المشهد الثقافي في عام 2015 الإبداع السوري تحت القصف والحصار/ راشد عيسى
لعلها المهمة الأكثر صعوبة؛ كيف تكتب عن الحصاد الثقافي السوري في عام سوريا الأسوأ، عام الهجرة و»الهجيج»، وقد رمى بنصف الشعب السوري إلى العراء.
لكن ليس لأنه الأسوأ فحسب، بل لأن الأمر يعني خوضاً شائكاً ونقاشاً لكل تفصيل؛ عن أي سوريا سنتحدث، كيف ستلاحق سوريا التي باتت موزعة اليوم بين تلك التي تقبع تحت سيطرة النظام، وخارج سيطرته، وتلك التي باتت في مهاجر عديدة متباعدة، على الحدود، في مخيم الزعتري، في تركيا، في لبنان، وراء البحار، وكذلك كيف ستنظر إلى أهمية ووزن وضرورة الفعاليات الثقافية، وفي ما إن كان الولاء السياسي يؤثر في معنى وقيمة المنجز الإبداعي.
بعد خمسة أعوام على الثورة في البلاد، وفي ظل استمرار النظام كأمر واقع، لم تستطع سنوات خمس عجاف زحزحته، خف الجدل حول أن مجرد وقوع الفعالية الثقافية هو خيانة للثورة، من جهة لأن الناس في مناطق النظام، في معظمهم، آخر ما يهمهم اليوم، أمام تهديد الحياة، ومطاردة لقمة العيش، أن يفكروا بعرض مسرحي أو حفل موسيقي في دار الأوبرا.
ولكن، من جهة أخرى، فإن المشتغلين بالثقافة والفن لا يمكنهم البقاء وقتاً أطول من دون إنجاز، فالموسيقي (وكذا الممثل، والراقص، والرسام، وسواهم) عليه أن يتمرن، والحفل الموسيقي بالنسبة لعازف هو قبل كل شيء نوع من التمرين، إذا لم نقل لقمة عيش.
وجهة النظر هذه سمعناها منذ البدايات، ويبدو أن هذه السنوات المديدة شجعت من بقي في دمشق على استئناف حياتهم، حتى لو وجدوا أنفسهم يدفعون بأطفالهم للرقص تحت صورة القاتل.
هذا طبعاً عن الناس الذين تدفعهم حاجاتهم للاستنجاد بمؤسسات النظام، أما فنانو النظام فاستمرارهم بالإنتاج الثقافي هو نوع من الصمود، الاستمرار يعني أن النظام بخير، وغالباً ما كان معظم هؤلاء ينخرطون مباشرة في الدعاية للنظام وحربه ضد الشعب السوري وثورته.
المثال الأبرز لجوقة النظام كان المخرج السينمائي جود سعيد، وقد نال فيلمه «بانتظار الخريف» جائزة «آفاق السينما العربية» في «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» الأخير.
كان واضحاً أن الجائزة سياسية بامتياز، وهي إشارة من مصر السيسي للتعاطف مع نظام بشار الأسد. سعيد يمثل مجموعة من السينمائيين المدعومين من «المؤسسة العامة للسينما» وبعضهم أسماء يقف للمرة الأولى وراء الكاميرا، من دون خبرة تذكر، وبفرص كان يستحيل الحصول عليها لولا انفضاض أهل السينما عن تلك المؤسسة المعروفة بولائها الشديد، والتصاقها بالنظام.
كان لافتاً أيضاً أن المؤسسة أنتجت فيلماً هو الأول له في تلك المؤسسة، هو المخرج التلفزيوني المعروف نجدت أنزور، ويحمل عنوان «فانية وتتبدّد»، والذي بحسبه «يتناول الحرب في سوريا، ودور التنظيمات المسلحة فيها».
أنزور معروف بولائه الشديد وصلاته الوطيدة مع النظام، وغالباً ما صور أعماله الأخيرة على أنقاض المدن المدمرة، بحماية من جيش النظام.
تجنّب الراهن السوري
أما المسرح فقد كان له المكان الأبرز بين الفعاليات الثقافية الدمشقية، وقد عكست تغطيات صحافية أمرين، الأول صعود أسماء جديدة على مستوى الإخراج، بعد غياب وهجرة عدد من المشتغلين في المسرح، والثاني أن المسرح حاول أن يتجنب الراهن السوري، وهو بالكاد يتحدث عن موضوعة الحرب، من دون التطرق إلى أسبابها، والاكتفاء بالحديث عن أثرها على الناس.
كان يمكن للمسرح أن ينال الحظوة والاهتمام أكثر مما هو عليه في مخيمات وتجمعات اللجوء، ربما كانت فرصته الأقوى في التأثير، متعةً وفائدةً للبائسين على تخوم البلاد، في الأردن ولبنان وتركيا، لكن من المؤسف أنك لن تجد سوى تجارب، أخشى أن أبالغ لو قلت إنها لم تتعد عملين مسرحيين، الأول هو ثمرة جهد الممثل والمخرج نوار بلبل المقيم في عمان، حيث أعد نصاً عن مسرحية شكسبير «روميو وجولييت» قدمها بين أطفال اللاجئين السوريين في الأردن، وأطفال بلدة الوعر المحاصرة في مدينة حمص السورية، والتجربة جاءت عبر السكايب، حيث عائلة روميو وجولييت تتخاطبان عبر السكايب كل من مدينة.
بلبل كانت له تجربة سابقة العام الماضي مع أطفال مخيم الزعتري بعمل اشتغل بالكامل من قلب المخيم تحت عنوان «شكسبير في الزعتري».
هناك تجربة مسرحية أخرى كان أبطالها اللاجئات السوريات في لبنان، حيث قمن بروي حكايات لجوئهن، اللافت أن العرض كان من إخراج العراقية دينا موسوي.
سوى ذلك، سنجد الكثير من الفعاليات الثقافية السورية المهاجرة الموجهة للنخب لا للاجئين، بعضها حمل على عاتقه مخاطبة الرأي العام، محاولاً حثه على التعاطف والتضامن مع ثورة السوريين، أو على الأقل تولى شرح المأساة السورية.
هناك جهود طيبة عديدة في هذا المضمار؛ في باريس هناك عدد من الجمعيات الفاعلة المواظبة مثل «سوريا حرية» و«القافلة السورية» التي جالت مدناً أوروبية عديدة حاملة جزءاً من المشهد الثقافي السوري، من أعمال تشكيلية وأفلام وموسيقى، غير أنها تقوم بشكل أساسي على التحاور مع جمهور المدن التي يحلون فيها من الأوروبيين.
هذا إلى جانب «النادي السينمائي السوري» الذي اتسعت نشاطاته أخيراً ليشمل عدداً أوسع من الدائرة المعتادة، الدائرة نفسها التي تنظم أمسيات شعرية دورية لشعراء سوريين. وشهد هذا العام افتتاح مقهى يديره الفنان المغني والملحن سميح شقير، وقد أراد أن يشكل نوعاً من مقهى ثقافي استضاف عدداً من الفعاليات الصغيرة لجمهور محدود.
وعلى ما يبدو فإن فعاليات ذلك المقهى الثقافي اضمحلت بعد مرور وقت قصير، من دون أن ندري سبباً واضحاً، فإذا كان هناك بعض البيوت الثقافية السورية قد أغلقت أبوابها بعد وقت قصير على افتتاحها في تركيا (منتدى قامشلو مثلاً) بسبب هجرة الشبان إلى أوروبا، فإن انفضاض الجمهور عن الفعاليات الثقافية في المنافي الجديدة التي يلجأ إليها هؤلاء غير مفهوم تماماً.
رغم ذلك فقد صمد في اسطنبول مثلاً «هامش» أو «البيت الثقافي السوري»، الذي يتصدى لحوارات فكرية وسياسية، وتنظيم فعاليات ثقافية. ولكن من الواضح أن «هامش» أقرب في توجهه إلى النخب، وإلى محاولة مخاطبة الرأي العام التركي.
على مستوى الكتابة والنشر كان لافتاً وصول روايتين لكاتبتين سوريتين إلى القائمة الطويلة للبوكر، هما رواية «الروايات» لمها حسن و»ألماس ونساء» للينا هويان الحسن، وقد احتفظت الأخيرة بمكانها للقائمة القصيرة. كما شهد هذا العام صدور رواية خالد خليفة «الموت عمل شاق».
لكن ليس هذا كل شيء عن النشر والكتابة السورية، فالسنوات الخمس الفائتة تعج بالكثير من الكتابة، شتى أنواع الكتابة، ويبدو أنه لا بد من مرور الوقت الكافي كي نراها منتظمة في كتب وأشكال أدبية واضحة.
الخاسر الأكبر
الفن التشكيلي السوري خسر هذا العام اسمين من أبرز وجوهه، ناظم الجعفري (مواليد عام 1918، وهو الغائب عن الساحة الفنية بحكم السن منذ سنوات، بالإضافة إلى عمر حمدي، مالفا (مواليد الحسكة 1951)، وكان لافتاً أن موته أشعل جدلاً ساخناً بين السوريين، بسبب ما اعتبره البعض صمتاً (على الأقل) أمام جرائم النظام السوري من قبل الفنان المقيم في فيينا.
معارض عديدة شهدتها ساحات وجود السوريين المختلفة، من بينها معارض لدينو أحمد علي، وفارس خاشوق، ورندا مداح، وعلاء حمامة، وعمران يونس وبطرس المعري، وخالد ضوا، وعبدالكريم مجدل بيك، ومظفر سلمان، كما شكل معرض المصور الفوتوغرافي عمار عبدربه في بيروت علامة فارقة (كان لافتاً أولاً انشغاله بهمّ بعيد عن المأساة السورية، هو الذي كان لصيقاً طوال الوقت بتصوير تلك المأساة، أحياناً على الأرض) وقد حمل عنوان «الحقيقة العارية»، حيث اشتغل على صور عارية مضيفاً إليها عبارات جنسية مثيرة من كتاب النفراوي «الروض العاطر في نزهة الخاطر»، وفي وقت بدت تلك العبارات وهي تغطي الأماكن الأكثر حميمية من جسد المرأة، شكلاً من رقابة ذاتية فقد كانت سؤالاً حول تراث جريء بالجنس إن كان مكتوباً، متعففاً عنه على المستوى البصري.
على مستوى الجوائز كانت مدينة أوسنابروك الألمانية قررت منح الشاعر أدونيس جائزة إريش- ماريا- ريماك للسلام لهذا العام، لكن القرار أثار عدداً كبيراً من السوريين بسبب موقف الشاعر المعادي للثورة في بلده، وصل الأمر حد المطالبة بعدم منحه تلك الجائزة.
هذا في وقت منح المخرج السينمائي السوري المناصر للثورة أسامة محمد جائزة الأمير كلاوس.
أخيراً؛ هل يجوز حساب التراجع نوعاً من حصاد ثقافي؟ إذن فقد تراجع الفيلم التسجيلي السوري بشكل ملحوظ كماً ونوعاً بعد نهضة واضحة جاءت مع بدايات الثورة.
كذلك يشهد ملف الآثار السورية انتكاسة وراء انتكاسة، بتدمير أثر هنا وأثر هناك، وربما يجدر تسجيل حدث كبير باقتصاص «داعش» من عالم الآثار السوري خالد الأسعد وتعليق جثته على أحد أعمدة مدينة تدمر التاريخية.
هذا في وقت يستمر فيه اعتقال النظام للممثل والمخايل زكي كورديللو وابنه الممثل مهيار كورديللو، والكاتب والممثل عدنان زراعي والشاعر وائل سعدالدين والممثلة سمر كوكش وسواهم. يصعب إنكار أن الخاسر الأكبر في المشهد الثقافي هم السوريون، أينما وقفوا، فمن الواضح أن الحصاد في واد وهم في واد آخر.
إن كان هناك خطط لعام مقبل مثمر فيجب أن تكون الشريحة المستهدفة أولاً من أي فعل ثقافي هي أولئك اللاجئين الذين ليس من الصعب الوصول إليهم، إذا سلمنا باستحالة الوصول إلى الناس في مناطق سيطرة النظام.
القدس العربي