المعارضة السورية عشية آذار الثورة/ شمس الدين الكيلاني
دخلت سوريا مع استلام الأسد السلطة عام 1970م مرحلة جديدة تعزَّز فيها الطابع المركزي الاستبدادي للسلطة. نجح في تشكيل (جبهة وطنية تقدمية) انشطرت على أثرها الأحزاب القائمة إلى شطرين حمل كلٌّ منها الاسم نفسه (الاتحاد الاشتراكي، الحزب الشيوعي، البعث)، شطر اشترك في (الجبهة الوطنية التقدمية)، التي تحولت مع الأيام إلى استطالة من الدرجة الثانية لحزب السلطة ترتزق على السياسة بدلاً من أن تخدمها، تقتصر عضويتها على مئات تنتظر دورها في (الغنيمة)، وقسمها الآخر انتقل إلى المعارضة، وشكل عام 1980م صيغة تحالفية تحت يافطة «التجمع الوطني الديموقراطي» على أساس برنامج ديموقراطي ليبرالي يدعو إلى قيام سلطة دستورية ديموقراطية، والتقى هذا البرنامج مع ما طرحته، آنئذٍ، النقابات المهنية: الأطباء، المهندسين، المحامين، التي كانت لا تزال مستقلة نسبياً عن هيمنة أجهزة السلطة المخابراتية، وهو ما فتح الطريق أمام هذه القوى الحزبية والمدنية لتشكيل خيار ثالث ديموقراطي في خضم الصراع ما بين قوى استعملت الإرهاب المسلح (الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين)، وطريق العنف الشامل لسلطة أرادت من خلاله أن تقضي على الحياة السياسية وأن تروض المجتمع السوري عبر قضائها على (الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين)، ولجماعة الإخوان المسلمين التي لم تشترك بالقتال إلّا بعد استهدفت السلطة أعضاءها، فما لبثت الأجهزة أن حاصرت أحزاب (التجمع الوطني الديمقراطي)، بالإضافة إلى تصفيتها (حزب العمل الشيوعي، والتنظيم الشعبي الناصري)، في طريقها للقضاء على أي نشاط سياسي حي في المجتمع السوري. فهيمن في الثمانينات والتسعينات شبح الموت والمذلة على سماء سوريا بعد أن تم القضاء على مسلحي الإخوان، وختموا ذلك بمذبحة حماه، ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، ودمروا فيها قلب المدينة وتركوا الدمار ليشاهده السوريون المارون في طريقهم إلى مدنهم ليكون عبرة ولإدخال الرعب في قلوبهم، بل أجبروا أهالي الضحايا أن يرفعوا أصواتهم عالياً لشكر جلادهم الكبير (بالروح بالدم نفديك يا حافظ). فصمتت سوريا وشعبها صمت القبور، يجثم فوقهم التهديد والرعب. قامت السلطة إثر انهيار النموذج السوفياتي الشمولي، في التسعينات، بالإفراج عن آلاف من المعتقلين السياسيين، وأجرت بعض (الإصلاحات الاقتصادية) على طريق تبييض أموال رجال النظام في أعلى هرم السلطة وأجهزتها.
ثم أطلق الأسد الابن، في بداية عهده وعوداً بالإصلاح تطلباً للشرعية، لعبور مشكلة التوريث الفاسدة، فساهم ذلك في ولادة حراك سياسي اجتماعي ومدني، وإلى جدل ثقافي ثري، قام به مثقفون يساريون، وليبراليون، وقوميون، فعزَّز ذلك من احتمال تكوين أحزاب ليبرالية جديدة متحلِّقة حول النائب المعارض البارز رياض سيف، صاحب منتدى «الحوار الوطني»، وحول (الهيئة التأسيسية لأصدقاء المجتمع المدني)، إلَّا أن السلطة أغلقت الباب أمام التحول الديموقراطي باسترجاعها للطرائق المعتادة الاستبدادية: العنف والسجون.
لم تستسلم المعارضة، استجمعت قواها وشرعت في تأسيس ما سُمِّي (إعلان دمشق) عام 2005، بمشاركة أحزاب (التجمع الوطني الديموقراطي)، ووجوه ثقافية من نشطاء (هيئة المجتمع المدني)، وشخصيات ليبرالية بارزة مثل النائب رياض سيف (دمشق)، والشيخ نواف البشير (دير الزور). كما انضم إليه أيضاً (الإخوان المسلمون) على ضوء تبنيهم فكرة (الدولة المدنية الديموقراطية). وعلى هذا انعقد (المجلس الوطني) لـ«إعلان دمشق» في أواخر 2007، وضم أغلب القوى السياسية السورية، فاكتمل بذلك عقد المعارضة السورية بكافة أطيافها باستثناء بعض المجموعات اليسارية الراديكالية.
خلق هذا التحالف الديموقراطي -على قلة حيلة المعارضة- إطاراً جامعاً لتوجهات النخب السورية، صار بإمكانها، لو حافظت على وحدتها في هذا الإطار الجامع، لكانت وفِّرت للثورة السورية في انطلاقتها في آذار 2011 وحدة القيادة، وهيكلية سياسية وتنظيمية لتمثيل الثورة في الداخل وأمام العالم. غير أن هذا التحالف الوطني الكبير لم يدم طويلاً، ما لبث أن واجه المصاعب. أتت أولى المصاعب إثر قرار حزب الاتحاد الاشتراكي (وهو جزء من التجمع الوطني الديموقراطي)، بتجميد عضويته بحجة أن النافذين في الإعلان تقصدوا تهميش موقعه في الهيئة القيادية، بالإضافة إلى خلاف سياسي، عبَّر عنه أحد قياديي حزب الاتحاد بالقول: إن (الاتحاد) معني «بالعمل لمواجهة المخاطر الخارجية التي تستهدف سوريا وأمتها العربية.. فلا معنى للحديث عن الديموقراطية بمواجهة المتطلبات الوطنية ولا ديموقراطية في ظل الاحتلال والهيمنة الخارجية». فأبدت قيادة هذا الحزب العجوز انشغالها – على حساب التغيير- بأوهامها بوجود مؤامرة ضد سوريا تستهدف من جملة ما تستهدف سياسة النظام (الممانعة)، وبتبنى رؤية عدمية للعالم لا ترى في الغرب وأميركا سوى عالماً شيطانياً أسطورياً، لا يخضع لمنطق السياسة المعهودة. حيث استعاد، على غرار القوى الناصرية العربية، شعارات (جبهة الرفض) التي وقفت دائماً ضد استراتيجية عبدالناصر: إزالة آثار العدوان، وقبول خيار السلام وقرار 242 ومشروع روجرز التفاوضي، والانفتاح على العالم والتعامل معه على أساس الممكن والمصالح وميزان القوى. وبالنتيجة انحازت (قيادة حزب الاتحاد) إلى سياسة حماس وحزب الله وربما إيران، مع تأييد خجول للسياسة الخارجية للسلطة. مع استخفاف بتأثير العامل الخارجي، والتشكك بمعارضة الخارج!
أما الضربة الأخرى لهذا التحالف الوطني الكبير فأتت من (الإخوان المسلمين)، حين فاجأوا الجميع، في حزيران/يونيو 2006، بتأسيس (جبهة الخلاص) مع النائب خدام من دون اكتراث بالتزامهم بإعلان دمشق، ثم لم يطل الأمر بهم حتى أعلنوا – بشكل مفاجئ – في السابع من كانون الثاني 2009، بمناسبة حرب غزة، انسحابهم من جبهة الخلاص، «توفيراً لكل الجهود للمعركة الأساسية»! إلى أن أنهوا هذه الهدنة بعد سنتين. فأحدث الإخوان خلال ذلك نوعاً من الإرباك للمعارضة، وأثاروا الشك بتقلباتهم السياسية. ووقف اليسار الراديكالي يبحث عن هويته الضائعة. واستمر العديد من الناشطين بتحمل مسؤولية إعلان دمشق بمن فيهم نشطاء ما سمي ربيع دمشق وحزب الشعب الديموقراطي. فذهب الكثيرون، إلى أنه من المفترض بـ(الإخوان) أن لا يبقوا أسرى تعلقهم بمكانتهم قبل محنة الثمانينات، وأن يتوقفوا عن محاولاتهم للهيمنة على المعارضة في الخارج، وأن يتوقف (حزب الاتحاد) عن النظر لمكانته في المستقبل قياساً على ماضيه في الستينات، وعن فرملة حركة المعارضة الداخلية قياساً على توجهاته المترددة، ليساهم الاثنان بذلك في التحول السياسي الكبير الراهن.
كانت المعارضة بهذا الحال من التشتت عندما انفجر الشعب السوري المُذل المهان في وجه نظام الاستبداد، وشق طريقه من دون انتظار مشاركة المعارضة التقليدية ونصائحها، فاجترح لنفسه قيادات على تلاحم مع تجربته الفعلية، وأكثر التزاماً وثقة بمستقبله وبأهدافه، إلى أن توصل إلى تشكيل (هيئته العامة) القيادية. فمستقبل سوريا شرع بالتشكُّل بجهود نشطاء لم يربكوا أنفسهم بإيديولوجيات المعارضة وبتكتيكاتها، ولا بتجاربها المُخفقة، ولا بماضيها الإشكالي. وهم يرون أن كل ما يحتاجونه تشكيلاً جامعاً للتيارات السياسية كافة بما فيه المعارضة القديمة والجديدة، يستطيع أن يشكل قطباً تمثيلياً للشعب السوري يساهم في قيادة عملية الانتقال إلى الديموقراطية.
المستقبل