صفحات العالم

المعارضة هدية للنظام الاستبدادي/ بدر الإبراهيم

 

هل يمكن أن يستفيد نظام استبدادي من معارضين له؟ نعم، يحدث ذلك، عندما تؤكد المعارضة، من دون وعي منها، رواية النظام عنها، وتعطيه الفرصة لإثبات غياب البديل عنه، وتقدم سلوكاً يعيق عملية تغيير النظام، بدلاً من أن يدفع بها إلى الأمام. ويصلح الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية نموذجاً لهذه الحالة، فهو يهدي النظام السوري الاستبدادي أموراً عديدة، بسلوكه وممارساته.

لكن، قبل الحديث عن هدايا “الائتلاف”، لا بد من القول إن النظام السوري لم يكتفِ بقمع المعارضين واعتقالهم قبل الثورة، بل تجاوز ذلك إلى تجريف الحياة السياسية في سورية بالكامل، ومثل أنظمة عربية أخرى، لم يسمح بأي نوع من التنَظُّم السياسي الجدي، أو العمل المدني، الذي يشترط بطبيعته الاستقلال عن الدولة، مما جعل الخبرة السياسية للنخب السورية أقل من أن تضع استراتيجية سياسية سليمة، في أثناء الثورة على النظام، غير أن هذا لا يعفي هذه النخب من المسؤولية عن الفشل في إيجاد معارضة، تمثل قيادة سياسية واعية، وصالحة لأن تكون بديلاً للنظام، وقادرة على أن تجمع أطيافاً واسعة من السوريين حولها.

في الخامس عشر من سبتمبر/أيلول 2011، بعد ستة أشهر على انطلاق الثورة، اجتمع معارضون سوريون، غالبهم من أصحاب التوجه الإسلامي، في أحد فنادق الجزء الآسيوي من اسطنبول، لإعلان “المجلس الوطني السوري”، وقدموه باعتباره ممثلاً لأكبر تجمع لمعارضي النظام. جرت محاولات عدة لتأجيل الإعلان، وحاول أحد المعارضين “اليساريين” الاتصال بالمعارضين في إسطنبول، وثنيهم عن إعلان المجلس، داعياً إلى مزيد من التفاهم، ليكون ممكناً توسيع المجلس بضم عناصر أخرى، لكنه وجد ممانعة شديدة لاقتراحه وشخصه، وكان المعارضون في اسطنبول يشتكون من ضغوط لجعل “اليساريين” في موقع القيادة، رافضين هذا الأمر جملة وتفصيلاً، ومرددين كلاماً قاسياً بحق المعارض اليساري، وأقرانه.

أُعلن عن تأسيس المجلس الوطني السوري، فتحركت قوى إقليمية سريعاً لإيجاد تسوية بين من أعلنوا المجلس، ومن اقترحوا التأجيل، ليصار إلى ضمهم جميعاً تحت مظلة واحدة، وهكذا، تم الإعلان عن تأسيس “المجلس الوطني السوري” ثانية في 2 أكتوبر/تشرين الأول في اسطنبول، وهذه المرة بوجود “اليساريين” في الواجهة، وحظي هذا الإعلان بترحيب إقليمي ودولي كبير، من الدول الداعمة للمعارضة السورية، لكن المجلس تعثر وصار من الضروري تطويره، فتوسع ليصبح “الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة”، غير أن الأزمات بقيت تلاحقه.

قصة تأسيس المجلس الوطني هذه تشير إلى أمرين رئيسيين، بقيا يلازمان المجلس ثم “الائتلاف”، الأمر الأول، الخلافات الأيديولوجية والحزبية بين أعضاء المجلس، والتي أُتْبِعَت بخلافات شخصية على المناصب داخل “الائتلاف” والحكومة المؤقتة التي لم تعمل، أدت إلى إضعاف “الائتلاف” ودوره. الأمر الثاني، الدخول الإقليمي والدولي على الخط منذ البداية، مما صنع مزيداً من الانقسام داخل “الائتلاف” بين جماعات محسوبة على هذه الدولة، أو تلك، وغياباً لاستقلالية القرار، وأدى إلى تسابق شخصيات معارضة على نيل رضا الدول الداعمة، ونقل الولاءات بينها، بل وتنافس معارضين على الهبات المالية المقدمة من دول إقليمية، وسعي بعض الشخصيات المعارضة وراء الإغراءات المالية الشخصية، من السيارات الفارهة إلى أجهزة “الآيباد”!

لم يُنجِز “الائتلاف” شيئاً يذكر على صعيد التواصل مع الشباب الثائر في الداخل السوري، ولم تؤسس الحكومة المؤقتة وجوداً فعلياً وعملاً حقيقياً في إدارة المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، واشتعل الصراع داخل المعارضة على مناصب ومغانم في الهواء، كما أن “الائتلاف” وقواه المختلفة لم يضعوا استراتيجية سياسية لمخاطبة الداخل السوري، وتأكيد دورهم في قيادة سياسية بديلة للنظام، ومحاولة تفكيك القاعدة الاجتماعية للنظام، واستمالتها بخطاب سياسي رصين ومُطَمْئِن.

عوضاً عن ذلك، بنى “الائتلاف” استراتيجيته على أمر وحيد، هو دعوة الدول الداعمة له إلى التدخل ضد النظام، وكان كل رهان قواه على تدخل خارجي عسكري يطيح النظام، مبرهناً على عجزه عن قيادة الثورة، وإسقاط النظام من الداخل، ومسلماً أمره كله إلى القوى الإقليمية والدولية.

وبدلاً من المزايدة على النظام السوري في القضايا الوطنية والقومية الكبرى، وإثبات وجود قيادة سياسية، تستمد جزءاً من شرعيتها من التأكيد على دعم المقاومة، والدعوة إلى تحرير الأرض التي عجز النظام عن تحريرها، ذهب أحد المعارضين البارزين، ليعطي تعهدات للغرب بإيقاف الدعم عن حركات المقاومة، وذهب أحد أعضاء “الائتلاف” بعيداً بطرح التحالف مع إسرائيل حلاً.

غياب النضج والروح الوطنية الاستقلالية جعل “الائتلاف” مجرد واجهة لقوى إقليمية ودولية، لا أكثر، ووقع الشباب الثائر في سورية، والمعارضون الوطنيون الديمقراطيون، في الداخل والخارج، بين صلف النظام ودمويته من جهة، وضعف “الائتلاف” وتناحره وانقياده للخارج من جهة أخرى. ودفع التناحرُ والاستسلام إلى الإملاءات الخارجية رئيسَ الائتلاف السابق، أحمد معاذ الخطيب، إلى تركه (الشرق القطرية – 15/4/2014).

تهدي معارضةٌ كهذه النظامَ فرصة التأكيد لخصومه، قبل أصدقائه، أنه لا غنى عنه، كما تهديه فرصة اجتذاب أو تحييد شرائح من المجتمع السوري، تخشى المجهول في غياب البديل الواضح، وهي لن تثق بمعارضة سياسية منقسمة ومستسلمة إلى الخارج، خصوصاً في ظل تناحر المعارضة العسكرية أيضاً.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى