المعتذر.. «باتريك سيل»
مشاري الذايدي
كتب باتريك سيل، الكاتب البريطاني المهتم بقصة سوريا وحكم عائلة الأسد، يوم الجمعة الماضي، في صحيفة «الحياة»، مقالا تناول فيه الملف السوري الملتهب، وشرح، حسب رؤيته التحديات التي تواجه المتصارعين على سوريا، من روسيا إلى أميركا والاتحاد الأوروبي، طبعا هو أبدى موقفا نقديا «لتأخر» الرئيس بشار الأسد في الإصلاحات والاعتماد على الحل الأمني فقط، وهو بالمناسبة موقف تجاوزته أحداث الثورة السورية، ولم يعد يصنف على أنه موقف معارض للنظام الأسدي، لكن هكذا خيل لباتريك سيل أنه بهذا الموقف قد احتفظ لنفسه بموقع حيادي، كما خيل لكثير من اليسار والقوميين العرب، وبقايا الحزب القومي السوري الاجتماعي، ممن أحرجهم بطش وتوحش نظام الأسد، لكنهم لا يريدون رحيله ولا نجاح الثورة ضده، فاتخذوا مثل هذه المواقف المائعة.
المهم أو زبدة المقال الذي كتبه باتريك سيل، «صديق» الوالد حافظ الأسد، وكاتب سيرته، هو رؤيته لطبيعة التعاطف العربي مع الثورة السورية، وتحديدا شعوب الخليج والجزيرة العربية، فهو تقريبا تبنى لغة وخطاب الوزير المتجمد الملامح سيرغي لافروف، وزير خارجية روسيا، الذي لا يمل من تقريع دول الخليج ومعها تركيا وثلة من أوروبا على مساندتها المعنوية والسياسية، والمالية، وربما بعض العسكرية، للثوار السوريين، ويضع في عينه خشبة كبيرة تحرمه من رؤية الطائرات والذخائر والصواريخ والبشر المقبلة من إيران أو من روسيا.
قال باتريك سيل: «لا تزال بعض دول الخليج العربية تنظر إلى المنطقة من منظار مذهبي. فهي قلقة من طموحات إيران المزعومة للهيمنة. حتى إنها غير راضية لأن العراق الذي كان قوة سنية قادرة على السيطرة على إيران بات تحت قيادة شيعية. كما يبدو أنّ الحديث عن (الهلال الشيعي) يهدّد الهيمنة السنية. لهذه الأسباب، تموّل هذه الدول وتسلّح المتمردين السوريين على أمل أن يؤدي إسقاط النظام السوري إلى قطع روابط إيران بالعالم العربي. غير أنّ هذه السياسة تساهم في إطالة معاناة سوريا وفي التسبب بمقتل أبرز رجالها وبضرر مادي كبير».
المعنى المباشر لهذا الكلام الفج، هو: دعوا الشعب السوري يلاقي دبابات وشبيحة وطائرات الأسد، عاريا، دون دعم أو مساندة أو حتى موقف سياسي معنوي وتضافر إعلامي يرفع المعنويات، هذا هو المعنى المباشر و«العملي» لكلام سيل، لو أخذ أحد بنصيحته العوراء.
هو كلام منخرط في نسيج خطاب لافروف وعلي أكبر صالحي وحسن نصر الله، وربما ثلة من القوميين وقليل من اليساريين والإسلاميين، حلفاء الأمس «الممانع» مع بشار وخامنئي، والذي كان من بقاياه القليلة دعوة «نهضة» راشد الغنوشي لوفد من حزب الله إلى تونس، ثم الاعتذار المتأخر بعد هذه الفضيحة وكأن الغنوشي للتو اكتشف مجازر الأسد، ومساندة حزب الله العلنية له، بكل السبل.. لكن هذا بحث آخر.
لماذا هذه المواقف التي يعتبرها البعض محيرة في فهمها، ومحبطة في فقرها الأخلاقي، ومتناقضة في بنائها المنطقي إزاء الثورة السورية؟ لماذا هلل ورحب حسن نصر الله وخامنئي والغرب حتى لسقوط القذافي ومبارك وترحيل صالح من اليمن وهروب بن علي من تونس، وأخذوا هذه المواقف الرخوة والمنافقة، في حالة الغرب، والفاجرة والمساندة للقاتل، في حالة إيران وروسيا وحزب الله، على الرغم من أن بشاعة وعري مجازر الأسد يبصرها أعمى العميان؟!
هل هو موقف طائفي بحت بالنسبة لإيران وحزب الله ونوري المالكي؟! وموقف مناهض لأميركا وتفردها بالقرار الدولي بالنسبة لروسيا والصين؟
التفسير بالبعد الطائفي فقط غير كاف، وإن كان له دور كبير طبعا، فإيران ساندت أرمينيا المسيحية ضد أذربيجان المسلمة الشيعية، في الأزمة التي نشبت بينهما في وقت سابق، وحزب الله تحالف مع حماس الإخوانية السنية في وقت سابق. أما روسيا فلم يكن التفسير بالرغبة القومية والنعرة الروسية كافيا، فقد سمحت روسيا سابقا لأميركا والغرب، بعد تمنع يسير، بفعل ما تشاء في ليبيا، وتونس ومصر، ولم يكن التفسير بأن روسيا تبحث عن صفقة ومقابل مادي أو مصالح تتعلق بالنفوذ المباشر، كافيا.
يجب الخروج من الخيمة اليومية لفهم تفسير هذه المواقف.
على سبيل المثال، الباحث الأميركي من أصل إيراني ولي نصر كان قد جادل أثناء الحملة الأميركية لإسقاط صدام حسين في العراق بأنه من حق الأكثرية الشيعية أن تحكم العراق وأنه لا خوف منهم، لكنه لم يستخدم ذات المنطق في الحالة السورية.
لعل العودة إلى التاريخ القريب والبعيد تفسر طرفا من جذور هذه المواقف النفسية، أكثر منها مواقف سياسية.
بالنسبة للإمبراطورية الإيرانية، بنسختها الخمينية، فإن قيام كيان عربي سني ضخم في سوريا، يعني التواصل الحي بين جنوب العالم الإسلامي وشماله، أي بين الجزيرة العربية، جنوبا، وتركيا، والعالم التركي شمالا ووسط آسيا في الشمال الشرقي، وتطويق البقعة الإيرانية من كل الاتجاهات، ففي شرقها أفغانستان وباكستان، وفي غربها الجزيرة العربية والهلال الخصيب (العراق، سوريا وبلاد الشام) وفي شمالها الغربي تركيا وفي شمالها العالم الآسيوي المسلم السني.
لكن بقاء النظام الأسدي الحليف، بل التابع، للخمينية السياسية، مع النجاح في تدبير أمر العراق عبر تابع مربى في العجينة الفكري والسياسية الخمينية، إضافة لحزب الله في لبنان وحماس، سابقا، في غزة، يعني مد العباءة الإيرانية إلى ضفاف المتوسط، وتمزيق التواصل الجغرافي والديمغرافي بين شمال وجنوب الوسط المعادي لها، كما ترى هي. ولا نغفل المناوشات الإيرانية في البحرين واليمن.
أما روسيا، فهي كانت من أكبر المتأثرين والمؤثرين في تاريخ الدولة العثمانية، وهي بعد لم تهدأ ذاكرتها من دخان الحروب معها في القرم وغيرها، وبالنسبة لها فإن قطع الاتصال بين هذا العالم التركي والعربي السني، وبين حديقتها الإسلامية الخلفية، يعني إضعاف إمكانيات يقظة الحلم الإسلامي بالنسبة لشعوب الاتحاد الروسي أو حتى الكومنولث الروسي.
هذا الاجتهاد لا يعني، كما يفهم البعض، الانطلاق من «اقتناع» نفسي وداخلي، لدي، بصوابية أو أخلاقية التفسير الديني الطائفي للأمور، ولكن عدم محبتنا للتفسير الطائفي وطموحنا لتعميم القيم الإنسانية المشتركة، وتكريس مفهوم المواطنة بلا تفرقة، لا يعني إلغاء البعد الطائفي والتاريخي والديني في فهم السياسة، هنا نحاول الفهم وليس التبرير والتشجيع، ومن يلغي العامل القومي أو الطائفي أو أزمات الذاكرة التاريخية من فهم السياسة، فهو إما ساذج أو مخادع يخفي ما لا يظهر.
من هذا المنظار ربما نفهم هذه الرغبة «الكونية» كما قال وليد المعلم وزير خارجية الأسد، ولكن بنقيض فهمه، لوأد الثورة السورية منذ سنة ونصف (تذكروا المبادرات العربية والدولية المتتالية، الدابي ثم مود وأنان.. الخ من مناورات كسب الوقت لتمكين الأسد من العبور بنظامه من النار).
هناك حيرة دولية بل، نفاق دولي، يريد لهذه الثورة أن تلين من تيبس الأسد، وتحسن صورته فقط، لكن لا يريد لهذه الثورة أن تنجح في اقتلاع هذا النظام بشكل كامل، اقتلاعا سياسيا ونفسيا، فهذا يفتح على احتمالات التاريخ الكبرى.
لا يقال هذا الكلام علنا، لكن لا نستطيع فهم ما جرى نفسيا إلا بهذه الطريقة الغائرة في النفس.
أناس مثل باتريك سيل وبعض مراكز الأبحاث حتى في أميركا، هم جزء من النسيج النفسي الداعم لمخاوف الغرب القديمة من يقظة قوة ما في هذا المشرق، تجدد ذكريات التاريخ القريب والبعيد، بل إن هناك «لوبي» كاملا في واشنطن لدعم الأسد، ومن يقرأ تحقيق مجلة «المجلة» سابقا بعنوان: «المعتذرون عن الأسد.. اللوبي السوري في أميركا.. أي دور في قمع الثورة؟» سيلمس طرفا من هذه الخيوط المعقدة والمشتبكة.
في الخطاب الدبلوماسي المعلن، اقرأ ما لا يقال، وليس ما يقال..
الشرق الأوسط