المعارضة السورية و “التنظيمات العصبوية/ رستم محمود
تبدو سلوكيات وخطابات المعارضة السورية الرسمية (الائتلاف الوطني) غريبة في تفاعلها مع التنظيمات الثلاث الأقوى «سياسياً» وعسكرياً في البلاد: النظام، والتنظيمات الإسلامية الأصولية، وحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي. فكأنما ثمة شيء ما في خبيئة نفس هذه المعارضة، يعتبر هذه التنظيمات أدنى مكانة ومستوى منها، أخلاقياً وإيديولوجياً وسياسياً، كونها تنظيمات قائمة على أسس أهلية طائفية وإثنية ومناطقية، وليست عامة وطنية و «مدنية»، كما حال المعارضة الرسمية هذه. لذا فهي، في عرف هذه المعارضة، تنظيمات عابرة وموقتة، وما هيمنتها الرمزية وحضورها الكثيف راهناً، سوى نتيجة للظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد.
في قرارة الوعي السياسي للمعارضة ثمة أحاسيس مركبة تدفعها الى ذلك.
فهي، من طرف، تستشعر أن سورية أخرى مختلفة تماماً ستنشأ حالما يُنجز أي مشروع سياسي دولي أو إقليمي يغير حالها الراهن. وسورية المتخيَّلة هذه، لا تتحمل التنظيمات العصبوية الحالية، ولا مكان فيها لتنظيمات متطرفة كـ «داعش»، فيما لا يمكن النظام الاستمرار في تشكله وبنيته الطائفية. أما حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي فستنهار هيمنته حالما ينتهي «الاستثناء» السوري الراهن!
في مقابل ذلك، لا يريد الائتلاف الاعتراف بأن أي «حل» أو تسوية سياسية، لا يمكن لها أن تجري إلا عبر تلك التنظيمات، المهيمنة فعلياً على الأرض، والمتحكمة بجزء غير قليل من المجتمعات التي تسيطر عليها. وأنها ستغدو قوة عطالة كبيرة في حال لم تؤخذ مصالحها وخياراتها بالحسبان. كذلك يُغض النظر عن أن هذه التنظيمات «العصبوية» نفسها ستستمر في المراحل التي تلي تلك التسويات، وإن بخطابات وشعارات وممارسات شبه مختلفة ظاهراً عما هي عليه الآن. مع هذا فستبقى محافظة على بنيتها التمثيلية وقوتها التنظيمية والسياسية وطبيعتها العصبوية الراهنة. بل في مراحل مستقبلية أكثر تقدماً، يمكن لها أن تتحول إلى بنى مجتمعية وثقافية واقتصادية لها مؤسساتها وعالمها الداخلي الخاص بها، مستفيدة مما راكمته من رساميل مادية ورمزية أثناء فترة الصراع الطويلة التي خاضتها، بالضبط كما جرى في لبنان والعراق، وكل دول المجتمعات المركبة التي عاشت حروباً أهلية مديدة.
من طرف آخر، تتوهم المعارضة السورية، أو توهم نفسها، بأن المجتمعات المحلية التي تحيا في ظلال هذه التنظيمات العصبوية راهناً، مناقضة وعلى تباين تام مع هذه التنظيمات، وأن هذه المجتمعات المحلية إنما تنتظر لحظة الخلاص من الظرف الاستثنائي الراهن، لتنقلب فوراً على هذه التنظيمات التي تتحكم بها، وبالتالي لتعيد بلورة نفسها سياسياً في الوعاء الكلي لـ «الوطنية السورية» في شكل متطابق مع الرؤية السياسية التي يمثلها الائتلاف الوطني نفسه.
تلك القراءة الرومانسية متماهية تماماً مع ما يمكن تسميته بـ «القومية الاجتماعية»، تلك التي لا تستطع وعي المجتمعات إلا بتنميط مثالي إرادوي لها، إذ ترى جميع أفراد المجتمع متطابقين في ميولهم وإرادتهم السياسية وهوياتهم الثقافية. هذه الرؤية يمكن أن تطبق على أية جماعة سكانية، خلا ما يشبه المجتمع السوري بُعيد الحــرب المديدة هذه. فهذا المجتمع سيخــرج مـن حرب داخليــة أهــلية طاحنة، لم تُحترم فيها أية خطوط حُمر بين سكان البلد الواحد، وهذا بعدما عاش بالأساس استبداداً قاسياً ومديداً، كان قائماً بجوهره على سياسات داخلية محددة بطائفية مستترة وإثنية معلنة وجهوية طافــحة. وهــذه العوامل ستدفع هذا المجتمع للالتصاق بهذه التنظيمات العصبـــوية لفتــرات مـــديــدة، لأنــــها أولاً لا تجد الأمان والاطمئنـان في الآخر «الوطني».
أخيراً، ففي لاوعي الائتلاف شعور بأن الدول «المؤيدة» لتطلعات السوريين المستقبلية، لا يمكنها إلا أن تكون مع التيار السياسي المدني الديموقراطي الوطني، الذي يشغله الائتلاف راهناً. يملك الائتلاف ثقة بالغة بذلك، وبالذات ما خص الولايات المتحدة ودول المجموعة الأوروبية التي لا يمكن ان تتواصل بالتنظيمات العصبوية الأهلية هذه أو تثق بها!
هذا المخيال السياسي لا يبدو منافياً ومناقضاً لكل التجارب السياسية في منطقتنا في العهود الحديثة فحسب، إذ هو أيضاً مجافٍ لحقيقة تعامل هذه القوى مع المسألة السورية منذ البدايات، حيث فضلت التعامل والتفاعل الدائم مع القوى التي تستطيع أن تتحكم فعلياً بالأرض، لأنها ستكون صمام «الاستقرار» المستقبلي الذي هو أسمى الأهداف بالنسبة إلى هذه القوى الدولية، أياً كانت أثمان هذا الاستقرار على الشعب نفسه وتطلعاته.
قبل أكثر من ستة عقود، كان ثمة شعور شبيه بذلك يعتري أحزاب «البرجوازية» السورية تجاه الأحزاب الإيديولوجية السورية. وقتها كان زعماء الكتلة الوطنية السورية وحزب الشعب والحزب الجمهوري لا يبالون بالصعود والسياسي والإيديولوجي والشعبوي للحزب الشيوعي السوري وحزب البعث والقوميين السوريين والناصريين الاشتراكيين، وكانوا يعتبرونهم منحدرين من طبقات فلاحية وعمالية شبه مهملة، ولا يمكنهم مجاراة الطبقة البرجوازية المحترفة والمخضرمة في الحُكم!.
في ما بعد، أثبتت الأحداث قدرة هذه التنظيمات السياسية الأيديولوجية على بلورة مشروع سياسي «شعبوي» عنيف، استطاع الاستحواذ على طيف معقول من الطبقات الاجتماعية، من خلال بعض الخدمات الشعبية التي قدمها، في التعليم والصحة والاستقرار، وإن كان على حساب الحريات العامة والسياسية، التي ظهر في ما بعد أنها غير مهمة لطبقات واسعة من السوريين.
ليس مطلوباً ابداً من الائتلاف أن يعيد بلورة ذاته على أسس من العصبوية الأهلية. لكن ما لا شك فيه أن هذا المستوى من الرومانسية واللامبالاة في التعامل مع الوقائع السورية بما هي عليه فعلاً، دليل آخر على غربة هذه المعارضة الرسمية السورية عما يجري فعلا في البلاد.
* كاتب سوري
الحياة