صفحات الرأي

فكر مجدداً: المقاومة اللاعنفية


ليست مقاومة إغراء حمل السلاح ضد دكتاتور مستبد مجرد واجب أخلاقي يتوجب الالتزام به، إنها يضاً الطريقة الأفضل لتحقيق النصر

بقلم: إريكا تشينويث – 24 آب/أغسطس 2011

ترجمة صفحة الحراك السلمي

 “المقاومة السلمية وسيلة مثيرة للإعجاب، إلا أنها ليست بالضرورة فعالة”

هذا ليس صحيحاً تماماً. ففي اللحظة الجيوسياسية الراهنة التي نمر بها، قد يبدو من الصعب اعتبار المقاومة السلمية أكثر فعالية في الإطاحة بدكتاتور مستبد من المقاومة المسلحة. لقد أوشك المتمردون المسلحون في لبيبا، تدعمهم الضربات الجوية لقوات حلف الشمال الأطلسي، على إنهاء أربعة عقود من الحكم الاستبدادي للزعيم الليبي معمر القذافي. وفي الوقت ذاته، وإلى الشرق قليلاً من ليبيا، قتل الرئيس السوري بشار الأسد دون أن يخضع للمحاسبة أكثر من 2200 شخصاً خرجوا ضمن تظاهرات، كانت في غالبيتها سلمية، للإطاحة بحكم استبدت به عائلته لعقود طويلة.

قد يبدو حسم هذا الجدل لصالح النموذج السوري في مقابل النموذج الليبي أمراً صعباً – ولكن الأدلة تشير إلى عكس ذلك. فالحقيقة هي أنه بين الأعوام 1900 إلى 2006، أثبتت حركات المقاومة السلمية الكبرى التي سعت للإطاحة بالديكتاتوريات، أو طرد الاحتلال الأجنبي، أو الحصول على حق تقرير المصير، أثبتت أنها كانت أكثر فعالية ونجاحاً بمرتين من حركات التمرد المسلحة التي سعت لتحقيق الأهداف ذاتها. لا نحتاج إلى الخوض بعيداً في الماضي لإثبات ذلك، فحتى قبل الربيع العربي، نجحت حملات المقاومة اللاعنفية في صربيا (عام 2000) ، ومدغشقر (2002) ، وأوكرانيا (2004) ، ولبنان (2005) ونيبال (2006) في الإطاحة بالأنظمة التي كانت تحكمها وتمكنت من أزالتها من السلطة.

يعود ذلك إلى أن الحملات اللاعنفية غالباً ما يلتزم بها جمهور أوسع بكثير وأكثر تنوعاً من الفئة التي قد تلجأ إلى خيار التمرد المسلح. ذلك لسبب بسيط: وهو أن التضحيات التي يفرضها العمل السلمي سقفها أقل بكثير: في البداية يتوجب على المنضمين الجدد للمقاومة اللاعنفية التغلب على خوفهم، ولكنهم لن يكونوا مضطرين أبداً للتخلي عن قناعاتهم الأخلاقية واستخدام العنف ضد الآخرين. المقاومة المدنية تقدم مجموعة متنوعة من التكتيكات التي تتسم بتدني خطورتها -على سبيل المثال يمكن العمل بتكتيك “البقاء بعيداً” (حيث يبتعد الناس عن المناطق المأهولة عادة بالسكان)، أو المقاطعة، أو العمل والتحرك ببطء (حيث يتحرك الناس بوتيرة بطيئة في العمل وفي الشوارع)- وهذه التكتيكات تشجع الناس على المشاركة دون أن تفرض عليهم تقديم تضحيات شخصية كبيرة. لقد شهدت الانتفاضة السلمية التي حدثت هذا العام في مصر تعبئة الرجال والنساء والأطفال والمسنين والطلاب والعمال والإسلاميين والمسيحيين، الأغنياء والفقراء على حد سواء، وهذه الدرجة من التعبئة لم تستطع بلوغها أي من التنظيمات المسلحة في التاريخ المصري المعاصر.

“المقاومة اللاعنفية ومنهج اللاعنف هما شيء واحد”.

لا على الإطلاق. وعندما يسمع البعض مصطلح “لاعنف”، فإنهم غالباً ما يعتقدون بأن ذلك يشير إلى المقاومة “السلمية” أو “السلبية”. هذه الكلمة قد تذكر البعض بجماعات السلام، أو بالأفراد المسالمين مثل الرهبان البوذيين في بورما، والذين يفضل بعضهم الموت على استخدام العنف للدفاع عن أنفسهم ضد الظلم. وهنا يحدث الخلط بين مصطلح “المقاومة اللاعنفية” و”المقاومة المدنية”، وبين مذهب “اللاعنف” أو “السلمية”، فالأخير يعبر عن موقف فلسفي يرفض معتنقوه استخدام العنف لأسباب أخلاقية بحتة. أما في حملات المقاومة المدنية، كتلك التي نشهدها اليوم في الربيع العربي، فإن عدداً قليلاً جداً من المشاركين فيها هم من دعاة السلام. هؤلاء على العكس مجرد مدنيين عاديين قرروا مواجهة أوضاعٍ لا تحتمل بعصيان الأوامر ورفض الطاعة- وهذه الطريقة متاحة لأي شخص سواء كان مناضلاً لاعنفياً أم لا. وحتى المهاتما غاندي، اللاعنفي الشهير، فقد كان هو نفسه مفكراً استراتيجيا لأبعد الحدود. لقد أدرك غاندي بأن اللاعنف ينجح ليس من خلال الالتزام بمبادئ أخلاقية رفيعة، وإنما بإطلاق حملة عصيان مدني شاملة تملك القدرة على إنهاء الاحتلال البريطاني للهند. يقول غاندي في هذا السياق: “يتعين علينا مواجهة سوء المعاملة بالصبر والتحمل. إن الطبيعة البشرية على درجة كبيرة من التعقيد بحيث أننا إذا ترفعنا بشكل كامل كل مشاعر الغضب والإساءة، فإن الشخص الذي يتمتع بممارسة هذه الأعمال سيصيبه الضجر وسيتوقف في النهاية”.

“المقاومة اللاعنفية تعمل في بعض الثقافات بشكل أفضل من غيرها”

هذا ليس صحيحاً أيضاً. لقد ظهرت حركات اللاعنف ونجحت في مختلف أنحاء العالم دون تمييز. في الواقع، يستطيع الشرق الأوسط (والذي لطالما اعتبره الكثيرون في أماكن أخرى من العالم حالة ميئوس منها ومرجلاً متواصلاً من النزاعات والعنف)  أن يتباهى ببعض أفضل النجاحات في هذا السياق، وذلك حتى قبل بزوغ شمس الربيع العربي. كانت الثورة الإيرانية التي أطاحت بنظام الدكتاتور الشاه محمد رضا بهلوي، وجلبت مكانه إلى السلطة آية الله روح الله الخميني، كانت حركةً شعبية سلمية شارك فيها أكثر من مليوني إيراني (ومن المفيد التذكير هنا بأن الانتفاضات السلمية، شأنها شأن الانتفاضات المسلحة، لا تتمخض دائماً عن النتائج المرجوة منها). فضلاً عن ذلك، حقق الفلسطينيون أفضل تقدم لهم تجاه حق تقرير المصير وتحقيق سلام دائم مع إسرائيل عندما اعتمدوا مبدأ العصيان المدني السلمي الشامل ضد دولة إسرائيل، فأثبتوا نجاعة المظاهرات والإضرابات وحملات  المقاطعة  والاحتجاجات التي سادت الانتفاضة الأولى بين الأعوام 1987-1992. أجبرت هذه الحملة إسرائيل على إجراء محادثات مع القادة الفلسطينيين وأدت في النهاية إلى انعقاد اتفاقيات أوسلو، وأسهمت في اقتناع الكثيرين في مختلف أنحاء العالم بأن الفلسطينيين يملكون الحق في الحكم الذاتي.

في الأمريكيتين، شهدت دول فنزويلا، تشيلي، الأرجنتين، والبرازيل انتفاضات سلمية أطاحت بعدد من القيادات العسكرية التي كانت تدير زمام الحكم فيها، وفي بعض الحالات نجحت في استبدالها بقادة تم انتخابهم ديمقراطياً. وفي مكان آخر من العالم، نجحت الحركة اللاعنفية المناهضة للفصل العنصري في جنوب أفريقيا في إحداث تغيير جذري شامل في المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في ذلك البلد، في وقت فشلت فيه النزاعات المسلحة التي قادها المؤتمر الوطني الأفريقي في إنجاز أي شيء يذكر. أوروبا، بطبيعة الحال،  يمكنها  تقديم بعض أهم الأمثلة وأكثرها شهرة في العمل اللاعنفي بدءاً من ثورات عام 1989 في أوروبا الشرقية، ووصولاً إلى حركة المقاومة الدنماركية ضد الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية. كذلك الأمر في آسيا، فقد نجحت المقاومة اللاعنفية في اقتلاع أنظمة قمعية عتيدة في مناطق على درجة كبيرة من الاختلاف والتنوع مثل الهند والمالديف وتايلاند ونيبال وباكستان.

“الحركات اللاعنفية تنجح من خلال اللجوء إلى إقناع الخصم”.

ليس دائماً. لا شك بأن وجود الأسس الأخلاقية مسألة هامة، ولكنها بالكاد تعتبر كافية. يجب أن تكون الحملات مربكة قدر الإمكان – حتى من الناحية الإستراتيجية- لإجبار الحكام المستبدين على التخلي عن مناصبهم. المقاومة اللاعنفية لن تبلغ غايتها بالضرورة بإقناع الخصم أو تغيير أفكاره، بل فقط عندما تنجح في تشجيع   المصادر الأساسية للقوة التي يملكها النظام (كالبيروقراطيين المدنيين، والنخب الاقتصادية، والأهم من ذلك قوات الأمن)  على رفض طاعة أوامره. لقد صاغ المفكر والأديب روبرت إنتشوستي ذلك بشكل أفضل عندما قال: “اللاعنف هو بمثابة رهان، ليس على مكنونات البشر من خير، بقدر ما هو الرهان على تعقيداتهم المطلقة”. وكما في حالة الحرب، فإن أساس نجاح أي حملة لاعنفية إنما يكمن في اكتشاف نقاط ضعف الخصم واستغلالها.

أنظر إلى الانتفاضة التي شهدتها مصر مؤخراً. لقد لجأت قوات الجيش والأمن المصرية للقوة المفرطة لقمع الاحتجاجات في الأيام الأولى للانتفاضة، بيد أن المتظاهرين المصريين كانوا مستعدين لذلك: تداول النشطاء –بإلهام من ثورات سلمية شهدتها سابقاً أماكن أخرى في العالم- مجموعة من التعليمات الدقيقة فيما بينهم ونشروها بين المتظاهرين لتوعيتهم حول كيفية الرد على هذا القمع، وبدأ انتشار النساء والأطفال والمسنين في الخطوط الأمامية في مواجهة قوات الأمن. شجعت هذه التعليمات أيضاً المتظاهرين على الترحيب بالجنود في صفوف الحركة، ونهتهم بشدة عن مجابهة رجال الأمن بأي نوع من أعمال عنف، فيما بذل قادة الحركة كل جهدهم لتصوير وتسجيل الممارسات القمعية ضد المتظاهرين السلميين ومن ثم نشرها.

في نهاية المطاف، رفض الجيش المصري الأوامر التي تلقاها لقمع التظاهرات، ما أدى إلى فقدان نظام حسني مبارك واحدةً من أهم الدعائم الرئيسية لسلطته، وهنا مرة أخرى تملك المقاومة السلمية الأفضلية على رديفتها المسلحة: إذ يصعب على الجماعات المسلحة الصغيرة إقناع قوات الأمن بتغيير ولائها تجاه السلطة، على العكس من ذلك، فإن التهديدات المسلحة من شأنها أن تسهم في توحيد صفوف قوات الأمن الذين غالباً ما يتعاضدون معا للقتال ضد هذه التهديدات (ولهذا السبب تحديداً يصر النظام السوري على الادعاء بأنه يقاتل “جماعات مسلحة”  بدلاً من المدنيين العزل).

“فقط الأنظمة الضعيفة أو ذات الإرادة الضعيفة تسقط أمام الثورات اللاعنفية”

هذا التصريح خاطئ. فقد أثبتت العديد من الحملات السلمية نجاحها ضد بعضٍ من أعتى وأقسى الأنظمة الدكتاتورية على وجه البسيطة، حتى عندما كانت هذه الأنظمة في أوج قوتها. في الواقع، كانت الغالبية العظمى من الثورات السلمية الكبرى التي شهدها القرن العشرون تواجه أنظمة عتيدة عرفت بقوتها مثل نظام الجنرال محمد ضياء الحق في باكستان، سلوبودان ميلوسيفيتش في صربيا، أوغستو بينوشيه في تشيلي، وسوهارتو في إندونيسيا، فضلاً عن العديد من الحكام الإمبرياليين الذين استثمروا مصادرهم بشكل واضح في تعزيز سلطتهم على مستعمراتهم. حتى النازيون أظهروا ضعفاً نسبياً في مواجهة الاحتجاجات السلمية، ومثال ذلك كانت مظاهرة “روزنتراسيه” الشهيرة في برلين عام 1943، عندما نظمت مجموعة من النساء الألمانيات احتجاجات سلمية واجهن خلالها مدافع النازيين الرشاشة للمطالبة بالإفراج عن أزواجهن اليهود- لقد حققت هؤلاء النسوة انتصاراً صغيراً ضد أحد أكثر الأنظمة التي عرفها التاريخ إبادة وقمعاً، نصرٌ ما كان لأحد أن يحلم به لو فكر باستخدام السلاح.

وهنا يجدر القول بأن معظم الحملات اللاعنفية في القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين واجهت قمعاً عنيفاً وواسع النطاق. فعلى سبيل المثال لجأ النظام التشيلي تحت زعامة الدكتاتور بينوشيه إلى أساليب التعذيب المفرط والإخفاء القسري في محاولة منه لإرهاب المعارضة السياسية. في مثل هذه الظروف، بدا الانخراط في احتجاجات شعبية مفتوحة عملاً خطيراً للغاية بالنسبة لمعارضي الحكومة، إلى أن حل العام 1983، حين أطلق المدنيون إشارة استيائهم الأولى حين بدؤوا حملة منسقة لإصدار ضجيج مزعج بطرق الأواني والمقالي – وهو ما يعد عملاً بسيطاً للغاية كان الهدف منه إظهار التأييد الواسع النطاق لمطالب المواطنين، وكشف ضعف قدرة بينوشيه على قمع الحركة بالأدوات التي كان يملكها. خرج الناس إلى الشوارع تصدح حناجرهم بأغانٍ كانت تتحدث عن الزوال الوشيك لـ بينوشيه – وهي ممارسة أغضبت الدكتاتور بشدة لدرجة أنه حظر الغناء في ذلك العام، بيد أن ردة فعله اليائسة تلك كانت دليلاً واضحاً على ضعفه وليس قوته. في النهاية، رضخ بينوشيه للضغط الشعبي، ووافق في عام 1988 على إجراء استفتاء شعبي حول إمكانية بقائه في الحكم لثمان سنوات إضافية. وهنا استغل زعماء المعارضة الفرصة لتنظيم حملات لاعنفية مباشرة ركزت على التصويت بـ “لا” في الانتخابات والحصول على أغلبية الأصوات والسعي للتحقق من نتائج التصويت بشكل مستقل، وفي النهاية محاسبة بينوشيه على ممارساته. وعندما بدا للجميع أن بينوشيه أوشك على الخسارة، اضطر الجيش في النهاية للانحياز إلى صف الشعب التشيلي ما أدى أخيراً إلى تنحي الدكتاتور عن الحكم.

“أحيانا لا يملك الثوار خياراً آخر إلا حمل السلاح”.

هذا ليس صحيحاً البتة. ولربما من السهل أن ننسى في خضم الأحداث الجارية في ليبيا أن الصراع بدأ هناك على شكل احتجاجات سلمية انطلقت من بنغازي في الخامس عشر من فبراير. سُحقت المظاهرات بقوة من قبل السلطات، واستجاب المعارضون لذلك في التاسع عشر من فبراير بحمل السلاح فشرعوا في قتل وأسر المئات من مرتزقة القذافي والموالين لنظامه. في خطابه الشهير الذي ألقاه في الثاني والعشرين من فبراير، قال القذافي:  ”الاحتجاج السلمي شيء، والتمرد المسلح شيء آخر تماماً”. لقد هدد بالذهاب “بيت بيت، دار دار” بحثا عن المتمردين “الجرذان”.  أن قلة قليلة فقط من المدنيين ستكون على استعداد للمشاركة في المقاومة بعد تهديدات من هذا النوع، وما بدأ على شكل حركة شعبية سلمية تحول مباشرة، وبشكل لا لبس فيه، إلى تمرد مسلح بامتياز. ربما يبدو هذا التمرد اليوم قريباً من تحقيق أهدافه، ولكنه جاء بتكلفة باهظة جداً: فعلى الرغم من استحالة إحصاء عدد القتلى الفعلي حتى اليوم، تشير بعض الأرقام المعتدلة إلى خسائر بشرية قد تصل إلى 13000 قتيلاً.

هل كان بالإمكان القيام بذلك بطريقة مختلفة؟ من السهل التحدث على ذلك الآن بعد فوات الأوان، ولكن لو سنحت الفرصة للناشطين في ليبيا لإعادة لتقييم تجربتهم، فقد يدركون بأنهم ربما ارتكبوا بعض الأخطاء. في البداية كانت الحركة عفوية إلى درجة كبيرة، على عكس الحركة المصرية التي تم التخطيط لها بشكل محكم وبدرجة عالية من التنسيق. من جهة ثانية، ركزت الحركة السلمية في ليبيا على تكتيك واحد فقط لتحقيق مآربها وهو المظاهرات، وعندما تعتمد أي حركة على تكتيك واحد فقط كالمسيرات أو المظاهرات يصبح من السهل جداً التنبؤ بخططها فيتحول المتظاهرون إلى مجرد سرب من البط يجلس بهدوء منتظراً آلة قمع النظام.

أما الحركات السلمية الناجحة فتعتمد على الجمع بين تكتيكات مختلفة كالمظاهرات والاحتجاجات التي تخرج بالتزامن مع الإضرابات، وحملات المقاطعة، وتكتيكات “التحرك البطيء”، و”البقاء بعيداً”، وغيرها من النشاطات التي تجبر النظام على تجزئة آلة قمعه بطريقة تجعل من العسير عليه المواصلة. فخلال الثورة الإيرانية مثلاً، بدأ عمال النفط إضراباً مفتوحاً هدد بشل الاقتصاد الإيراني، فردت قوات الأمن التابعة للشاه بالذهاب إلى ديارهم وجرتهم عنوة للعمل في مصافي النفط- وما كان من العمال إلا أن بدؤوا العمل بوتيرة بطيئة وبنصف طاقتهم الاعتيادية، وواصلوا القيام بذلك حتى جاء موعد الإضراب التالي وهكذا. إن حجم آلة القمع التي يحتاجها النظام لإكراه الجماهير كلها على العمل خلافاً لإرادتها يفوق قدرته تماماً، وهو يتطلب درجة مهولة من التنسيق بين الموارد التي يملكها والجهود التي يسعه توظيفها.

في الواقع، ما تعلمناه من التجارب السابقة كالتجربة الإيرانية هو أن أسلوب القمع المفرط والانتقامي الذي استخدمه القذافي لقمع التظاهرات السلمية في مستهل الثورة الليبية، نادراً ما ينجح ضد حركات لاعنفية تعمل بشكل منسق ومخطط له بشكل جيد. من جانب آخر فإن لجوء المتظاهرين إلى العمل المسلح أثار رد فعل عنيف جداً من قبل القذافي، وأسهم في الوقت ذاته في تخوف شريحة كبيرة من الناس ربما كانت على استعداد للانخراط في صفوف المعارضة السلمية والمشاركة في المظاهرات، وهذه الشريحة لم تكن لترغب في الانخراط في نزاع مسلح ظهرت فظاعته منذ اللحظة الأولى. إن أكبر المكاسب التي حققتها المعارضة الليبية قبل أن يعرض حلف شمال الأطلسي تقديم دعمه، كانت خلال المرحلة السلمية للانتفاضة، حيث نجحت المظاهرات الأولى في إغلاق البلاد وأثارت العديد من الانشقاقات بين صفوف الموالين للنظام من كبار المسؤولين، حتى أنها نجحت في ضم مدينة بنغازي دون إراقة تذكر للدماء. ولكن بمجرد لجوء المتظاهرين إلى حمل السلاح للرد على هجوم القذافي، أصبحوا مباشرة بحاجة لتدخل حلف شمال الأطلسي حتى تكون لديهم أدنى فرصة للفوز.

يمكننا كذلك النظر إلى الحالة السورية، حيث يبدو الخيار بين استخدام العنف أو عدمه على نفس الدرجة من الصعوبة والتعقيد.  لقد أصدر الأسد في شهر آب/أغسطس، وبعد مرور أشهر على الاحتجاجات الشعبية السلمية، أوامره بإطلاق عملية عسكرية واسعة النطاق ضد مدينة حماه ذات الأغلبية السنية-  والتي عرفت سابقاً بانتفاضتها الإسلامية المسلحة التي واجهت وحشية أكبر بكثير في الثمانينيات- ، بالإضافة إلى معاقل أخرى للمعارضة في مختلف أنحاء البلاد. حان الوقت لحمل السلاح، أليس كذلك؟

حتى في مثل هذه الحالات الصعبة تملك الحركات اللاعنفية عدداً من الخيارات، إذ يمكنها الاستجابة لهجمات النظام بتغيير تكتيكاتها. في الواقع، نجح الناشطون السوريون بالقيام بذلك بشكل جيد حتى الآن، إذ تجنبوا الوقوع في قبضة النظام باللجوء إلى المظاهرات الطيارة والمظاهرات الليلية والتي أثبتت جدواها فعلاً في النجاة من القمع. أما المظاهرات التي تقام في وضح النهار فتلك يتم التخطيط لها جيداً، حيث دأب الشباب على تأمين المخارج وطرق الهروب، واستخدموا المرايا العاكسة لتسليط أشعة الشمس على القناصة لمنعهم من إطلاق النار على المتظاهرين. وإلى اليوم، نجح الناشطون السوريون إلى حد كبير في تجنب إغراء الرد بالوسائل العنيفة على الاستفزازات والانتهاكات المتكررة للنظام- وهو ما يبدو قراراً هاماً وجوهرياً فعلاً، ليس فقط لأن حمل السلاح قد ينفر الكثيرين عن المشاركة في المظاهرات ودعمها، ولكن أيضا لأنه يجعل قوات الأمن أكثر قبولاً لطاعة الأوامر التي بحوزتهم لقمع الحركة.  رداً على طرد الصحفيين من قبل النظام وقطع الكهرباء عن المدن المحاصرة، قام الناشطون السوريون بشحن أجهزة الكمبيوتر المحمولة الخاصة بهم باستخدام بطاريات السيارات، كما استعانوا بهويات مزورة للاقتراب من قوات الأمن لكي يتمكنوا من توثيق انتهاكات حقوق الإنسان ومن ثم مشاركتها عبر الإنترنت. وهنا كان للتعبئة المتواصلة التي عززتها هذه النشاطات دور كبير في مساعدة المعارضة على إقامة روابط مع بعض النخب التي لا غنى للنظام عنها.

وهكذا فإن المقاومة اللاعنفية هي في الواقع  شكل من أشكال الحرب غير المتكافئة، يعتمد الطغاة فيها، وبشكل متوقع تماماً، على أفضلية القوة الغاشمة التي يمتلكونها وحدهم ويوظفونها في قمع المعارضين. لذلك تحديداً يكون من الأفضل محاربة العدو بالوسائل التي تملك الأفضلية فيها (في هذه الحالة: قوة الشعب، عدم السماح له بالتنبؤ بالحركات القادمة، التكيف، والإبداع) بدلاً من الوسائل التي يملك هو الأفضلية فيها.

“الثورات اللاعنفية طريق مؤكد إلى الديمقراطية.”

ليس ذلك صحيحاً بالضرورة. هناك ارتباط قوي بين الحركات اللاعنفية وبين تحقيق الديمقراطية، ولا ينبغي أن يكون ذلك مستغرباً: فهذه الحركات تتطلب مستوىً أعلى من المشاركة السياسية وتتطلب انخراط المجتمع المدني (وهي العوامل ذاتها التي تسهم في ترسيخ أهداف الانتفاضة السلمية على المدى الطويل) وبالتالي تسهم في تعزيز الديمقراطية. ولكن ثمة استثناءات مهمة: الثورة الإيرانية، والتي تعتبر واحدة من أهم الثورات السلمية في العالم من حيث عدد السكان الذين شاركوا فيها، تمخضت في النهاية عن نظام شمولي وقمعي. في الوقت ذاته شهدت دولة الفلبين عدداً من الثورات السلمية ولكنها ما زالت تعاني إلى اليوم من صراعات داخلية لبناء الديمقراطية ومكافحة الفساد. الثورة البرتقالية في أوكرانيا كانت ناجحة بدورها إلى حد كبير، إذ بشرت بعهد جديد من التحرر السياسي، ولكن الانتكاسات الأخيرة قد تشير إلى أن البلد يمشي بالاتجاه المعاكس.

لكن من المرجح أن أياً من هذه النتائج لم تكن لتظهر بشكل أفضل بأي حال لو كانت هذه الثورات مسلحة. في الواقع، في معظم البلدان التي نجحت فيها الثورات المسلحة، كانت الأنظمة الجديدة على درجة من الوحشية تقارن على الأقل بالأنظمة التي أطاحت بها (يستطيع تأكيد ذلك أي شخص عاش في أعقاب الثورة الروسية، الثورة الفرنسية، والحرب الأهلية الأفغانية، أو الثورة الكوبية). وقد عبر عن ذلك أونغ سان سو كيي، زعيم الحركة المؤيدة للديمقراطية في بورما، والحائز على جائزة نوبل: “ليس من السهل أبداً إقناع أولئك الذين وصلوا  إلى السلطة بالقوة بأن ثمة حكمة كامنة وراء التغيير السلمي”.

خلاصة القول هي أنه في حين أن المقاومة اللاعنفية لا تضمن الديمقراطية، إلا أنها كفيلة على الأقل بضمان الحصول على أهون الشرور المحتملة. إن طبيعة النزاع نفسها غالباً ما تكون مؤشراً على شكل الدولة التي سنحصل عليه بعد أن يصل النظام الجديد إلى الحكم، وقلة من الناس تريد أن تعيش في بلد تم الاستيلاء فيه على السلطة والحفاظ عليها بالقوة والسلاح وحدهم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى