية، مع بدء استخدام المكننة الزراعية في ذلك السهب الزراعي الواسع منذ أواسط الأربعينات، هذه العائدات المالية الضخمة للإنتاج الزراعي سمحت لطبقة ملاك الأراضي –حتى متوسطي الملكية منهم- بإرسال أولادهم للمدن للاندماج في التعليم 4 .
هذه الطبقة الاجتماعية التي أضيفت إليها بالتدريج طوال الخمسينات والستينات طبقة صغار الفلاحين الأكراد، الذين تضرروا بالمقابل من مكننة العملية الزراعية، فنزحوا للمدن وامتهنوا الأعمال الخدمية الأقل حاجة للمعارف والرأسمال. هاتان الطبقتان الكرديتان هما اللتان كونتا عموم سياج الأحياء الطرفية في جميع هذه المدن حديثة التكون في الشمال السوري 5 .
كما أن ثلاثة أحداث جوهرية متعلقة بطبقة الإقطاعيين وكبار الملاك قد حدثت خلال تلك السنوات، وبالتالي أثرت بعمق على المجتمع الكردي السوري:
كانت طبقة الإقطاعيين وكبار الملاك قد بدأت تفقد سيطرتها المطلقة على المجتمعات المحلية الداخلية. من خلال انتشار مؤسسات الدولة الأمنية والتعليمية والبيروقراطية من طرف، تلك التي حدَّت من سيطرتهم «السلطوية والإدارية» المطلقة على المجتمع، أو من خلال قوة نفوذ الأحزاب الإيديولوجية السورية (الحزب الشيوعي السوري، حزب البعث، حزب الاشتراكيين العرب، القوميون السوريون… إلخ)، هذه الأحزاب التي كانت بمجملها أقرب لتطلعات الطبقات الشعبية الأضعف اقتصادياً، حيث كانت على الدوام محرضاً على استصدار قوانين تحد من الملكيات والسلطات المطلقة لهذه الطبقة الاجتماعية الاقتصادية.
فشلت جميع التنظيمات والتحركات القومية الكردية التي كانت هذه الطبقة العمود الفقري فيها في تحقيق أي شيء يذكر. فجمعية خوييبون القومية، التي يمكن اعتبارها آخر تنظيم سياسي قومي على هذا الأساس، فشلت تماماً في تحقيق أي وارد سياسي مما كانت تسعى إليه. وكانت موازياً سياسياً للكثير من التنظيمات السياسية المشابهة لها من حيث البنية والتنظيم في كل من كردستان تركيا والعراق؛ هذا الفشل تسبب بفقدان الطبقات الفلاحيّة الكردية لأي اعتبار رمزي ووجداني لهذه الطبقة، هؤلاء الذين كانوا في الوجدان العام حتى أواسط الأربعينات رموزاً مجتمعية وسياسية وقادة للرأي العام. كان انكسار تلك الرابطة الوجدانية مدخلاً لانهيار السلطة الرمزية لهذه الطبقة في المجتمع الكردي السوري، وبالتالي مفتاحاً لاجتراح تنظيمات سياسية على أسس أخرى مختلفة تماماً عن سابقاتها.
سمحت حياة طبقة واسعة من الأكراد السوريين في المدن بتخلي هؤلاء عن أي روابط اقتصادية بينهم وبين طبقة الإقطاعيين وكبار الملاكين الأكراد. هذه الروابط التي كانت مدخلاً لتحكم الملاكين بالولاء السياسي لزعماء العشائر وملاكي الأرضي 6 . فالنزوح نحو المدن خلق بالتدريج هذا «الانعتاق» من سيطرة طبقة الملاكين هؤلاء، إن من خلال انتفاء السيطرة الاقتصادية، وإن من خلال تحطم الروابط الدموية العائلية والعشائرية بالتدريج.
4.3 انشقاق 1966 الأول، وظهور طبقة «العمال» الكرد السوريين.
ما إن تأسس الحزب عام 1957، حتى تضخمت قواعده الجماهيرية بشكل كبير بعد عام واحد من تأسيسه 7 . حيث انتسبت إليه ثلاث فئات اجتماعية كردية بكثافة شديدة:
1- طلاب المدارس الثانوية الكرد، الذين كانوا يعيشون تناقضاً في الحياة السياسية المدرسية العامرة وقتها، فقد كانت الأحزاب الإيديولوجية السورية كلها ذات تنظيمات رسمية في الثانويات، حزب البعث والحزب الشيوعي السوري والقومي السوري 8 .
2- جميع الكرد المنشقين عن الحزب الشيوعي السوري، وكان الشاعر والمؤرخ جكرخوين يمثل نموذجاً عنهم.
3- الجيل الثالث من طبقة الإقطاعيين والملاك الكرد، هؤلاء الذين كانوا مؤهلين ليغدوا اللبنة الأولى لتشكل البرجوازية الكردية السورية في الشمال السوري، خصوصاً وأن كثيرين منهم قد تلقوا علومهم الأولية في المدارس الخاصة الداخلية خارج المناطق الكردية.
لكن بالمقابل بقيت طبقتان مجتمعيتان كرديتان على رفض تام للحزب الجديد، واعتبرتاه تهديداً حقيقياً لمصالحهما المجتمعية والاقتصادية 9 :
1- طبقة ملاك الأراضي الأكثر تقليدية، والتي كانت متحالفة مع البرجوازية الوطنية السورية، وتسعى لاحتكار التمثيل السياسي الخاص بالكرد السوريين.
2- طبقة رجال الدين الكرد، الذين كانوا ينتظمون عبر الطرق الصوفية واسعة الانتشار، والذين أسسوا «رابطة علماء الدين الإسلامي» كواجهة سياسية لهم 10 .
حدث الانشقاق الأول في الحزب عام 1966. صحيح أنه بالأساس المباشر كان مبنياً على الخلافات السياسية التي كانت تعصف بقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي، بين زعامة الملا مصطفى البرزاني وخيارات أعضاء المكتب السياسي بقيادة كل من إبراهيم أحمد وجلال الطالباني؛ لكن الأساس الاجتماعي الداخلي كان له دور بارزٌ في ذلك.
كان الانشقاق السياسي عام 1966 نتيجة لتناقض جوهري تأسيسي في الحزب، بين «عقليتين» اجتماعيتين سياسيتين 11 ، واحدة شعبوية ذات خطاب قومي يساري ماركسي، وأخرى أكثر ميلاً للوسطية السياسية، كان يمثل الأولى سكرتير الحزب التأسيسي نور الدين ظاظا، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة لوزان، وكل من القياديين المؤسسين عبد الحميد درويش ورشيد حمو، والأخرى بقيادة «الثوري» عثمان صبري والأعضاء الأصغر سناً في اللجنة المركزية، القادمين بدورهم من مرجعيات اجتماعية واقتصادية أفقر وأكثر هامشية.
ظهرت بوادر هذا التناقض الداخلي الأول في قيادة الحزب أثناء المحاكمات الشهيرة عام 1960، حينما أصرَّ عثمان صبري على أن هدف الحزب هو «تحرير وتوحيد كردستان»، بينما أصرَّ سكرتير الحزب نور الدين ظاظا على أن مطالب الحزب تتحدد بالحقوق الثقافية والسياسية للكرد السورين ضمن البلاد 12 .
حينما حدث انشقاق الحزب الأول عام 1966، فإن كل جهة قد جذبت طيفاً بعينه من المجتمع الكردي السوري، رغم أنه كان يبدو غريباً أن تجتمع تلك الطبقات المتنافرة ضمن التنظيم الواحد، وهو الشيء الذي سوف يتفجر من جديد عام 1971 أثناء الانشقاق الثاني للحزب.
تبلور الانشقاق الأول إلى وجود حزبين كرديين في سوريا:
1- الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي بقيادة عبد الحميد درويش:
الذي كان يُعتبر الامتداد الفكري لطروحات الدكتور نور الدين ظاظا، الميال للابتعاد عن الخطاب والبرامج السياسية القومية الحادة. لذا فإن هذا الحزب استطاع أن يجذب كل طبقة الطلبة الكرد في الثانويات والجامعات السورية، الذين سيتحولون مع أبنائهم فيما بعد لمتن الطبقة الوسطى المدينية الكردية في عموم البلاد. كذلك جذب هذا الحزب أبناء الملاكين وصغار برجوازية المدن »«الكردية» التي بدأت تتبلور منذ أواسط الستينات؛ لأن خطابه السياسي لم يكن «انقلابياً» بالمعنيين السياسي والاجتماعي، وهذا الطبقة من أبناء الملاكين والإقطاعيين الكرد كانت قد ذاقت تبعات الانقلابات السياسية والاجتماعية التي شهدتها سوريا منذ النصف الثاني من الخمسينات مع بدء الوحدة مع مصر وحتى انقلاب البعث عام 1963، هذه الانقلابات التي سحبت من هذه الطبقة كل سلطاتها المعنوية والتقليدية.
ما كان بارزاً في هذا «التآلف الاجتماعي» الذي شكل قواعد الحزب الجديد هذا، هو استطاعته لمّ منتمين متناقضين من الطيف الاجتماعي، طبقة الطلاب المدينيين، مع أبناء الجيل الثاني والثالث لكبار الملاك والإقطاعيين الكرد 13 .
2- الحزب اليساري الكردي:
بالمقابل فإن هذا الحزب قد جذب طبقات الفلاحين المستقرين في الأرياف، الذين كانوا قد انشقوا بالأساس من الحزب الشيوعي السوري، ولم يستطع الحزب الديمقراطي الكردي «الأم» السوري مخاطبة هاجسهم الرئيس في مواجهة طبقة زعماء الإقطاع-العشائر الكردية في الأرياف. كذلك جذب الحزب الطبقة العمالية الكردية «الأولى» التي كانت تتبلور في ضواحي المدن، هؤلاء الذين بدأوا هجرتهم الأولى إلى المدن منذ بدايات الخمسينات، الذين كانوا من صغار الفلاحين في الأرياف، ولم يستحصلوا أي شيء من قوانين «ملكية الأراضي» التي بدأت بالصدور منذ عام 1930. وكذلك من المهاجرين الكرد من تركيا، الذين لم يستقروا في القرى الكردية في سوريا، بل فضلّوا الاستقرار في المدن حديثة العهد في الشمال السوري.
صحيح أن زعامة هذا الحزب آلت إلى عثمان صبري، القيادي التقليدي في الحركة القومية الكردية، لكن المحركين الفعليين للحزب الجديد كانا كل من صلاح بدر الدين والملا محمد نيو، اللذان استطاعا لأول مرة بلورة خطاب قومي كردي سوري ممزوج مع الأدبيات اليسارية الماركسية، والمنتميان بالأساس لطبقة العمال والفلاحين المسحوقة في أطراف المدن الكردية الحديثة. وكانت أدبياتهم مدخلاً إلى جذب هذه الطبقات الكردية الأكثر هامشية.
5.3 الانشقاق الثاني «حزب العشائر».
حدث الانشقاق الثاني عام 1971، حينما فشل الزعيم الكردي مصطفى البرزاني في محاولته لتوحيد جناحي الحزب –اليمين واليسار- في المؤتمر الشهير الذي عُقد في منطقة «نوبردان» في كردستان العراق، حيث كان الإقليم الكردي قد حصل على حُكم ذاتي قبل ذلك التاريخ بوقت قصير.
بذلك انقسم الحزب إلى ثلاثة أحزاب، اليمين الذي بقي على خطه وعقيدته السياسية السابقة، واليسار الذي غرق بالمزيد من النزعة اليسارية «الماركسية» والشعبوية، والحزب الجديد الذي أسس له الملا مصطفى البرزاني، ولم يرضَ عنه الجناحان اللذان ذهبا للاتحاد سوية في ظله. سمي الحزب الجديد ب«البارتي»، والذي مثل الجهة السياسية الموالية لعائلة البارزاني على الدوام.
إن تأسس وصمود هذا الحزب الجديد في البيئة الاجتماعية الكردية السورية، جاء نتيجة ثلاثة عوامل متضافرة:
1- تحول الزعامة البارزانية بعد نيل الحُكم الذاتي في كردستان العراق (عام1970) إلى زعامة قومية عامة، تجذب التيارات الاجتماعية الكردية التقليدية والمحافظة المتطابقة معها، والتي كانت في مرحلة انحدارها في جميع المناطق الكردية في كل دول الجوار. حصل الملا مصطفى البرزاني على الحُكم الذاتي في العراق في ذلك التاريخ، وبذلك أعاد إحياء تلك التيارات الاجتماعية التقليدية، ومدَّها بسند أيديولوجي و«روحي» تمثل بنجاعة نموذج «القيادة العشائرية» التي مثّلها الملا مصطفى البرزاني في استحصال الحقوق القومية الكردية.
2- استطاعت البنى التقليدية «العشائرية» في المجتمع الكردي السوري إعادة ترتيب هويتها وذاتها السياسية، عبر الانتظام الكثيف في هذا التيار الجديد، بعد تشتتها المديد بين التيارين السياسيين الوحيدين الذين كانا يمثلان الحياة السياسية ضمن الأكراد السوريين –اليمين واليسار- حيث لم يكن لهذا البنى التقليدية أي حضور وفاعلية وسلطة حقيقة ضمن هذين التيارين 14 .
3- خفوت الحضور السياسي لكل من الجناحين التقليديين للحركة الكردية السورية. اليمين عبر انهيار حليفه الكردي العراقي المنافس للملا مصطفى البرزاني، كل من إبراهيم أحمد وجلال الطالباني. واليسار عبر المزيد من الغرق في الأيديولوجيات السياسية الرومانسية، مثل الثورة الكلية العمالية والفلاحيّة، غير المتطابقة مع الواقع الكردي السوري.
6.3 سُبات التنظيمات، وتحوّل المجتمع الكردي.
خلال فترة زمنية مديدة، بقيت التنظيمات السياسية الكردية محافظة على هذا «التخالف» الثلاثي، وإن شهد كل تنظيم منها العديد من الانشقاقات؛ لكن دون أن تستطيع أي من هذه الانشقاقات التحول إلى تيار سياسي بذاته، وذو ملامح سياسية وتنظيمية وقواعد اجتماعية واضحة.
لكن أثناء هذه الفترة التي ربما قاربت ثلاثة عقود من حُكم حافظ الأسد (1970-2000) طرأت تغيرات بنيوية على القاع الاجتماعي الكردي السوري؛ يمكن تحديد ملامح التحولات المركبة هذه بأربعة ملامح واضحة:
1- تأسست كثيرٌ من المدن ذات الصبغة الاجتماعية الكردية تماماً. أكبرها مدينة القامشلي التي قارب مجموع سكانها نصف مليون نسمة، وكانت أغلبية السكان المطلقة فيها من الأكراد. كذلك مدينة الحسكة التي كانت توازيها بالحجم السكاني، وتبلغ نسبة الكرد فيها قرابة النصف. لكن بالإضافة إلى هاتين المدينتين الكبيرتين نسبياً، فإن عدداً كبيراً من البلدات التي كان يبلغ عدد سكانها خمسين ألف نسمة، وذات صبغة كردية خالصة، كانت تأسست أيضاً: ديريك «المالكية»، عفرين، كوباني، عامودا، الدرباسية، رأس العين، التربسبية «القحطانية». حملت هذه المدن التي تضخمت خلال هذه السنوات الطويلة جميع ملامح التمدن الاجتماعي الكردي الكثيف والأولي، من حيث تشكل الطبقة الوسطى البيروقراطية، وبزوغ طبقة المهنيين الكرد، والانقسام الواضح بين «الفقراء-الأغنياء» الكردي، والتخالف الواضح بين المجتمعي الكرديين «الريفي/المديني» وبروز العائلات الكردية «المتعلمة»، المعتمدة في تحصيلها المعيشي على تحصيلها المعرفي…إلخ.
2- الاندماج الثقافي والبيروقراطي والاقتصادي الأول للكرد السوريين مع الكل «الوطني». وذلك لتوسع التعليم وتطور شبكة المواصلات ونمو قطاعات اقتصادية جديدة في المناطق الكردية، ذات صُبغة تجارية وتبادلية وشبه صناعية. لكل تلك الأسباب المركبة والمعقدة، انتفت صبغة «العزلة المناطقية-الاجتماعية» عن الكرد السوريين مقابل الكل العمومي السوري.
3- بروز العشوائيات والمهجرين الكرد، الذين شكلوا مع بعضهم طبقة «المسحوقين الكرد» السوريين. فكل المدن الكردية أُحيطت بالعشوائيات السكانية، بنسبة وأشكالٍ موازيةٍ لعموم ما جرى في سورية في ذلك الاتجاه.
4- انتفاء الفلاحة والرعي كمهنتين جوهرتين ورئيسيتين في حياة أغلبية الكرد السوريين. حيث ساهمت المكننة الزراعية من طرف، وضمور الزراعات التي تحتاج إلى جهد فِلاحي يومي –كزراعة الأرز والقطن- من طرف آخر، في ضمور مهنتي الفلاحة والرعي. فالاعتماد الأكبر للقطاع الزراعي في المناطق الشمالية من سوريا كان على الزراعات البعلية –القمح والشعير- حيث اعتبرتها الحكومات السورية المتعاقبة منتجاً استراتيجياً لا يمكن استبداله بزراعات أخرى.
هذا الأمر حوّل القرويين الكرد إلى شبه عاطلين عن العمل في قراهم، وأدى إلى مزيدٍ من النزوح نحو المدن الكبرى. طبعاً أدى هذا إلى تحطم الروابط الدموية العشائرية التي كانت رديفة وموازية للامتهان الزراعي؛ لكنها بالمقابل أدت لضمور مكانة المرأة في المجتمع الكردي، تلك المكانة الاجتماعية التي كانت بدورها مرتبطة بمساهمة المرأة في العمل الاقتصادي في المجتمعات الزراعية. فالمحافظة الاجتماعية التي أصابت المجتمع الكردي السوري في المدن منذ التسعينات، كان نتيجة لتراجع دور النساء الاقتصادي في الأرياف والمدن.
ما حدث سياسياً بشكل مطابق لتلك التحولات الاجتماعية، كان بروز تيارين سياسيين متخالفين تماماً فيما بينهما، ومختلفين في الوقت عينه مع التيارات «الأجنحة» التقليدية الثلاث للحركة القومية الكردية في البلاد.
7.3 بروز حزب العمال الكردستاني في المجتمع الكردي السوري.
صحيح أن بروز حزب العمال الكردستاني PKK، كانت نتيجة توافق سياسي إقليمي بين النظام السوري وهذا التنظيم السياسي العسكري الكردي «التركي»، ليغدو ورقة ضغط من قبل النظام السوري على الجار التركي «اللدود»؛ لكن ما كان لتلك الحالة أن تبرز وتتعمق سياسياً لولا المساحة الكبيرة التي لاقاها هذا الحزب في الأوساط الاجتماعية الكردية السورية، التي جاءت لتضافر عاملين مركبين:
– تغاضي النظام السوري عن نشاط الحزب المذكور ضمن القواعد الاجتماعية الكردية شمال البلاد، وذلك ليسحب تلك القواعد من الأحزاب الكردية السورية، ويحول وعيها وتطلعاتها السياسية نحو خارج البلاد.
– استطاع هذا الحزب تأسيس خطاب قومي/يساري رومانسي ضمن أوساطه الشعبية. هذه النبرة العاطفية القومية جذبت بشكل عنيف طبقة المسحوقين الكرد في سوريا، الذين كانوا تركيباً اجتماعياً من سكان ضواحي وعشوائيات المدن ذات الأغلبية السكانية الكردية، مع طبقة فقراء القرى المسحوقين، مضاف إليهم شريحة الشباب والمراهقين ذوو التحصيل المعرفي والمهني الأقل، الذين جذبتهم سلوكيات هذا الحزب في العمل المسلح 15 .
خلقت هذه الحالة نوعا من «الخلل» في علاقة القواعد الاجتماعية الكردية الأكثر حرماناً وهامشية في المجتمع الكردي. فقد كانت هذه القواعد الأكثر اندماجاً بالخطاب والنشاط السياسي القومي الكردي الحاد؛ لكنها بالوقت ذاته كانت ذات علاقة فصاميةٍ مع حالتها الطبقية وظرفها الاقتصادي. وكانت الأكثر بُعداً عن التيارات السياسية الكردية التي يمكن أن تحقق أو تتماهى مع مطالب طبقة المسحوقين الكرد السوريين تلك.
سياسياً، ومع بروز حزب العمال الكردستاني، باتت قرابة نصف القواعد الاجتماعية الكردية السورية خارج الكل «الوطني» السوري سياسياً، وخارج الحركة السياسية الكردية السورية التقليدية، عملاً وتنظيماً وخطاباً سياسياً. ومع نشاط حزب العمال الكردستاني في القواعد الاجتماعية الكردية السورية، تأسست الطبقة الكردية السورية المغتربة سياسياً واجتماعياً عن الكل السوري، هذه الطبقة الكردية التي ستغدو فيما بعد الطبقة الموالية لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD، الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، الذي سيختار خطاً سياسياً مخالفاً تماماً لكل الأحزاب الكردية السورية الأخرى، وستكون هذه القواعد الاجتماعية المسحوقة وقود جناحه المسلح YPG الذي سيخوض صراعاً مسلحاً مع التنظيمات العسكرية الأخرى التي أفرزتها «الثورة السورية»، حين تحولها لحرب أهلية مفتوحة 16 .
8.3 بروز حزب يكيتي الكردي السوري.
تفتت التيار اليساري من الحركة القومية الكردية فيما بينه لعدد من التيارات، ابتداءً من بداية الثمانينات. لكن أياً من هذه التيارات السياسية لم يستطع أن يشكل حيزاً ولوناً سياسياً متمايزاً عن الحزب الأم، الذي كان يجمع بين نبرة قومية عالية، وخطابية ماركسية رومانسية.
في أوائل التسعينات تنظم عدد من أفراد الجيل الأحدث من المنخرطين في الحركة القومية الكردية في سوريا، المنشقين من أحزاب مختلفة، حزب البارتي وحزب اتحاد الشعب وحركة الشغيلة… إلخ، وأسّسوا سويةً حزب الوحدة الديمقراطي الكردي عام 1993.
ما كان يميز هذا التنظيم الجديد، أنه تأسس من منشقين من أحزاب سياسية مختلفة، وأن أغلب المنشقين كانوا من قيادات الصف الثاني والثالث في تلك الأحزاب، جيل الشباب. حيث استطاع خطابه السياسي ونشاطه التنظيمي أن يؤسس لقاعدتين جديدتين في الحركة القومية الكردية 17 :
1- تحويل الشأن السياسي الكردي السوري إلى شأن مركزي في الممارسة السياسية، والتخفيف قدر المستطاع من هيمنة التيارات السياسية الكردستانية الأكبر حجماً من الأحزاب السياسية الكردية السورية، سواء الحزب الديمقراطي الكردستاني أو الاتحاد الوطني الكردستاني أو حزب العمال الكردستاني 18 .
2- الاهتمام التنظيمي بالقواعد الكردية في مناطق الداخل السوري، سواء المجتمعات الكردية النازحة لمدن دمشق وحلب وحُمص، أو الطبقة الطلابية الكردية في الجامعات السورية.
لكن هذا الحزب الجديد عاد وانقسم على ذاته عام 1998 إلى تيارين متباينين، الأول بقي محافظاً على اسمه التقليدي، حزب الوحدة، والآخر بقيادة الجيل الأكثر شباباً ضمن حركة اليسار القومي الكردية، أختار لتنظيمه الجديد اسم «يكيتي»، وهو الترجمة الكردية لاسم الحزب الأم «الوحدة».
تباين خط الحزب الجديد مع عموم خيارات الحركة القومية الكردية في سوريا في ثلاث مسائل جوهرية 19 :
1- الميل نحو العمل السياسي «الميداني» في مواجهة النظام السياسي الحاكم للبلاد، من خلال التظاهرات والاحتجاجات والاحتفالات الحزبية «غير المرخصة» في المناطق الكردية. وهو شيء لم يكن حتى حزب الوحدة قد مارسه أثناء نشاطه السياسي.
2- الخروج من استقطابي الحركة القومية الكردية السورية. فقد كانت كل الأحزاب الكردية السورية الصغيرة إما قريبة من الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا البارتي، أو الحزب التقدمي الكردي السوري، بعدما كان حزب اليسار قد خرج من المعادلة السياسية الكردية السورية منذ أوائل التسعينات.
3- عرض مطالب سياسية كردية سورية تتجاوز المسائل التقليدية التي طالبت بها الحركة القومية السورية، مثل إلغاء نتائج الإحصاء الاستثنائي والاعتراف الثقافي والتعليمي باللغة الكردية… إلخ. بل تعدى حزب يكتي تلك الدعوات للمطالبة بدمقراطة البلاد، وبأشكال من اللامركزية السياسية، بحيث يستطيع الكرد إحراز مكانة ذات خصوصية قومية.
تفاعل الحزب مباشرة مع خياراته وبرنامجه السياسي، وترأس قياديون من الحزب التظاهرة الشهيرة أمام مجلس الشعب السوري عام 2002، حيث سُجن على أثرها القياديان حسن صالح ومروان عثمان. ثم تتالت نشاطات هذا الحزب في ذلك المنحى، وصولاً إلى مؤتمره العام عام 2010، حيث طالب بشكل رسمي بالفيدرالية كحل للمسألة الكردية في سوريا، وأخيراً عبر التفاعل الحيوي مع الثورة السورية منذ بدأ انطلاقتها.
استطاع حزب يكتي الكردي من خلال هذه الممارسة السياسية جذب قاعدتين اجتماعيتين كانتا شبه مُحايّدتين في الحياة السياسية للأكراد السوريين، لأسباب مختلفة:
1- طبقة البيروقراطيين الكرد المنخرطين في المؤسسات الرسمية للدولة السورية، هؤلاء الذين كانوا يخشون سابقاً من أن أي انخراط في الحركة القومية الكردية سيؤدي مباشرة لخسارتهم لمواقعهم الوظيفة.
هؤلاء البيروقراطيون الكرد هم أبناء الجيل الثالث والرابع من النازحين الكرد نحو المدن حديثة التكوين، الذين اندمجوا بالتعليم العام بشكل مكثَّف في الجيلين الأول والثاني. بدأ هؤلاء مزاحمتهم الأولى مع البيروقراطيين السريان في تلك المؤسسات الرسمية؛ واستطاعوا إحراز مواقع متوازنة في تلك المؤسسات الرسمية، جراء سياسيات حافظ الأسد الاستيعابية للمجتمع الكردي 20 ، لخلق توازن مع مجتمع العشائر العربية في الشمال السوري، التي كانت أميل بالولاء لنظام صدام حسين في العراق، طوال الصراع بين النظامين الحاكمين في البلدين لعقود طويلة. لكن هذه الطبقة البيروقراطية الكردية ما لبثت أن لاقت منافسة من قبل البيروقراطيين العرب منذ أواسط التسعينات، خصوصاً بعد انقلاب موقف النظام السوري من الكرد في المنطقة، عقب حرب الخليج الثانية وانقطاع العلاقة بين النظام وحزب العمال الكردستاني عام 1998.
كانت هذه الطبقة البيروقراطية العربية «مسلحة» بولائها وانتمائها الحاد لتنظيم حزب البعث الحاكم، بل كان أبناء العشائر العربية يعتبرون حزب البعث ومؤسساته هو حصتهم الجزئية من «كعكة» الحُكم في البلاد، نقصد هنا الطبقة البيروقراطية منهم فحسب.
بناء على ذلك، فإن طيف من الطبقة البيروقراطية الكردية كانت ترى في حزب يكيتي تعبيرها السياسي المزاحم لهذا الميل من قبل «البيروقراطية العربية». حيث كان حزب يكيتي يمل بقوة لتحديد مطالب «كردية سورية» خالصة في مقابل نزعة باقي الأحزاب الكردية السورية إما للاعتزال أو الغرق في تيارات قومية كردية غير سورية.
2- الطبقة الوسطى الكردية المدينية، من صغار التجار والأطباء والمهندسين وذوي الأعمال الخاصة المتوسطة. هؤلاء الذين كانوا يشغلون مراكز المدن ذات الصبغة الكردية. هذه الطبقة التي كانت تبحث عن تعبيرها السياسي الذي يراعي «اندماجها» الاقتصادي والرمزي مع الكل السوري، ويحافظ من طرف آخر على خصوصية حالتهم القومية.
كانت السنوات الفاصلة بين عامي (2000-2011) هي التي تميز فيها حزب يكتي الكردي بالنشاط السياسي «الميداني»، بالذات في التظاهرات في مدينتي دمشق والقامشلي. خصوصاً في الفترة التي أعقبت أحداث القامشلي الدموية 2004، ووصلت ذروتها بجذب الحزب لرجل الدين الشهير «معشوق الخزنوي»، الذي شارك في كثيرٍ من تجمعات الحزب المذكور، وخلق شعبية عالية للحزب.
لكن هذا الصعود السياسي لحزب يكتي الكردي في هذه الأوساط الاجتماعية الكردية، جاء نتيجة لتحولات في المجتمع الكردي السوري خلال العقد الأول من حُكم بشار الأسد:
1- تأسس مجتمع كردي كامل في مدن الداخل السوري، نتج عن موجات الهجرة الكبيرة من مدن وبلدات الشمال السوري نحو دمشق وحلب وحمص، هذه المدن الثلاث التي امتصت كل عائدات التنمية الاقتصادية وإعادة الهيكلة التي تعرض لها الاقتصاد السوري خلال هذه السنوات. كان لهذا المجتمع الكردي في هذه المدن، والذي كان يُقدر بمئات الآلاف من المهجرين، كان له كل سمات «طبقة المسحوقين» الكرد، تلك التي كانت توالي حزب العمال الكردستاني طوال الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم. لكن هذه الطبقة الكردية الجديدة كانت ملامسةً مباشرة لكافة تفاصيل الحياة العامة السورية، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً، لذا فإن تياراً سياسياً كردياً ذو صبغة «وطنية» هو الذي كان أكثر جذباً لهذه الطبقة الكردية «المسحوقة».
2- الإدراك العميق لدى الأكراد السوريين بأن المسألة الكردية في كل من العراق وتركيا قد لاقت أنماط مختلفة من الحل والتفكك بدرجات متفاوتة، دون أن يؤثر ذلك بأي شكل إيجابي على المسألة الكردية في سوريا؛ وهو الشيء الذي دفع ب«المسحوقين» الكرد للاقتراب من التيارات السياسية «المتشددة» بمطالبها الكردية «الوطنية».
3- تبدل العلاقة التي كانت شبه إيجابية بين النظام السوري الحاكم والمجتمع الكردي في الشمال السوري. حيث كان «العقل» الأمني السوري يستشعر خطراً من قبل الكرد السوريين، خصوصاً بعد حرب العراق 2003. حيث مارس النظام السوري في ظل حُكم بشار الأسد المزيد من الضغوط الاقتصادية والسياسية على المناطق ذات الأغلبية الكردية. وهو شيء أدى إلى فصام ومتاركة حادة بين النظام الحاكم والمجتمع السياسي الكردي، ومالت الطبقات الاجتماعية الكردية الأكثر حيوية –الطبقة الوسطى والشباب- للانضمام إلى التيار الأكثر راديكالية في مناهضتها للنظام الحاكم.
تحليل كلي: المجتمع الكردي من البداوة إلى التمدن.
يمكن تقسيم تحولات بنية المجتمع الكردي وعلاقته بالمؤسسات السياسية المعبرة عنه -الأحزاب السياسية- إلى أربعة أحياز متمايزة. كان هذا المجتمع الكردي كلما دخل طوراً جديداً من الحياة الاجتماعية، اجترح تياراً سياسياً معبراً عن ذلك التحول. إلى وصل إلى اللحظة التاريخية الراهنة، حيث تتعايش الكثير من التيارات السياسية الكردية إلى جانب بعضها، وتلقى كل واحدة منها البنية الاجتماعية التي تناسب نزعاتها السياسي، وهذا التلون في المؤسسات الحزبية، دليل على وصول المجتمع الكردي إلى مستوىً عالٍ من التعقيد والتشكل المديني.
المرحلة الأولى: من العشرينات وحتى الخمسينات.
كان المجتمع الكردي يمتد على طيف قروي وبدوي واسع الإنتشار، وكانت الروابط العشائرية هي الآليات شبه الوحيدة التي تنظم أنماط العلاقة بين أفراد المجتمع، ولم يكن المجتمع الكردي السوري قد فكَّ روابط التواصل العميقة و«الحميمية» عن امتداده الاجتماعي في كل من العراق وتركيا.
كانت جمعية خويبون تعبيراً سياسياً عن كل ذلك، تنظيمٌ سياسيٌ قومي ذو تطلعات كبرى، بزعامة أبناء العائلات الإقطاعية والباشوية الكردية. مقابل هامشية المجتمع الكردي تماماً في تلك العملية، عدا ما يتعلق بالولاء المطلق لهؤلاء الزعماء المحليين.
المرحلة الثانية: الخمسينات والستينات.
كان الاستقرار الجغرافي والسياسي قد تمركز في سوريا، واندمج الجيل الأول من الكرد في المدن حديثة التكوين، وبدأت مؤسسات الدولة التعليمية والبيروقراطية بالانتشار في الجغرافية ذات الأغلبية الكردية. حيث تحطمت الطبقات المجتمعية الحاكمة في المجتمع الكردي بالتقادم، وبدأ ظهور أكراد المدن.
حسب وتيرة التحول تلك، ظهر الحزب الديمقراطي الكردي الأول، وعلى أساس التنوع المبدئي المديني والقروي حدثت انشقاقاته الأولى فيما بعد، التي كانت تعبيراً بدرجة كبيرة عن ظهور الطبقات المتمايزة لأول مرة في المجتمع الكردي، ليس الطبقات المتمايزة اقتصادياً فحسب. بل المتمايزة معرفياً وجهوياً ووظيفياً.
المرحلة الثالثة: من السبعينات وحتى نهاية القرن.
يمكن تسمية تلك المرحلة ب«عهد الاستبداد» السياسي، الذي خلّف طيفاً واسعاً من «المسحوقين الاجتماعيين» الأفقر اقتصادياً والأقل تحصيلاً للمعارف والأكثر هامشية في المتن الاجتماعي والأكثر نبذاً من قبل المؤسسات العامة في الدولة.
استطاع حزب العمال الكردستاني استيعاب هذه الطبقة «المعنفة» وإعادة توجيه وعي الكرد السوريين إلى قضيةٍ خارج البلاد، حيث لم تكن كل التكوينات السياسية الكردية السورية تؤمِّن منصةً سياسيةً مناسبةً لهذه الطبقة الاجتماعية الكردية.
المرحلة الرابعة: القرن الجديد.
كانت المدن ذات الصبغة الاجتماعية الكردية شبه الخالصة قد تأسست، وكان المهجرون الكرد وباقي طبقة التجار والبيروقراطيين والطلاب الكرد قد اندمجوا إلى حد كبير في الحياة العامة السورية بكل تناقضاتها، وبذلك باتوا تشكيلاً مجتمعياً سورياً بكل تفاصيله وتناقضاته وصراعاته.
كان حزب يكتي تعبيراً عن ذلك التحول الجوهري الذي أصاب المجتمع الكردي.
هوامش
- ↑ أنتج الباحث هذا البحث بالتعاون مع مؤسسة Friedrich Ebert الألمانية.
- ↑ في قراءة مذكرات الشاعر والمتنور الكردي جكرخوين يمكن فهم الطبيعة العميقة للبعد الذاتي في الصراع على الزعامة بين هذين الطرفين، والتي أدت إلى انهيار وتحلل الجمعية بالتقادم. نجلي بدرخان كانا من أحفاد الأمراء الأكراد الذين حكموا أمارة جزيرة بن عمر الكردية تاريخياً، ونجلي جميل باشا كانا من أبناء العائلة الكردية التي تولت الباشوية في مدينة ديار بكر لسنوات كثيرة، وكان كل منهما يرى في نفسه الأهلية الوحيدة لقيادة الحركة الكردية.
- ↑ في وصف بداية الأربعينات من القرن المنصرم، يرد في المذكرات الشيقة للسكرتير الأول للحزب الديمقراطي الكردي الدكتور نور الدين ظاظا «حياتي الكردية، أو صرخة الشعب الكردي» ما يلي: «كانت غالبية سكان مدينة الحسكة حينها من السريان الأرثوذكس والكاثوليك والأرمن، أما العرب فقد كانوا موظفين من دمشق ومزارعين من دير الزور، وكانوا قلة، ولا تزال القبائل العربية تعيش حياة البداوة، وتنتقل مع مجرى وادي الفرات، الخابور والجقجق. وما أن يخرج المرء من المدينة باتجاه الشمال حتى يجد نفسه في قلب بلد كوردي» ص 56.
- ↑ سمحت طبيعة الزراعات البعلية الموسمية، الحنطة والشعير والعدس، تلك التي لا تحتاج إلى متابعة يومية وحثيثة، سمحت منذ أواسط الأربعينات لعدد كبير من ملاك الأراضي الأكراد بالعيش في المدن والقرى في الآن ذاته. فقد كانوا يقضون معظم شهور الشتاء في هذه المدن، بينما يقضون الوقت الأطول من الصيف في القرى. ساعد في ذلك الطبيعة الجغرافية المتقاربة بين هذه القرى والمدن والبلدات العديدة في الشمال السوري.
- ↑ ينحدر كل من عبد الحميد درويش ومحمد علي خوجة ورشيد حمو وحمزة نويران من تلك الطبقة، طبقة الملاكين وصغار الملاكين الذين نزحوا كأول جيل نحو المدن.
- ↑ كان قانون ملكية الأراضي 3339 «الفرنسي» الذي صدر في نهاية عام 1930، سمح لنفس لطبقة زعماء العشائر الأكراد بالتحول لكبار الملاكين «الإقطاعيين»، وذلك عبر تمليكهم لمساحات واسعة من الأراضي التي كانت بوراً وقتئذٍ، أو أراضٍ أميرية تعود ملكيتها للدولة. تلك التي كانت تقدر مساحتها ب70% من عموم مساحة سوريا.
- ↑ مقابلة خاصة من سكرتير حزب المساواة الكردي السوري عزيز داوود في كانون الثاني 2014.
- ↑ يؤكد طاهر صفوك، السكرتير اللاحق للحزب الوطني الكردي السوري، أن جميع الطلبة الكرد في شعبته المدرسية انتموا للحزب الديمقراطي الكردي السوري دفعة واحدة عام 1958. «مقابلة خاصة».
- ↑ مقابلة مطولة وخاصة للباحث مع السياسي الكردي المخضرم خالد مشايخ، والذي كان عضواً قيادياً في الحزب الديمقراطي الكردي طوال الستينات، ثم تعرض للاعتقال طوال فترة السبعينات.
- ↑ في كتابه الشيق «أضواء على الحركة الكردية 1956-1983» يسرد عبد الحميد درويش، سكرتير الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي السوري التصارعات البينية في المجتمع الكردي المحلي خلال السنوات الأولى، وموقف وأسباب كل تشكيل اجتماعي من التأسيس الأول للحزب وقتئذٍ.
- ↑ مقابلة خاصة مع السياسي الكردي سعود الملا، السكرتير العام للحزب الديمقراطي الكردستاني السوري.
- ↑ يمكن الاطلاع على تفاصيل تلك المحاكمات في السيرة الذاتية لنور الدين ظاظا في كتابه الشهير «حياتي الكردية، أو صرخة الشعب الكردي».
- ↑ لا يمكن الكشف عن ذلك بالضبط في تفاصيل القواعد الاجتماعية لهذا الحزب، لغياب الحد الأدنى من الأدبيات والإحصاءات والوثائق الحزبية التي يمكن الاستناد عليها، لكن يمكن ملاحظة ذلك بجلاء بحسب الانتماءات الاجتماعية لعموم الأعضاء القياديين في اللجنة المركزية في الحزب وقتها: خالد مشايخ، طاهر صفوك، عزيز داوود، رشيد حمو، جكرخوين…إلخ، هؤلاء الذين ينتمون جميعاً إلى ذلك التشكيل الاجتماعي المذكور.
- ↑ لم يكن خارج السياق أن تتولى قيادة الحزب الجديد «البارتي» شخصية عشائرية مطلقة الولاء للعائلة البارزانية، الحاج دهام الميرو. ومن ثم تتالى على زعامة الحزب شخصيتان سياسيتان من نفس الطبقة الاجتماعية، المحاميان كمال أحمد درويش ومحمد نذير مصطفى.
- ↑ تذهب التقديرات إلى أن الضحايا الشبان من الأكراد السوريين الذين راحوا ضحية انضمامهم للعمل المسلح لحزب العمال الكردستاني المناهض للحكومة التركية تتراوح بين 4-5 آلاف ضحية، من أصل 15 ألف ضحية هم مجموع قتلى هذا الحزب، وأن مجموع المنضمين الكرد السوريين للعمل المسلح لهذا الحزب قارب 15 ألف منضم، من أصل قرابة 50 ألف مقاتل كانوا في صفوف هذا الحزب. وهذه الأرقام تعد كبيرة جداً مقارنة بالحجم النسبي للأكراد السوريين بمقابل الأكراد الأتراك، إذ يشكلون فقط قرابة 10 % منهم، لكن ضحاياهم ضمن هذا الحراك الكردي التركي تقدر بحدود الثُلث؛ وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على مدى شعبية هذا الحزب ضمن الأكراد السوريين. مقابلات كثيرة للباحث مع قياديين من هذا الحزب، منهم عمر أوسي، المستشار السابق لزعيم الحزب عبد الله أوجلان ومترجمه الخاص.
- ↑ كانت النُخب السياسية الكردية السورية التي قادت هذا الحزب على الضفة الكردية السورية نُخباً مغتربةً ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً عن الكل السوري تماماً، تقريبا لم تكن تعرف أي شيء عن الثقافة والاقتصاد والمجتمع السوري، إلا ما ندر. أنظر مقالة سابقة للباحث منشورة في صحيفة الحياة «أكراد سورية خارج نمطَيْ كردستان وتركيا»: صحيفة الحياة 9/4/2014.
- ↑ أعداد مختلفة من جريدة «الوحدة» الناطقة باسم اللجنة المركزية للحزب.
- ↑ مقابلة سابقة وخاصة للباحث مع الراحل إسماعيل عمر، السكرتير الأول لحزب الوحدة الديمقراطي.
- ↑ مقابلة خاصة للباحث مع القيادي في حزب يكيتي الكردي عبد الباقي اليوسف، وكذلك مع القيادي في ذلك الحزب وعضو مجلس الشعب السوري السابق السيد فؤاد عليكو.
- ↑ بشأن سياسات حافظ الأسد الاستيعابية وتعامله المتوازن مع المكونات المجتمعية السورية، مقابلات خاصة للباحث مع عبد الحميد درويش سكرتير الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا.
موقع الجمهورية