المستقلون في التحالفات السياسية للمعارضة/ د. حازم نهار
لعل أحد أهم شروط نجاح أي تحالف سياسي هو أن تكون القوى المنضوية فيه ناضجة ومتبلورة، وهذا يتجلى بوجود أرضية فكرية سياسية محددة لكل من هذه القوى، إلى جانب توافر حالة من الاستقرار السياسي النسبي داخل كل قوة سياسية، ووجود قانون داخلي يحدد الأدوار والحقوق والواجبات وآليات العمل في كل منها.
معظم القوى السياسية المعارضة المعروفة هي أحزاب قديمة، وذات بنى تنظيمية تقليدية، ومحصورة الانتشار، إذ لا يتجاوز عدد أعضاء معظمها العشرات في أحسن الأحوال، وقد تهشمت بفعل نظام الاستبداد بشكل رئيسي، إلى جانب أسباب أخرى بالطبع تتعلق بانتماءاتها الأيديولوجية وتخثر خطابها السياسي، فضلاً عن كبر متوسط عمر أعضائها.
مع انطلاق الثورة لجأت أحزاب المعارضة المعروفة إلى تعويض هذا النقص في العدد من خلال تشاركها مع أحزاب أخرى في بناء تحالفات سياسية، وكذلك عبر فتح المجال للمستقلين بالدخول إلى هذه التحالفات تحت مسميات مختلفة، مثل “قوى شبابية” و”قوى مدنية” و”الحراك الثوري” و”شخصيات وطنية” إلخ. لكن الفقر الإداري بكيفية بناء التحالفات وابتكار الصيغ التنظيمية الملائمة للحالة الجديدة ساهم في خلق حالة من الفوضى التنظيمية التي ساهمت بشكل أكيد في حالة التخبط السياسي المشاهدة اليوم، إلى جانب تشتت أدوار الأفراد والقوى في جميع التحالفات.
وكي ندلل على هذه الحالة البائسة، نضرب المثال التالي: كان هناك قبل الثورة تحالف سياسي باسم “التجمع الوطني الديمقراطي” تأسس في عام 1979، وهو مؤلف من عدة أحزاب ومجموعة من المستقلين. بعض أحزاب “التجمع الوطني الديمقراطي” موجودة في تحالف آخر هو “ائتلاف إعلان دمشق” الذي يضم أحزاباً سياسية أخرى، ومن ضمنها أحزاب كردية، إضافة إلى شخصيات مستقلة. أما “ائتلاف إعلان دمشق” ذاته فهو عضو في تحالف آخر اسمه “المجلس الوطني السوري” الذي يضم أيضاً أحزاباً سياسية أخرى، ومنظمات مدنية، وحركات شبابية، وتنسيقيات ثورية، ومجموعة من المستقلين. كذلك، فإن “المجلس الوطني السوري” ذاته عضو في تحالف آخر هو “الائتلاف الوطني السوري” الذي يضم أحزاباً سياسية أخرى، ومجموعة من المستقلين. أما البعض الآخر من أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي فموجود ضمن “هيئة التنسيق الوطنية” التي تضم أحزاباً أخرى، ومن ضمنها أحزاب كردية، ومجموعة من المستقلين، فيما “هيئة التنسيق الوطنية” ذاتها عضو فيما يسمى “مؤتمر الإنقاذ الوطني”، وبعض أحزابها الكردية تنتمي إلى تحالفات أخرى.. وهكذا.
هنا يشعر المرء أن التحالفات القائمة تشبه لعبة الصناديق، حيث كل صندوق في داخله صندوق إلى ما لانهاية. إنها فوضى تنظيمية كبيرة، وتداخل واسع في الانتماءات، وحالة هلامية في النظام القانوني الذي يضبط العلاقات بين الأحزاب في أي تحالف، وبين الأحزاب والمستقلين، وبين أي تحالف وتحالف آخر أوسع منه، فضلاً عن ضياع المستقلين وتبعثرهم في كل مستوى من مستويات التحالفات المتداخلة، وعدم وضوح حدود ودور الفرد، سواء المستقل أم المنتمي لأحد أحزاب التحالف المعني.
ما يزيد الطين بلة أن جميع التحالفات الموجودة هي تحالفات مؤقتة وهشة تأسست استناداً إلى مجموعة من المقولات أو المبادئ السياسية اللحظية، إذ لا يوجد برامج سياسية واضحة، ولا أنظمة داخلية تنظم وجود المستقلين ودورهم وحقوقهم وواجباتهم، ولا حتى العلاقة بين الأحزاب نفسها، ولا بين المستقلين والأحزاب.
المستقلون هم الفئة الأوسع في الحراك السياسي والثورة السورية، ولهم في العموم موقف سلبي من الأيديولوجيات والأحزاب السياسية القائمة، بحكم ما خبروه منها في فترات سابقة أو بحكم غربة الأحزاب عن الواقع وخطابها التقليدي الذي يشبه خطاب السلطة في مفرداته وروحه، أو ربما بسبب كونهم كانوا بعيدين في السابق عن العمل السياسي ويجهلون آلياته. مع الثورة كانت أعداد المستقلين الذين بحثوا عن أطر تنظم عملهم كبيرة، ولما كان تأسيس قوى جديدة يتطلب خبرة وجهداً كبيراً، فإن بعضهم ذهب نحو الاندراج في التحالفات السياسية الموجودة أو تلك التي خلقت بفعل الثورة، فيما ذهب البعض الآخر نحو تشكيل أطر أخرى ذات أهداف محددة، كالتنسيقيات والائتلافات الشبابية.
كان من الطبيعي أن يترتب على وجود المستقلين في التحالفات السياسية العديد من المشكلات، فالمستقلون غالباً أقل خبرة بالتقنيات السياسية، ولا يشكلون كتلة متماسكة داخل أي تحالف سياسي، فهم أفراد من مرجعيات فكرية سياسية مختلفة أو لا علاقة لهم أصلاً بالعمل السياسي والمرجعيات الفكرية، واشتراكهم في أي تحالف سياسي يكون سطحياً بالعادة، إذ يجري استناداً إلى مجموعة من المبادئ أو الأسس العامة أو الشعارات التي يعلنها التحالف السياسي فحسب.
لذلك، فإن الصدام سيحدث عاجلاً أم آجلاً بين المستقلين والأحزاب، هذا إن لم يكن قد حدث فعلاً. هناك باعتقادي العديد من مظاهر هذا الصدام، فمثلاً هناك حالة ليست نادرة يقوم فيها عضو مستقل بجر تحالف بأكمله إلى التهلكة من خلال مواقفه وتصريحاته، خاصة أن هذا المستقل يشعر أنه أكثر حرية ولا يقبل بسطوة الأحزاب. لكن بالمقابل فإن الحالة الأشيع هي أن الأحزاب السياسية المشاركة في التحالف تقوم في الحصيلة بجر المستقلين إلى حيث تريد، بحكم خبرتها وتنظيمها، بل يمكن القول إنها تستخدم “بمعنى الاستغلال” المستقلين في “حروبها” السياسية، وتتلطى خلفهم تاركة لهم الواجهة مؤقتاً، لكنها تعود و”تبيعهم” في لحظات أخرى.
هناك ما يمكن تسميته “عدة نصب” موجودة لدى المستقلين والأحزاب السياسية على حد سواء. إذ أدرك بعض المستقلين أن السبل التي تجعل منهم فاعلين في التحالف السياسي وخارجه تتلخص بـ “الظهور الإعلامي” و”اللقاءات مع الدبلوماسيين”، فهذه الآليات تقدم لأي مستقل “رخصة” التحول إلى “شخصية وطنية”، وهو المفهوم المطاط وغير المحدد الذي غزا جميع التحالفات الموجودة، فقد كان هذا المفهوم واحدة من “الحيل” التي يجري استخدامها في ترتيب أي لقاء أو مؤتمر للمعارضة السورية، وجرى استخدامه بشكل مزاجي من دون أي معايير ناظمة، وتم استغلاله من جانب العديد من الشخصيات المستقلة والأحزاب السياسية على حد سواء.
ظهر على السطح أحزاب جديدة أدركت اللعبة ودخلت في التحالفات السياسية، وكان جواز مرورها هو بيان سياسي يوقعه مجموعة من الأفراد، و”موقع أنترنت”، وعدد من اللقاءات الإعلامية مع بعض أفرادها، فيما الأحزاب القديمة ظلت تتلطى وراء “ماركة الاسم” و”التاريخ الطويل” والاعتقالات السابقة التي طالت عدداً من أعضائها ما قبل الثورة، على الرغم من أنها انشقت على نفسها عدة مرات، ولم يبق فيها سوى حفنة من الأفراد يكررون خطابات لا تجد أي رصيد شعبي.
الكتلة الأكبر من المستقلين في التحالفات السياسية هي من الشباب، وهم خارج الآليات السابقة، ويعيشون على هامش قرارات وفاعليات التحالفات والأحزاب، وإن كان بعضهم يشارك من دون إدراك في حروب مجانية ليست حربهم في الحصيلة، ولا تشكل طموحاً أو مراداً لهم. إنهم ما زالوا تائهين ومشتتين في أطر سياسية هشة ومؤقتة ولا مستقبل لها، وهم مطالبون ببناء قوى سياسية جديدة تستفيد من عيوب وثغرات القوى القديمة، فمن دون بناء قوى سياسية متماسكة وجديدة لا يمكن بناء تحالفات سياسية حقيقية بدلاً من التحالفات القائمة.
ما أردت قوله باختصار هو أن فكرة “الشخص المستقل” المنضوي في تحالف سياسي ما هي لعبة يدركها الجميع ويتواطؤون فيها بصمت، محاولة من الأحزاب والتحالفات السياسية القائمة لستر عقمها، ومحاولة من بعض المستقلين للظهور وأداء أدوار أكبر من الأحزاب، لكن هذه اللعبة غير منتجة ولن تستمر، وستنتهي إما بالتصادم بين المستقلين والأحزاب في التحالفات، أو بتغير الاصطفافات السياسية التي تعيد خلط الأوراق بالضرورة، لكن النتيجة الأبرز ستكون هي اكتشاف الكتلة الأكبر من المستقلين، خاصة الشباب، للخديعة التي تواطؤوا فيها بوعي أو من دونه، فالأحزاب ستستمر هياكلها وشعاراتها وقياداتها التي تعايشت نصف قرن مع حالة العطالة، فيما سيعود المستقلون من حيث أتوا، أي مجرد أفراد لا حول لهم ولا قوة، على الرغم من قناعتي أن القوى والتحالفات القائمة سيكون مصيرها المزيد من التفسخ والاضمحلال، مهما علت الصيحات المعلنة من أجل بث الحياة فيها، وربما هنا يصدق القول: إكرام الميت دفنه.
زمان الوصل