رستم محمودصفحات سورية

المسألة الكردية كمعيار لبناء “الوطنية السورية”


رستم محمود

انسحبت الكتلة الكردية من مؤتمر توحيد المعارضة السورية، الذي عقد في القاهرة برعاية الجامعة العربية. حيث أصرت الكتلة الكردية على إدراج مصطلح “الشعب الكردي” كتسمية رسمية للأكراد السوريين، فيما لقيت هذه التسمية رفضاً قاطعاً من جلّ الطيف السياسي السوري المعارض، معتبرين أن ذلك قد يجر دلالات وتفسيرات مستقبلية غير حميدة تتصل بـ”وحدة المجتمع والتراب” السوريين. حيث علا الصراخ والتنابذ بين المجتمعين في صالة المؤتمر، ووصل الأمر درجة حدوث احتكاك جسدي بين بعضهم البعض. فهذه ليست المرة الأولى التي ينسحب فيها الأكراد من مؤتمرات المعارضة السورية، ودوماً تكون الأسباب الدافعة لانسحاب الأكراد، شبيهة بالذي جرى في القاهرة. ولو تركنا جانباً كل التأثير السياسي للدول الإقليمية على ذلك المشهد، يمكننا رصد هذا “التصادم” الكردي العربي سياسياً في التشكل الحديث لعالم السيمياء السياسية السورية بمعترضتين غير قابلتين للالتقاء.

شعور سياسي عربي مبطن، يذهب للاعتقاد الجازم بالهوية العربية السياسية لسوريا المستقبلية. هوية تبدأ بتغليف الخيارات السياسية، ولا تنتهي بتشكيل الرموز العمومية للبلاد. طبعا مع تطعيم خطابي غير واضح عن المساواة في المواطنة والحقوق الثقافية والقومية للأكراد… إلخ. مقابل ذلك، فأن الأكراد ينزاحون في مطلبهم السياسي لتصور يعتبر سوريا المنتظرة دولة توافقية، مؤسسة على عقد تشاركي بين مجموع مكوناته الأهلية القومية والمذهبية والدينية، حيث يجب أن يُعترف بها، وتتقاسم الثروة الرمزية لهوية البلاد، بشكل متساو تماماً، بغض النظر عن نسبها التكوينية من مجموع السكان.

حدث ذلك التصادم دوماً، منذ بدأ العمل السياسي السوري مع بداية الثورة السورية، وكان انعزال الأكراد يشكل عائقا كبيراً لتكوين عموم سياسي وطني سوري معارض، ذلك أن أساس تلك الرغبة بتكوين تلك الهوية الوطنية السورية، ثمة ثلاث معضلات غير مفككة:

لا يميز الطرف العربي بين منجز الكيانية المطلقة والنهائية للدولة السورية، وبين منجز الهوياتية لها. فالدولة السورية بحدودها الجغرافية وبداهة تشكلها ككيان محدد ومنجز، لا يجب أن يربط بشكل محكم ونهائي مع أي تعريف وتحديد وحيد لهوية هذا الكيان، أي أن تبدل الهوية وفق الأطوار التاريخية والمستقبلية لا يعني التشكيل بالكيان أو كسره أو تحويله. ففي العمق يجب التمييز بين الدولة التي يجب أن لا تُمس وبين هويتها التي يجب أن تكون في تطور تاريخي متعاقب. فلو ربطنا كل دعوة ونقاش عن هوية البلاد العميقة، بالنوايا الكامنة للداعين بالتشكيك بـ”المنجز” الكياني للدولة، فإن ذلك سيدفع باتجاه اغلاق محكم للكلام العام والحريات السياسية، وسيعيدنا إلى عصور ما قبل الثورة، حيث كان الاستبداد البعثي نفسه، يقمع معارضيه، بأحجية الدفاع المطلق عن منجز الكيان السوري، بينما لم يكن المعارضون وقتها يمسون ذلك، بل يمسون شكل هوية البلاد التي حددها المستبد نفسه، والمتمثلة بالشمولية السياسية وقتها. فأي ربط تلقائي كهذا، يعيد كبح انعتاق الفضاء العام السوري، وهو نكوص عميق لعصور ما قبل الثورة. وعلى سوية عدم التفريق نفسها بين الكيانية السورية وبين هوية الكيان السوري، لا يتم التمييز بين وحدة المجتمعات السورية التي تعني سلامه الاجتماعي فحسب، وبين وحدة المجتمع السوري التي تعني واحديته. فما يجب أن يصان هو “السلام” المجتمعي الضامن لوحدة المجتمع السوري، وليس واحديته الثقافية والمجتمعية واللغوية.. الخ. فما يفرضه ويفترضه الطرف العربي، هو واحدية المجتمع العربي، تحت ستار الحفاظ على “سلامة” المجتمع السوري و”سلامه المجتمعي”.

على سوية مقابلة، يغرق الطرف الكردي في اغتراب سياسي غريب عن الحساسية الوطنية السورية، فمجرد تبني خطاب “المطالبة” يحيله لدفة شعورية وذهنية تعتقد بمركزية العنصر العربي في تشكيل الدولة السورية، وطرفية الآخر الكردي. فبالرغم من نضالات الأكراد التي لا يمكن غض البصر عنها، خصوصا في مرحلة الاستبداد الأكثر حداثة، في عهد الأسد الإبن، حين كان نصف السجناء السياسيين السوريين تقريباً من الأكراد، وكانت المسألة الكردية بالإضافة للمسألة اللبنانية، رافعتين سياسيتين لمواجهة حالة الاستعصاء السورية. رغم ذلك، لم تستطع النخبة السياسية الكردية السورية تحويل المسألة الكردية من “مطالب كردية” إلى مسألة وطنية عامة. إذ لا يكفي التحجج بالتكلس السياسي والأدلجة الذهنية القومية التي تعاني منها النخب السياسية السورية العربية. فهي لم تخاطب بـ”الكم والكيف” الكافيين من الطرف العربي. هذا الاغتراب السياسي الكردي، يعد نكوصا عن روح الثورة السورية، التي فاجأت الكثيرين بعمق روحها العامة، من خلال تمركزها على خطاب “الحرية”. ما يجب أن يدرك في الوعي السياسي للنخب الكردية السورية، أن ما يجري في سوريا ليس انقلابا سياسيا شبيها بالتحولات التي كانت تجري في العراق لحقب متعاقبة، وان الأكراد ما لم يحصلوا على حقوقهم في لحظة التشكل هذه، فإنهم لن يستطيعوا أن يحققوه فيما بعد. فلعلاج “الاغتراب الكردي” لا بد من الايمان بأن مسألة الحقوق الكردية في البلاد ستكون في عملية انتاج وتدفق مستمرة، مضمونة ومرتبطة دوما بحيوية المجتمع الكردي في سوريا وفاعليته في العموم الوطني، حيث يكفي في اللحظة التأسيسية الاعتراف الصادق بالشراكة.

على دفة هذا التنابذ، تجري موجة التفسيرات الماورائية التي يمتشقها كلا الطرفين لهضم سلوكيات ودوافع وخيارات سياسة الآخر. فانسحاب الأكراد يفسر حسب الطرف العربي برغبة قبلية دفينة فيهم تريد أن تُفشل العمل الوطني السوري! لا نتيجة لاختلاف الرؤى والأمزجة والخيارات السياسية للطرفين، في تحديد التشكيل الحديث لسوريا. ومطالبة الأكراد بتحديد أكثر دقة وتعيّناً ووضوحاً لطبيعة شراكتهم في البلاد، لا تفسر بفهم القلق الكردي المزمن من البقاء في منطقة وطنية رمادية في المراحل الانتقالية، بل بخطة و”مؤامرة” كردية مبطنة تريد تقسيم الوطن السوري! كذلك يحول أي خلاف كردي مع طرف عربي، إلى خلاف كردي مع الثورة السورية! في المقابل، فان رفض الطرف العربي بعض الطروحات الكردية، يفسر كردياً على أنه نتيجة للـ”العقلية الإقصائية” الاصيلة عند كل العرب! وكل حساسية من طرف سياسي عربي أو آخر، تجاه البنية الموحدة للدولة والمجتمع السوريين، يفسره الأكراد كجزء من مؤامرة إقليمية مستمرة للامتناع عن منح أي حق للأكراد في المنطقة! هكذا، أحُتقن الفضاء السوري العام، بسرعة مذهلة عقب مؤتمر القاهرة، ووصل الى درجة إطلاق البعض الخطابات الفاشية أحياناً. وهذا ما ينتج عن افتقاد الطرفين لامتهان السياسة، التي يمكن أن تمنح تفسيرات حقيقية ودقيقة لسلوكيات الآخر غير المتوافقة مع رغائبنا. وبتلك التفسيرات الحقيقية، يمكن تكوين عتبة أولى لحل ذلك الخلاف، عبر التواطؤ الإيجابي المتبادل لأجل المصلحة العامة للبلاد.

بأدوار متكاملة، تشكل تلك المداخل الثلاثة معياراً لبناء الوطنية السوري: فتح المجال العام المطلق، عبر اعتبار الكيانية السورية وحدها خطاً أحمر، وكسر حالة الاغتراب التي تلف “الأقليات” السورية عبر طرح معضلتها كقيح وطني عام، لا مطلب أقلياتي ذاتي، والاستغناء التام عن التفسيرات الثقافية والقبلية والمعقدة والكبرى لسلوك الأطراف المختلفة، وذلك بالاستعمال الدائم للسياسة كمنهج للتفسير والتعاطي.

المسألة الكردية مدخل معياري لتكوين الهوية الوطنية السورية، لأنها المدخل الأكثر دلالة على رهافة الحس الوطني السوري.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى