صفحات العالم

مقالات تتناول احتمالات تقسيم سورية


الثلاثاء

حول العلويين والنظام السوري

قصي الحسين

الدعوة ملحة اليوم الى الثورة السورية للوقوف  في مواجهة الأجندة الإعلامية للنظام والكشف عن الصورة الحقيقية لوجه الطائفة العلوية.

ما ابتليت طائفة من الطوائف الإسلامية، كما ابتليت الطائفة العلوية العربية الإسلامية، يقول منير الشريف (العلويون من هم وأين هم؟ ص 3): فمنذ تاريخها القديم كانت قد سلقتها الألسن الحداد، وحامت حولها الظنون فأخرجها بعضهم عن قوميتها العربية وجعلوها من أمم شتى، فقالوا: هم من بقايا الفينيقيين والرومانيين والحثيين واليونانيين والصليبيين… ومنهم من اقصاها عن الدين الإسلامي، فقال: إن اسم النصيرية، قد أتى من اسم النصرانية. أي أن العلويين ليسوا من الطائفة الإسلامية. بل طائفة ضمتها أسوار الانحطاط. فلا يمكن أن تنهض للعلم، وليس في الإمكان اشتراكها مع العرب في النهضة الحديثة، والجامعة القومية والازدهار الاقتصادي. ومن الصعب تعويدها الطاعة والنظام وهذا بعض ما يتحدث به فريق من الناس في الشرق والغرب، يقول منير الشريف.

ويعلق كاتبنا على ذلك فيقول: “وحيث إنني عشت بين هذه الطائفة عدة سنين، وتجولت في كل أطراف محافظة اللاذقية، ودرست حالة العلويين عن كثب، وصادقت رجالهم وخبرتهم. رأيت الواجب يدفعني لأبعد عن هذه الطائفة الشبهات، والترهات، والظنون، واطلع الناس على الحقيقة”. ويقول الشريف: “إنها فئة عربية الدم واللسان والخصائل والغاية. وإسلامية كبقية الطوائف الإسلامية، كتابها القرآن الكريم. وأنها رغم ما نزل بها من البلايا والرزايا الشعوبية، ما تزال مرتبطة بالعروبة والإسلام، رافعة راية العربية على جبالها الشماء، وعلى ساحل بحرها اللازوردي، منذ رفعها العرب في كل مكان، تخدم الحقوق وتحافظ على التربية العربية الطيبة، وتسير بسرعة إلى الأمام، لتتبوأ مقامها في دنيا العرب”.

كتب منير الشريف ذلك عن العلويين في محافظة اللاذقية جغرافياً وقد كان محافظاً عليها عام 1946. فتحدث عن مساحتها وأنهارها وأراضيها وأهلها واقتصادياتها، ورحلات العرب خصوصاً، الذين تسموا بالعلويين، مؤخراً إليها، وسكناهم فيها. وتحدث أيضاً عن مذهب العلويين المنبثق عن المذهب الشيعي الإسلامي. وكذلك عن الحياة العشائرية للعلويين وعن رؤساء العشائر ورجال الدين وتأثيرهم. وأفرد فصولاً لعادات العلويين: في استقبال ضيوفهم، ومأكلهم وملبسهم وسمرهم وفرحهم وزواجهم وتربية أولادهم، وزينتهم وأعيادهم، وقراهم ومساكنهم. وبحث عن أخلاقهم ووطنيتهم وشجاعتهم ونشاطهم وذكائهم، تراث آبائهم العرب الأوائل كما يقول.

ومن المثقفين العلويين من تنبه مبكراً لتتبع وجود العلويين في لبنان عامة وطرابلس خاصة. لأن المؤرخين القدماء والمحدثين، لم ينصفوا هذه الطائفة كما يقول. ونراه يحمل على مؤرخ طرابلس الدكتور عمر تدمري فيقول عنه في كتابه “تاريخ طرابلس” بأنه “يحلق في البحث عن معالم طرابلس وآثارها وعن قلعتها وأبوابها، ويطل علينا عابراً”. وقد صور تضايقه منه، لأنه، كما يرى، لم يعط الطائفة العلوية في لبنان عامة وطرابلس خصوصاً حقها من البحث (ص 8)، ويقول أيضاً أنه في هذه “العجالة الصغيرة نود أن نكشف بعض الملابسات التي لا زالت عالقة في أذهان الكثيرين ممن تهجموا على العلويين، وشنوا عليهم مختلف الحملات والتجنيات التي كانت في حقيقتها سياسية لا دينية، ونثبت لهم أن العلويين قديمون في هذه البقعة (طرابلس وعكار)”.

والواقع أن العلويين، جعلهم قدرهم في مطلع القرن العشرين، في وضع طبقي صعب، رزحوا تحته وكابدوا الفقر والجوع والحرمان. وحال بينهم وبين المشاركة في الحياة السياسية السورية واللبنانية. وخصوصاً في فترة الديمقراطية الذهبية، التي عاشتها سوريا وعاشها لبنان في مطلع الخمسينيات. وقد كان من العلويين رجال كبار في السياسة والأدب والفكر والإسلام والعروبة كما كان منهم أيضاً رجال كبار في التحرير والتحرر والثورة على الاستعمار، والدعوة إلى اقامة الدولة الوطنية في لبنان والدولة الوطنية في سوريا، دون التنكر مطلقاً وتحت كل الظروف إلى إرثهم التاريخي الثوري والعربي والإسلامي.

وكتب علي ملحم وهو كاتب سوري معروف تحت عنوان “العلويون والثورة السورية”: “إن معتقلي الطائفة العلوية يشكلون النسبة الأكبر بعد معتقلي أهل السنة في سجون نظام الأسد” (الحياة 4/7/2012، ص 10). ويتابع عرض تجربته: “ففي فرع التحقيق التابع للمخابرات الجوية، والذي قضيت فيه ما يقارب 3 أشهر، اجتمع في أحد الممرات حوالي الستين معتقلاً في غرفة واحدة، كان بينهم ستة علويين. أي ما نسبته 1/14. في حين لم يوجد سوى معتقل إسماعيلي واحد ومعتقلين اثنين من الطائفة المسيحية. وهذه النسبة تتوافق مع المراقبين للشأن السوري، عندما يروج أن أبناء الطائفة العلوية هم من الشبيحة”. وبحسب علي ملحم، أن النسبة الأكبر من الشبيحة، هم من أبناء الطائفة السنية ويتحدث عن شبيحة النظام في قرية القمحانية (200) وهم من السنة وعن شبيحة حلب من آل بري وهم من السنة وعن شبيحة دير الزور والمنطقة الشرقية.

ويقول أيضاً إن اصطفاف العلويين إلى جانب النظام الأسدي سببه تضليل إعلامي روجه النظام نفسه، حين كان يتحدث ولا يزال عن تعرض أبناء الطائفة العلوية تاريخياً للاضطهاد والمذابح والتهجير بعمليات قام بها أهل السنة. رغم أن تاريخ المنطقة لا يذكر ذلك. بل إن العثمانيين حاربوا الأقليات بشكل عام. وليس كل ما فعله عثمانيو الأستانة يتحمل وزره سنّة سوريا ولبنان، إلا بالدعاية والإعلام لأبواق النظام.

ويذّكر ملحم بقمع كل أشكال المعارضة في سوريا ولبنان في التسعينيات. وقتل الكثيرون من رجال الطائفة العلوية الكبار، من سياسيين وأهل الدعوة والدين، لأنهم كانوا من المعارضين. واستبدل النظام الشباب العلوي المعارض، بالشباب العلوي الموالي. وصعّد في السياسة والطائفة، قادة من المخابرات ورجال الأمن وضباط جيش، تقاعدوا أو أشرفوا على التقاعد. وأولاهم الاستتار بالتعاليم الدينية، فصاغوها حسب أهوائهم وأخذوا بتلقينها للشبيبة الناشئة. فشكلوهم، كما يقول، “وفق بنية تمازج فيها الطابع الأمني المخابراتي مع الواجب الديني والتقديس لرجالات نظام الأسد”، طبقة من الشيوخ الشباب الجدد.

لهذا كانت الدعوة اليوم ضرورية، لأن تقف الثورة السورية في مواجهة الأجندة الإعلامية للنظام السوري، المشبعة بالتضليل والكشف عن الصورة الحقيقية لوجه الطائفة العلوية التاريخي. وقد كانت على مر الحقب التاريخية من نسيج المجتمعين السوري واللبناني. وكان العلويون إلى جانب السنة والمسيحيين والدروز والإسماعيليين والأكراد والشيعة، صفاً واحداً في مواجهة الاحتلال أو في مواجهة الاستبداد، أينما وقع، وفي أي زمان وقع، ولو أن العلويين اليوم منحرجون أكثر من غيرهم بالنظام السوري.

استاذ في الجامعة اللبنانية  – طرابلس

النهار

الخميس

انفصال أكراد سورية يمهد لـ «الدويلة العلَوية»

عبدالوهاب بدرخان

رغم الانشقاقات المتزايدة، استمر النظام السوري يتصرف وكأن شيئاً لم يحصل، اذ يكفيه أن يبث إعلامُه روايتَه عن «إقالة» رئيس الوزراء أو سفراء سبقوه الى الانعتاق من ربقة الزمرة الحاكمة. شاء النظام مرة أخرى إثبات أن «دولته» لا أهمية لها، وأن أشخاصها بيادق ينقلها كيفما يشاء، أما اعتماده، فعلى الأجهزة. ولعل هذه الانشقاقات واعتقال بضع عشرات من الإيرانيين أطارت ما تبقى من صوابه، فضغط الأزرار ليجنّ القصف التدميري ويعم كل المناطق، بل ليتعجل معركة حلب. لكن، ماذا ينتظر من هذه المعركة: أن يستعيد السيطرة ويواصل تسلطه على شعب سورية؟ فات الأوان. ومن أين جاءه الاعتقاد بأنه يستطيع أن يقتل ليحكم، أمِنْ غطرسة ضراوته، أم من تجاربه السابقة؟ هذه أصبحت أيضاً، كما سيصبح هو نفسه، من الماضي. لماذا سلَّم النظام مناطق في الشمال لمقاتلي «حزب الاتحاد الديموقراطي»، رديف «حزب العمال الكردستاني» وتوأمه؟ طبعاً لاستفزاز تركيا واستدراجها، ولزرع الفتنة بين أكراد سورية، والأهم أنه أراد الإيحاء للأكراد بأن فرصة «تقرير المصير» التي ينتظرونها باتت سانحة، حتى لو جاءتهم كلقمة مسمومة. ولماذا يبدي هذا النظام تساهلاً يشبه التحريض على انشاء «كيان» أو «اقليم» كردي؟ لأنه لن يترك سورية كما كانت تحت قبضته، ولم يعد لديه ما يخفيه، فهو يريد أن يفتتح الأكراد مسلسل تفتيت البلاد، لتبدو «الدويلة العلوية» بعدئذ أمراً واقعاً مشروعاً يفرضه منطق التطورات.

قد يكون الروس والايرانيون بدأوا يُقنعون أنفسَهم بأنه اذا لم يبق لهم سوى هذه «الدويلة» على الساحل السوري موطئ قدم و «نفوذ» في الشرق الأوسط، فلا بد أن يَقنَعوا بها وأن يريدوا ما سيكون، بل أن يستعدوا أيضاً لحمايتها. ربما اعتقدوا أنهم حلفاء نظام حاكم، ولم يتخيلوا يوماً أنهم يتعاملون مع طائفة، لكنهم مضطرون الآن للأخذ بما يبدو متاحاً، على افتراض أنه بات حتمياً أو ممكناً. ما يؤيد ذلك أن الخيار الآخر، أي بقاء هذا النظام كجهة وحيدة تريدهم ويريدونها، لم يعد وارداً. نعم، هذا نظام لديه من السلاح ما يمكِّنه من تدمير حلب، كما فعل في دمشق وحمص وحماة ودرعا ودير الزور، لكنه لم يستعِدْ أمانَه، ولن يستعيد شأنه في أي منطقة عاث فيها تشبيحاً. العالم كله يعرف حلب عنواناً مدنياً حضارياً، وأهلها سيصمدون بعزم كما فعلوا ضد مغول القرن الثالث عشر وهمجيتهم، ومع ذلك، إذا قُدِّر لهذا النظام أن يحسم «معركته المصيرية» فيها، فإن العالم سيشهد على همجية القرن الواحد والعشرين، وسينزل بها العقاب الأشد، ففي حلب سيتجرد النظام من آخر خدعة يمكن أن يستخدمها للادعاء بأنه معني بالحفاظ على سورية وطناً لجميع السوريين.

اشتكى كوفي انان من «عسكرة المعارضة» كأحد العناصر التي أفشلت مهمته، ولم يدرك أن النظام هو مَن دفع شعبه دفعاً الى «التعسكر» والقتال، ضامناً مسبقاً أن معادلة كهذه ستكون لمصلحته، كذلك المنازلة النارية، وأنه سينتصر فيها حتماً. من الواضح أنه أخطأ في حساباته، فالحرب التي تمناها واستدرجها قد تطول وتكلِّف أكثر، لكن يستحيل أن تؤول الى النهاية التي يتصورها. لم يشعر الشعب السوري ولا أي من «أصدقائه» بأي خسارة في استقالة كوفي انان. كانت كذبة وانتهت. الخاسرون كانوا النظام السوري و «أصدقاءه»، اذ فقدوا غطاءً وحلبة لخوض المناورات وشراء الوقت للنظام، الذي أذهل الجميع ولا سيما «أصدقاءه» بانفصاله التام عن الواقع وعن الشعب.

ما يستدعي كل القلق اليوم، ليس فقط المجازر التي يصر النظام على ارتكابها قبل رحيله، بل خصوصاً الأرض المحروقة التي سيخلفها وراءه والوضع الفوضوي للبلد إثر انهياره وسقوطه، فـ «أصدقاء النظام» استهلكوا جهد المجتمع الدولي في بحث عقيم عن «وقف العنف»، وعن «حل سياسي»، وفي جدل عبثي حول جواز وعدم جواز «تسليح المعارضة»، فيما كان النظام نفسه يستثمر العنف ليموضع سورية ومجتمعها في اتجاه التمزق والتفتيت. كان الأمر في الأذهان منذ الأسابيع الأولى، لكن حتى أنصاره السابقين -اذا حادثتهم في منافيهم القسرية في لبنان والأردن والعراق ومصر والجزائر وتركيا- باتوا يقولون إن النظام لم يعد مهتماً إلا بإنشاء «الدولة العلوية». كان هذا المآل معروفاً ومتداولاً منذ بدأ «الأسد الأب» يبني نظامه في سبعينات القرن الماضي، وازداد التهديد به في الثمانينات، مع القمع الشديد الذي أُنزل بحماة وحلب وإدلب، وكأن أصحابه تعمدوا الجهر بهذا السر الشائع ليغدو خطاً أحمر وإنذاراً مسبقاً لمن يحاول المس بتركيبة «الأقلية (أو تفاهم الأقليات) التي تحكم الأكثرية»، بغض النظر عن طابعها المذهبي، فأي محاولة لتغييرها أو ادخال تحسينات «إصلاحية» عليها ستعني تشظي البلد كله. وطوال الشهور الـ 17 الماضية، تأرجح النظام بين المهم والأهم لديه، أي بين استبقاء هذه التركيبة والاحتفاظ بخط الرجعة الى «الدويلة»، لكن فشله في احتواء الأزمة أدى الى انكشاف الأقليات وتعريضها للخطر، فخسر ورقة «حمايتها» ولم يبقَ له سوى أن يحمي أقليته العلوية التي صادر صوتها ومصيرها وظَلَمَها بالآثام التي راكمها.

لكن مسار «الدويلات» الذي رسمه هذا النظام ليناسب طموحاته، هل يتلاقى عملياً مع المصالح والأهواء الاقليمية والدولية؟ واذا اندفع النظام مع ايران الى مغامرة حربية في الاقليم، فهل تكون الحروب للحفاظ على وحدة سورية أم لتقاسمها؟ وعدا العرب، من يريد بقاء سورية موحدة؟ أسئلة كثيرة كهذه مطروحة، وباستثناء اسرائيل التي ترى في تفتيت سورية «جائزة» مجانية لم تتوقعها، فإن اللعبة الدولية لا تبدو اليوم واضحة المرامي، خصوصاً أن الأمر لا يتعلق بسورية وحدها. صحيح أن هناك «مخططات استعمارية» موضوعة سابقاً، وخرائط موثقة تجسدها وتؤكدها، لكن هذا لا يعني أن الدول الكبرى معنية فقط بمصلحة اسرائيل وتترقب اللحظة لتطبيق تلك المخططات بعينها، فالقلق من دول كبيرة فاشلة سياسياً واقتصادياً -أو أفشلتها أنظمة مستبدة ومتخلفة- لا يُعالج بدويلات عديدة سيفتقد معظمها مقومات الحياة والنماء.

أراد الشعب بانتفاضته أن يفتح سورية على أفق الحريات والديموقراطية وتعايش الفئات والمذاهب، أما النظام فذهب في القمع الى حدٍّ شرع فيه خريطة البلاد أمام كل التمزقات الداخلية المحتملة وكل الانتدابات الخارجية المتوقعة. في العراق، ارتكب الأميركيون كل الخطايا المميتة، باستثناء أن يقودوا هم عملية التقسيم، وإن كانوا سهّلوا ما يعتبر ارهاصاً له بدعمهم استقلالية اقليم كردستان. لكن أكراد سورية يقولون ان واشنطن أوضحت باكراً جداً أنها لا تؤيد أي صيغة استقلالية لهم، وإنما تحبذ أي شكل من الادارة الذاتية لصون حقوقهم وخصوصيتهم. وألح الاميركيون والاوروبيون طويلاً على المجلس الوطني وسائر المعارضات السورية كي تنخرط في «حل سياسي» ولو على سبيل «الطمأنة» للعلويين وبقية الطوائف والأقليات، لكنهم توصلوا في النهاية الى اقتناع بأن الخطر الداهم على هذه الفئات يأتي من إمعان النظام في العنف الدموي الذي يمارسه باسم «حماية الأقليات». في المقابل، تماهت روسيا، كما ايران، مع دعاوى النظام، وقد تجاريه في توجهه الى «الدويلة»، لكنها سعت بالتأكيد الى حل يبقيه ولو جزئياً في الحكم، ورغم أن الاحتمال كان وارداً وممكناً إلا أن النظام نفسه أحبط كل الفرص.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

الخميس

الدولة العلوية… ودومينو التقسيم !

    راجح الخوري

كل هذا الدوي الاقليمي والدولي من التصريحات والمواقف حول الازمة السورية لا يعادل قذيفة تدك الاحياء في حلب وغيرها من المدن المنكوبة. فبعد 17 شهراً على انفجار الوضع وبعد فشل النظام في فرض استعادة السيطرة وسقوط المبادرات العربية والدولية، تبدو سوريا متروكة لمصير مأسوي مخيف.

فلا حديث الرئيس الاسد بعد لقائه سعيد جليلي عن “تطهير البلاد من الارهابيين ومكافحة الارهاب من دون تهاون” يمكن ان يوقف الانهيار، ولا حديث جليلي عن ان “ايران لن تسمح بأن ينكسر بأي طريقة محور المقاومة الذي تعتبر سوريا جزءاً اساسياً منه” يمكن ان يحبس رصاصة في فوهة بندقية، ولا تحذير هيلاري كلينتون من ارسال “المقاتلين بالوكالة او الارهابيين الى سوريا، وان علينا ان نرسل اشارات واضحة جداً حول تفادي حرب طائفية” يستطيع ان يفرمل انزلاق سوريا الى الحرب الاهلية، ولا الغياب المثير للحضور الروسي منذ ايام عن المسرح المشتعل يمكن ان يشي بوجود مخرج ما!

وسط هذه الصورة القاتمة برز حديث العاهل الاردني عبد الله الثاني عن الخشية من الوصول الى سيناريو قد يضطر فيه الاسد الى اللجوء الى معقل الطائفة العلوية كجرس إنذار للجميع: “لدي شعور بأنه اذا لم يتمكن الاسد من حكم سوريا الكبرى، فان خطته الثانية ربما تكون اقامة جيب علوي”!

طبعاً لا يغالي عبد الله عندما يصف هذا السيناريو بأنه الاسوأ “لأن ذلك يعني انقسام سوريا الكبرى، ومن الواضح ان هذا الانقسام يعني ان الجميع يبدأون بالاستيلاء على الاراضي، واذا انفجرت سوريا من الداخل فان ذلك سيخلق مشاكل سيستغرق حلّها عقوداً”!

الكلام عن انقسام سوريا او تقسيمها ليس جديداً، ففي حين تواترت الانباء عن تخزين النظام الاسلحة في المناطق الجبلية شمال غرب سوريا، بدا القتال الشرس واعمال التصفيات المذهبية المتبادلة بين الطرفين في شريط المدن ذات الاكثريات السنيّة مثل حمص وحماة وحلب والتي يمكن ان تشكل حداً فاصلاً بين السهل السني والجبل العلوي، وكأنه سيقود في النهاية وفق تطور المعارك على الارض الى سيناريو التقسيم الذي لم يكن عبد الله اول المتحدثين عنه.

طبعاً يتفق النظام السوري مع المعارضة في تكرار رفض كل حديث عن التقسيم، على رغم ان ما يجري في الميدان يخالف هذا، لكن عندما تترك سوريا لمصيرها الاسود ويتساوى صمت اميركا الطويل والمريب مع انحياز روسيا العنيد والمريب، فمن واجب المنطقة كلها ان ترتجف أمام عاصفة التقسيم التي قد تضرب في سوريا والاقليم!

النهار

الخميس

العاهل الاردني و’الدولة العلوية

عبد الباري عطوان

من الصعب ان يتكهن اي انسان، مهما بلغ من الحكمة والخبرة، بالصورة التي ستنتهي عليها الاوضاع في سورية، ولكن ما يمكن التكهن به هو ان الصراع المسلح الدائر حاليا على الارض سيطول، وان النظام السوري لن يسقط خلال ايام، رغم الانشقاقات التي تعرض لها واحدثت هزة نفسية واعلامية، صعّدت آمال الكثيرين في هذا المضمار.

الذين تدخلوا في هذه الأزمة، خاصة اولئك الذين دفعوا باتجاه عسكرة الثورة السورية، ودعموا المعارضين بالمال والسلاح، لم يتدخلوا من اجل احلال الديمقراطية وحقوق الانسان وتخليص الشعب من نظام ديكتاتوري دموي سلبه كرامته وحرياته، كما انهم لم يتوقعوا ان تستمر، اي الأزمة، لأكثر من اسابيع او اشهر معدودة، وهنا جاء الخطر الاكبر والكارثي في الحسابات.

النظام السوري صمد طوال هذه المدة لأن معظم الانشقاقات التي وقعت في صفوفه كانت اعلامية صرفة، وفي اطار حرب نفسية، ولم تحدث اثرا جديا يضعف النظام ويقوّض اركانه. اسماء كبيرة.. نعم.. ولكنها دون جذور حقيقية او لاعبة اساسية في دائرة صنع القرار.

صحيح ان اربع شخصيات امنية كبرى تشكل عصب خلية ادارة الأزمة، من بينهم وزير الدفاع ونائبه آصف شوكت صهر الرئيس، تعرضوا للاغتيال، ولكن الصحيح ايضا ان هذه العملية ما زالت تتسم بالغموض، ولم ترشح اي تفاصيل عنها، ولم تعلن اي جهة المسؤولية عن تنفيذها، ولم نتعرف حتى هذه اللحظة على العنصر او العناصر التي شاركت فيها، وما هو مصيرها، فهل هي عملية انتحارية، ام عملية زرع متفجرات في القاعة، وكيف تمت؟

جميع السيناريوهات واردة، ولكن لا يجب استبعاد السيناريو الأهم وهو احتمال قيام النظام نفسه، او ابرز اجنحته، بتصفية هؤلاء بضربة استباقية لشكوك في ولائهم، او لتسرّب معلومات من استخبارات خارجية مضادة (روسية مثلا) عن وجود اتصالات غربية معهم لقلب النظام؟

كان لافتا انه بعد تصفية هؤلاء ازداد الجيش السوري شراسة، ونجح في السيطرة على مدينة دمشق، بعد ان كادت تسقط في ايدي الجيش السوري الحر وانصاره، واستعادة الجزء الأكبر من حي صلاح الدين في حلب، ان لم يكن كله، الأمر الذي يذكرنا بتقدم مماثل لقوات المعارضة الليبية بعد اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس قائدها السابق، وتوالي سقوط المدن في ايديها ،ابتداء من مصراتة وانتهاء بطرابلس وسرت وبني الوليد.

‘ ‘ ‘

الكفة بدأت ترجح لصالح النظام السوري وحلفائه، ليس لضعف المعارضة وقواتها، وانما لتردد حلفائها خوفا من الخسارة اولا، وللمواقف شبه الانتحارية الداعمة للنظام من قبل الروس والايرانيين والصينيين، واستخدامهم كل ما في جعبتهم من اوراق قوة للحيلولة دون سقوط الرئيس الاسد، حتى الآن على الأقل.

الحماس التركي للمعارضة السورية بدأ يخفت، وتهديدات السيد رجب طيب اردوغان باتت اخف لهجة، ان لم تكن معدومة في الايام الاخيرة، بعد ازدياد عمليات حزب العمال الكردستاني، واستخدامه لخمس محافظات شمال سورية كقاعدة لشنها، وتصاعد الاصوات التركية المعارضة لتورط تركيا في الأزمة السورية، وتسرّب ابناء عن بوادر صراع طائفي بين الاقلية العلوية مدعومة ببعض الفصائل الكردية، والاغلبية السنية.

الادارة الامريكية الحاضنة الأبرز للمعارضة السورية بدت مرتبكة في سياستها تجاه الملف السوري، فهي تريد دعم المعارضة السورية للتسريع بإسقاط النظام، ولكنها تخشى في الوقت نفسه ان تصل الاسلحة الى التنظيمات الاسلامية المتشددة، وتنظيم القاعدة على وجه الخصوص الذي بات من الصعب انكار وجوده على الاراضي السورية.

فعندما يتحدث المقاتلون في صفوف المعارضة في حلب، المعركة الاهم، عن نقص حاد في الذخيرة، فهذا يعني وبكل بساطة ان فرص قوات الجيش العربي السوري النظامي في استعادة المدينة باتت اكبر، والمسألة مسألة وقت لا اكثر.

من الواضح، ومن خلال بعض التقارير الغربية، ان خطة ‘اصدقاء الشعب السوري’ كانت تتلخص في الاطاحة بالنظام والاستيلاء على ترسانته من الاسلحة النووية، قبل الانتخابات الرئاسية الامريكية، للتفـــــرغ لانجاز هـــــدفين اساسيين، الاول: هو اشعال ثورة شــــعبية في الجزائر تطيح بالنظام الحالي. والثاني البدء في تنـــفيذ الاتـــــفاق الاسرائيــــلي ـ الامريكي بضرب المنشآت النووية الايرانية، بعــــد تحيــــيد العامل السوري، وعزل حزب الله في لبنان ومحاصرته وربما تصفيته عسكريا وامنيا وسياسيا، من خلال هجوم موسع.

فليس من قبيل الصدفة ان يقوم السيد سعيد جليلي ممثل السيد علي خامنئي المرشد الاعلى للجمهورية الاسلامية، بزيارة خاطفة الى كل من بيروت حيث التقى السيد حسن نصر الله زعيم حزب الله، ودمشق للاجتماع بالرئيس السوري بشار الاسد، والتأكيد بأن ايران ‘لن تسمح بكسر محور المقاومة الذي تشكل سورية ضلعا اساسيا فيه’.

الحرب الجارية حاليا في سورية هي حرب طائفية، والصراع الدائر فيها هو صراع على السلطة من المتوقع ان يستمر لأشهر، وربما سنوات حتى يستطيع احد طرفيه حسم الأمور عسكريا على الارض لصالحه، ويسلّم الطرف الآخر في المقابل بالهزيمة، ويدفع ثمن هزيمته على غرار ما حدث في ليبيا.

الحلول السلمية جرى قبرها بعد انهيار مهمة كوفي عنان واستقالة صاحبها يأسا وقرفا، وعدم تعيين بديل حتى الآن، في ظل صراع شرس على النفوذ بين القوى العظمى، تطور الى حرب بالوكالة على الارض.

الروس والصينيون الذين انهزموا في العراق وليبيا، وقبلها في افغانستان، لا يريدون ان ينهزموا في سورية، او بالاحرى يريدون ان ينتقموا للخديعة الكبرى التي تعرضوا لها في هذه الدول على يد الامريكان وحلفائهم الغربيين والعرب النفطيين، وهذا ما يفسر استئسادهم في الدفاع عن الاسد ونظامه.

‘ ‘ ‘

العاهل الاردني عبد الله الثاني يمكن ان نوصفه بأنه الترمومتر، او العدسة الأصدق في رؤية ملامح المخططات التي تطبخ للمنطقة، فقد كان اول من حذر من الهلال الشيعي وضرورة اقامة هلال سني في مقابله، وهذه النبوءة التي صدرت قبل ست سنوات تتجسد على الارض، كما انه كان اول من كشف عن وجود ستة آلاف مقاتل يتبعون لتنظيم القاعدة، يعملون على الاراضي السورية.

بالأمس فاجأنا العاهل الاردني بالتحذير من لجوء الرئيس بشار الاسد وانصاره الى المنطقة العلوية واقامة كيان طائفي علوي فيها، وذلك اثناء حديث لمحطة ‘سي.ان.ان’ الامريكية الشهيرة، وعلينا اخذ هذه التحذيرات بجدية مطلقة، فالرجل لا ينطق عن هوى، وبلاده استضافت قبل شهرين مناورات ‘الاسد المتأهب’ العسكرية التي شاركت فيها 19 دولة بقيادة امريكا، تحت عنوان التدخل عسكريا لـ’تأمين’ مخزون الاسلحة الكيماوية السورية، وهي ايضا التي باتت الملاذ الآمن للمنشقين السياسيين، وربما العسكريين السوريين.

التحذير من كيان علوي هو اول واقوى مؤشر عن مدى جدية احتمال تقسيم او تفتيت سورية على اسس طائفية وعرقية، وهذا يتناقض كليا مع اهداف الثورة الشعبية السورية في اقامة دولة ديمقراطية على جميع انحاء سورية، تتعايش فيها كل الطوائف والأديان والأعراق على قدم المساواة.

سورية تتجه بسرعة نحو سيناريو التفتيت المرعب، وهو سيناريو، اذا ما نجح، سيصل الى الدول التي تستعجل سقوط النظام السوري حتما، فليست هناك اي دولة محصنة، بما في ذلك الاردن وتركيا ودول الخليج والسعودية منها خصوصا، فإذا قامت دولة علوية، واخرى سنية وثالثة كردية ورابعة درزية في ســورية، فتوقعوا قيام دولة الحجاز ودولة نجد ودولة عسير، ودولة الاحساء، وربما ايضا دولة الاقباط فــي مصر.. ولا ننسى لبنان في هذه العجالة ايضا. نظرية أحجار الدومينو التفتيتية قد تكون العنوان الأبرز للمرحلة المقبلة.

القدس العربي

الخميس

تبعات «الورقة الكردية»

 وليد أبي مرشد

يوم دخلت القوات السورية إلى لبنان عام 1977، بتغطية «قومية» من الجامعة العربية، لإعادة الأمن والاستقرار إلى ربوعه التي كانت تشهد حربا أهلية عبثية.. أحكمت سيطرتها على لبنان في بحر سنة واحدة. مع ذلك استمر احتلالها «الأخوي» للأراضي اللبنانية وتحكمها الرعوي بمصير اللبنانيين لأكثر من ثلاثين سنة، ولربما طال أكثر من ذلك لو لم يجابه بانتفاضة شعبية عرفت، آنذاك، بـ«ثورة الأرز».

على خلفية هذه السابقة العسكرية – السياسية بين دولتين عربيتين «شقيقتين» يجوز التساؤل عما إذا كان النظام السوري قد تحسب لما يمكن أن يفرزه من تعقيدات تلويحه بالورقة الكردية في إطار استراتيجية «شد الحبل» مع أنقرة، وبالتالي ما يمكن أن ينجم من تداعيات إقليمية – لا سورية فقط – عن أي «تدخل» تركي مباشر في الشأن السوري.

استفزاز دمشق لتركيا بدأ يعيدها إلى موقع اللاعب الإقليمي الرئيسي على الساحة السورية. ولم يعد خافيا أن تركيا لا تتحمل مسؤولية هذا الدور بلا تفويض «مباشر» من واشنطن. وقد يندرج الاتصال الهاتفي الذي أجراه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، الأسبوع الماضي، مع الرئيس الأميركي باراك أوباما في سياق التشاور حول هذا الاحتمال في وقت تتنامى فيه قناعة الإدارة الأميركية بضرورة تقديم مساعدات مالية ولوجيستية للثوار السوريين.

لا جدال في أن اهتمام أنقرة بالشأن السوري ينبع من اعتبارات «جيوبولوتيكية» تتعدى الموقف السياسي المحض من الانتفاضة السورية. وهذا الاهتمام ازداد بوضوح في أعقاب ما تناقلته وكالات أنباء غربية عن أن القوات السورية النظامية انسحبت من المنطقة الشمالية الشرقية المحاذية للحدود التركية فيما غضت السلطات السورية النظر عن سيطرة كوادر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي – المعروف بأنه «الشقيق» السوري لحزب العمال الكردستاني – على عدد من البلدات الكردية الحدودية بينها بلدتي عفرين وعمودا. ويبدو «تواطؤ» النظام السوري والقوى الحزبية الكردية في إقامة الأمر الواقع الجديد في المنطقة الحدودية من تمركز القوى الكردية في كثير من المراكز الرسمية للشرطة ومن إقامتها لنقاط تفتيش على طرقات المنطقة.. دون أي اعتراض من جيش النظام.

ولأن هذا التطور ترافق مع عودة مقاتلي حزب العمال الكردستاني إلى استهداف القوات التركية في شرقي الأناضول، تحركت «هواجس» تركيا حيال مشروع كيان كردي انفصالي على الجانب السوري من الحدود قد يصبح واقعا جغرافيا قائما في حال انهيار الكيان السوري وتشرذمه مذهبيا وإثنيا.

تخوف أنقرة من هذا الاحتمال عكسته تحركاتها الدبلوماسية الأخيرة، والحملة الإعلامية الواسعة التي أطلقتها للتحذير من الانعكاسات السلبية لأي تحرك كردي «انفصالي» على المنطقة ككل، وتحديدا نشرها لحشد عسكري ضخم على طول حدودها المشتركة مع سوريا، في ما يعتبر رسالة واضحة بأنها لن تسمح للنظام السوري بتجنيد الأكراد لشن حرب بالوكالة على أراضيها.

في ظل هذه التطورات يبدو تلويح دمشق بالورقة الكردية مرشحا لإفراز احتمالين، يفوق مردودهما العكسي على النظام ما يمكن أن يتوقعه من مكاسب ولو آنية:

– احتمال استعمال أنقرة التهديد الكردي لأراضيها ذريعة لشن عمليات «تعقب حار» لملاحقة المسلحين الأكراد داخل الأراضي السورية (على غرار ما فعلت مرارا في شمال العراق)، مع ما يستتبع ذلك من خسائر بشرية ومادية يتحمل النظام وقواته عبأها الأكبر.

– احتمال إقدامها على فرض «منطقة أمنية» في شمال سوريا (على غرار ما فعلت إسرائيل في جنوب لبنان بين عامي 1985 و2000) بداعي حماية حدودها من تسلل المسلحين. وغير خاف أن هذه المنطقة مرشحة لأن تتحول، ميدانيا، إلى ملاذ آمن للثوار السوريين، وربما قاعدة لحكومة سورية ديمقراطية.. وعليه يجوز التساؤل عما إذا كان النظام السوري احتسب، بدقة، تبعات التلويح بالورقة الكردية أم لا؟.

الشرق الأوسط

الخميس

سيناريوهات ما بعد الأسد

سوسن الأبطح

من السهل أن تبدأ حربا لكن من الصعب جدا أن تنهيها، والأصعب التنبؤ بخواتيمها. ما يحدث في سوريا تجاوز الثورة، ليصبح حربا بين جيش منظم ومدجج، ومعارضين يزدادون تسليحا حتى امتلك بعضهم الدبابات والصواريخ المضادة للطائرات. أضف إلى ذلك المقاتلين الأجانب الذين يأتون لمساندة هذا الطرف أو ذلك، والتدخلات الإقليمية والدولية التي تجعل أرض سوريا، للأسف، مختبرا لتفاعلات نظام عالمي جديد، في طور التشكل والتبلور. وهو ما يسميه الكاتب اليهودي – الأميركي مويزاي نعيم نظام «نهاية السلطة»، معتبرا أن ثلاث مصائب على الأقل بات العالم عاجزا عن حلها؛ وهي: التغير المناخي، والانهيار المالي الأوروبي، والأزمة السورية. أما سبب العجز، برأيه، فهو تعدد الأقطاب الجدد في السياسة الدولية، ومحدودية السلطة في يد كل قطب، وعجزهم مجتمعين عن التفاهم على أي من المواضيع الكبرى.

تبدو المقاربة بين الأزمة السورية ومعضلة التغير المناخي مبالغ فيها، غير أن القراءات والتوقعات حول ما ستنتهي إليه سوريا والمنطقة بأسرها مع سقوط نظام الأسد بعد أنهار الدماء التي سالت، تجعل المرء يتأكد أن قبل الثورة السورية ليس كما بعدها.

مع بوادر بدء انهيار حكم آل الأسد في دمشق، تبدو الساحة مفتوحة على تكهنات يصعب حصرها. المتفائلون يتحدثون عن اضطرابات محتمة، تتلو سقوط النظام الحالي، تدوم لسنوات تعود بعدها سوريا لتلملم شتاتها، لكن هؤلاء لا يخبروننا بما سيصير عليه لبنان الذي ستختل توازنات تركيبته الهشة، ولا ما سيكون عليه رد الفعل الأول بين الموالين للنظام السوري والمناوئين له، خصوصا أن الموالين ينامون على ترسانة من الأسلحة يقولون إنها قادرة على تدمير إسرائيل. الأنكى أن المتفائلين أنفسهم يكتمل السيناريو السعيد الذي يرسمونه بتبشيرنا بحرب تشنها إسرائيل على إيران قبل الانتخابات الأميركية نهاية السنة، للقضاء على المحور السوري – الإيراني. وبطبيعة الحال حزب الله لن يقف مكتوف الأيدي في مثل هذا الحال، بانتظار وصول السكين إلى رقبته. وقد بدأ مسؤولون إسرائيليون يتحدثون جهرا عن هذا الاحتمال. وتبعا لهذا السيناريو نحن أمام حرب أخرى جديدة، سنعلم كيف تبدأ لكن التكهن بما تمتلكه إيران من أسلحة وقدرات قتالية، وما ستجره هذه المعارك من ويلات، أمر لا يمكن تصوره سلفا.

هناك سيناريو آخر يتحدث عن لجوء حكام سوريا الحاليين إذا ما شعروا باقتراب النهاية إلى المنطقة العلوية على الساحل بدل الهرب خارج البلاد، أو انتظار نهايات على الطريقة القذافية. إذ يكفي أهل النظام الانسحاب إلى الخلف والتقوقع في الدولة العلوية، التي قامت خطوات فعلية أثناء المعارك المتوالية في حمص وحماه الأخيرة، لتمديد رقعتها بما يسمح بوصول حدودها إلى تركيا كما إلى البقاع اللبناني، مما يبقي التواصل مع حزب الله ممكنا. مع المجازر التي حصلت في حمص وحماه تم ما يشبه التطهير العرقي.

هاجر كثير من العلويين باتجاه الساحل طلبا للأمن بين أبناء طائفتهم، وهرب أهالي ريف حمص وحماه من السنة باتجاه لبنان أو مناطق سورية أخرى. المساحة التي يمكن إقامة الدولة العلوية عليها، ليست بالصغيرة جدا نسبة إلى لبنان مثلا، كما أن سكانها قد يصلون إلى مليوني نسمة، وفيها الميناء والجبال، وأسلحة النظام التي تمكن سكانها من الدفاع عنها، كما أنها ستحرم باقي السوريين من أي منفذ بحري. الدولة العلوية فكرة شهدت الحياة بعد الحرب العالمية الأولى أيام الانتداب الفرنسي وبقيت قائمة عمليا حتى عام 1937، ولم يرغب أهلها بالانضمام إلى سوريا خوفا من السنة وتعصبهم كما جاء في اعتراضهم الذي وجهوه للفرنسيين حينها. «بُعبُع» الطائفية ليس جديدا في المنطقة والمرض المزمن نفسه الذي حول لبنان إلى نهر من الدماء لا يجف من عام 1860 يخشى أن ينتشر وباؤه في المنطقة كلها بعد أن ضرب العراق وها هو يخترق سوريا «الحديثة» التي فاخر أهلها دائما بوطنيتهم وقوميتهم.

إعلان الدولة العلوية سيكون مطلبا إيرانيا لحفظ شيء ما من نفوذ ضمر، ومطلبا إسرائيليا، يحقق حلما كثيرا ما راود الدولة العبرية، أي إنشاء كيانات دينية حول إسرائيل تشبهها في عنصريتها وانغلاقها وضيق أفقها. ولعله أمر لا يزعج كثيرا الأميركيين والأوروبيين الذين يريدون أمن إسرائيل ورضاها، ولو على حساب تمزيق المنطقة.

يخشى أن يكون فيلم التقسيم الأميركي الطويل قد بدأ باستقلال ذاتي في كردستان العراق يجر وراءه إصرارا من أكراد سوريا على استقلال مشابه يكون بداية لتشكيل الدولة الكردية الكبرى. وهو ما سيدخل تركيا وإيران في ورطة، وإذا أضفنا إلى الدولة الكردية، الدولة العلوية المحتملة في سوريا والفوضى السنية المذهلة، فسنكون فعلا قد دخلنا في النفق.

لا يبدو أن النظام السوري سيستسلم قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، لذلك فإن سوريا ستخرج من ثورتها منهكة منقسمة على ذاتها. والخوف أن تكون الدولة العلوية رغم ما ستجره من شرذمة للمنطقة هي ما يرضي الروس الذين يبحثون عن قاعدة لهم، ويريح الأميركيين والإيرانيين أيضا.

ثمة مخاوف حقيقية، ومطامع أجنبية في المنطقة العربية، لا يمكن تجاهلها أو الاستخفاف بها. من واجب العرب أن يفكروا في ما بعد الأسد، فالنظام قد لا يسقط غدا لكن رحيله ولو بعد حين، بات محتوما، وتداعيات سقوطه ستكون بالتأكيد مدوية.

الشرق الأوسط

الجمعة

سوريا في مهب التحولات الدولية .. دراسة جيوبوليتيكية نظرية

    جلال خشيب

    تمهيد :

    “من الممكن أن نهاية الحرب الباردة ستعوض بمجموعة واسعة ومتعددة من الحروب الباردة الصغيرة بين القوى الكبرى”. … لقد كان صاموئيل هنثينغتون محقا حينما عبّر بصيغته هذه عن التحدّي الجديد الذّي سيواجهه النظام الدولي الجديد المنبثق عن حرب باردة انتهت بانتصار الليبرالية الغربية بتزعم مطلق للولايات المتحدة دون أن ينتهي معها منطق التاريخ ، فالديناميكية من خاصية البشر و سيادة الانسان لا تُحجمه عن فعل التنافس و منطق تواصلية الصراع من أجل الاعتراف كما يعبّر عن ذلك إكسيل هونيث في نقديته الجديدة امتدادا للنزعة النيتشوية الرافضة لمنطق السكون البشري و القناعة الإنسانية..

    فمنذ تفكك المنظومة السوفياتية شهد حقل الدراسات الدولية تحوّلات كبيرة سواء تلك المرتبطة بالنَزَعات التنظيرية الجديدة الثائرة على المنظور الوضعي أو بتلك المرتبطة بمنهجية التحليل و مستوياته و أدواته المعرفية .. فمن هذه التحوّلات أنّنا أصبحنا نبدي اهتماما أكبر بالأنظمة الإقليمية و مستوياتها التحليلية بدلا من الارتهان لمنطق النظام الدولي الذي كان منطقا متناسبا بحق مع ما شهدته الساحة الدولية منذ الحرب العالمية الأولى من ديناميكية تسارعية .. فانتهاء الحرب الباردة لم يكن في الحقيقة إلاّ بداية لحقبة جديدة من التنافس الدولي ، إذ لم تكن مقولة النظام الدولي الجديد – بزعامة أمريكية مطلقة- و التي بشّر بها تشارلز كروثامر إلاّ وصفا لفترة زمنية قصيرة جدّا من بهجة الانتصار ، فلم يكن هذا النظام الجديد إلاّ مرحلة انتقالية تحوّلية في مسار بنية النظام الدولي نحو التعدد ، فالافرازات الجديدة للحرب الباردة لم تكن كإفرازات سابقاتها من الحروب ، تحوّلات بنيوية على جميع المستويات ، قوى دولاتية إقليمية ، فواعل غير دولاتية “مايكروسكوبية” مؤثرة ، انتهاء مفعول الثلاجة و صعود الأديان و تأثير خطاب الإديولوجيات ، تفجّر النزاعات الإثنية …إلخ ممّا جعل كل طرف في هذا العالم طرفا “حسّاسا” فاعلا و متأثرا في نفس الوقت “مفعول الفراشة” … كل ذلك ساهم في بلورة جديدة لمفهوم الأمن المتجاوز لمنطق الدولة الصلب ..

    و لم تكن منطقتنا العربية إلاّ ساحة من ساحات هذه الحروب الصغيرة في هذا العالم الجديد إن لم تكن أهم المناطق على الإطلاق ..

    1-المستوى الدولي :

    لا أحد يساوره الشك في مفتاحية المنطقة العربية بمشرقها و مغربها في مشروع الخطة الأمريكية الكبرى كمنطقة ارتكاز في بعض مناطقها التّي غدت جزءً لا يتجزأ من الأمن القومي الأمريكي ، لذا كان أي تهديد أو خطر يمّس هذه المناطق يعّد بمثابة تهديد للأمن القومي الأمريكي ممّا يستدعي مواجهته بحزم ، لذا فقد عملت الأخيرة على نسج شبكة معقدة من الحلفاء هناك خاصة منذ الاجتياح العراقي للكويت و الذّي زاد قناعة الأمريكيين في ضرورة التواجد الميداني لقواتهم هناك ممّا حوّل جزءً حسّاسا من المنطقة إلى ما يشبه بالمحمية الأمريكية العسكرية بحكم الواقع و منطقة عسكرية متقدمة من التراب الأمريكي شنّت إنطلاقا من قواعدها حروبها العالمية على الإرهاب فيما بعد ، تلك الحروب التّي سرّعت عملية التحوّل في بنية النظام الدولي ..

    في مقال سابق جاء تحت عنوان “فلسفة الإستراتيجية الأمريكية” حاولنا أن نبيّن في احدى فصوله تلك النزعة الثورية في السياسة الخارجية التّي تبنتها إدارة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر محطمين بذلك ما أسميناه “بالستاتيكو المقدس” و ما تبعه ذلك من آثار سلبية على وضع الهيمنة الأمريكي على النظام الدولي المتشكل ، إذ لم تكن حروبهم في أفغانستان و العراق و القوقاز و أزماتهم الدولية مع كوريا الشمالية و إيران و في أوكرانيا .. وكذا حروب حلفائهم الاسرائيليين في المشرق العربي ” حرب 2006 على لبنان و كذا حربهم على غزة 2008 ” إلاّ على حساب الإرادة الامريكية في إطالة زمن الهيمنة قدر المستطاع ، و بقدر ما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تُعاني شبح الانفلات كانت قوى أخرى صاعدة من أكثر المستفيدين ، فأي انفلات للهيمنة يعني توّجه النظام الدولي إلى صيغة أخرى أقرب للتعدّد منها إلى الانفراد ، تعدّد تفرضه قوى إقليمية و دولية أخرى بحكم الواقع تقف روسيا و الصين على رأسها و تتدافع فيها أخرى صعودا على المستوى الإقليمي كالهند ، تركيا ، إيران ، البرازيل و المكسيك .. لذا فقد تعالت أصوات أكاديمية و أخرى سياسية داخل الأروقة الأمريكية بضرورة تدارك الوضع و تصحيح مسار السياسة الخارجية الأمريكية تكتيكيا تناسبا مع هدفها الأكبر .. إدامة حقبة التفوق الأمريكي ما أمكن ..

    لقد كانت المنطقة العربية –لاسيما مشرقها- من أكبر المتضررين من هذه السياسة الخارجية الأمريكية الثورية المحافظية الجديدة لكن و بالرغم من الانتهاء الرسمي لحقبة المحافظين الجدد إلاّ أنّ ملامح سياستهم لا تزال بادية في إدارة أوباما الجديدة ، إذ لا يزال منطق الاستقطاب السياسي الإقليمي يطبع المنطقة ، فلا تزال الولايات المتحدة و حلفائها في اسرائيل و الخليج تقف في مواجهة دول مارقة كإيران و سوريا و حلفاءهما في لبنان و الأراضي الفلسطينية المحتلة .. أمّا المستحدث فطرأ على مستويين : تنامي الدور الروسي في علاقاته مع “هؤلاء المارقين” الذين يزدادون تصلبا و عنادا على قلب موازين المنطقة في غير الصالح الأمريكي ثم محاولة كل من تركيا أوغلو و قطر الجزيرة لعب دور إقليمي ما … ممّا جعل المنطقة المشرقية بأكملها مخترَقة من قبل قوى أخرى غير الولايات المتحدة ، في حين يُخترق غربها “المغرب العربي و كامل افريقيا” من قبل قوة دولية أخرى اسمها الصين … اذن فكل الجهود الأمريكية في توطيد دعائم تواجدها الانفرادي هناك عبر شبكة حلفاء دولاتيين “أنظمة عربية حليفة” و غير دولاتيين في هكذا مناطق إرتكازية آيلةٌ إلى التراجع و الاختراق ممّا يستدعي ضرورة الإقدام على خطوة حاسمة تقطع الطريق أمام هؤلاء المنافسين الجدد الصاعدين ..

    * الثورات العربية و انتقائية التغيير :

    في كتابه الأخير “الإسلام و الصحوة العربية” يذكر البروفيسور طارق رمضان أستاذ الدراسات الإسلامية المعاصرة في جامعة أكسفورد بشيء من التفصيل كيف حاولت الولايات المتحدة الامريكية استغلال الاحتقان الشعبي على أنظمة الاستبداد العربية بعد عقود طويلة من القهر و التدهور الاجتماعي و انسداد أفق الحرية و الديمقراطية التّي كانت تدعو إليها الولايات المتحدة و من وراءها هذه الانظمة و نخبها السياسية و الفكرية ، و قد مهدّت لذلك منذ سنة 2004 من خلال عمليات تكوين شبانية لمدونيين و شباب عرب في مراكز بوبوفيتش “كانفاس” و مثيلاتها في صربيا و ما جاورها … و قد كانت حادثة الشاب البوعزيزي القطرة التي أفاضت الكأس و أشعلت نار الفتيل لانتفاضات شعبية هدفها الوحيد هو التخلص من طوق الاستبداد السياسي النظامي تأسسا لنهضة بنيوية في هذه المجتمعات .. اذ بدأت الثورة في تونس و انتهت بهروب الرئيس بن علي ، و امتدت لمصر فأسقطت آخر فراعنتها ، اشتعلت في اليمن فأبعدت صالحا و كانت جذرية و عنيفة في ليبيا بعد تدّخل الناتو … في حين قُمعت في المهد في كل من السعودية و البحرين ، و حاولت بعض الأنظمة السياسية امتصاصها و عزلها مثلما حدث في الجزائر و المغرب الأقصى .. و قد بدى جليا انتقائية الموقف الأمريكي تجاه هذه الانتفاضات وفقا لمصالحها و مصالح حلفائها ، كما بدى أيضا ذلك التنافس المحموم بين الولايات المتحدة التّي تحاول إحداث وضع جديد متحكم فيه لصالحها و بين قوى أخرى على رأسها روسا في المحافظة على وضع قائم يكفل مصالحها في المنطقة ، و بما أنّها خسرت وضعا مناسبا في ليبيا بشكل حاسم و مذّل على يدّ الناتو كذراع عسكري للولايات المتحدة فإنّها تأبى اليوم هزيمة مذّلة أخرى في معاقلها العربية الأخيرة سوريا ، و هنا سيتوقف مقالنا قليلا لمحاولة تكوين فهم “فوقوي” لما يحدث على الساحة السورية المشتعلة …

    2- سوريا و التنافس الروسي الأمريكي :

    كيف نفسّر ما يحدث على الساحة السورية من تنافس ؟

    لماذا كل هذا الدعم الروسي المستميت لنظام بشار الأسد في سوريا ؟

    هل ستفقد روسيا آخر قلاعها الحصينة في المشرق العربي ؟

    يرى البروفيسور سانتورو رئيس معهد الدراسات السياسية العالمية في ميلانو أن الإنسانية في وقتنا الحاضر تدخل مرحلة انتقالية من العالم الثنائي القطبين إلى الصيغة العالمية من تعدد الأقطاب، والتي تبدو –حسبه- أنها تعكس المنطق الهرم للجيوبوليتيكا الثنائية القطبين –أي التيلوروكراتيا في مواجهة التالاسوكراتيا- فبالرغم من سقوط الاتحاد السوفياتي، إلا أن العالم كله لا يزال يحمل الطابع الثابت للحرب الباردة والتي يبقى منطقها الجيوبوليتيكي مسيطرا… لذا فقد تنبأ الرجل بأنّ العالم سيشهد حروبا من المستوى الصغير و المتوسط ستؤدي إلى تشكّلات جيوبولتيكية جديدة .

    فهل ستكون سرويا ساحة لجرب جيوبوليتيكية جديدة بين الكبار ؟

    في الحقيقة لم نجد إلى الآن أحسن من الأنموذج القياسي الواقعي في تفسير ما يحدث من تفاعلات بين القوى الكبرى على الساحة السورية ، فبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها كتب جورج كينان سنة 1947 تقريرا للإدارة الأمريكية آنذاك يحاول فيه أن يرسم إستراتيجية متماسكة لمواجهة الحليف السوفياتي القديم و قد عرفت بإستراتيجية الإحتواء و هي فكرة جيوبولتيكية محضة تحثّ الولايات الأمريكية على التمركز في نقاط معينة من البر الأوراسي سواءً عبر قواعد عسكرية أو أحلاف مركزية أو أنظمة صديقة ، هدفها الأساسي محاصرة “قلب الأرض” الأوراسي و دفعه إلى الداخل ما أمكن تجنبا لتمدّده خارج حدوده السياسية تمهيدا لفكيكه من الداخل … تزامنا مع ذلك صدرت نظرية الواقعي الأمريكي نيكولاس سبيكمان عن حافة الأرض أو الإطار” the rim land ” حيث يشير إلى المناطق –الهلال- التي تحيط بقلب الأرض “الروسي” وتحفه، ولهذا سميت بالإطار أو حافة الأرض، والذي يضم كل من أوروبا البحرية “الغربية” والجزيرة العربية بما فيها العراق والهند وجنوب شرق آسيا ثم الصين وشرق سيبيريا، إنه بعبارة أخرى، الحدود البحرية للقارة الأوراسية من شرق سيبريا إلى غرب أوروبا .. وتمثل حافة الأرض “الريملاند” المجال المركب الذي يتسم من حيث الاحتمال بإمكانية أن يكون جزءا من التالاسوكراتيا –أي القوة البحرية- أو التيلوروكراتيا – أي القوة البرية- ، وهو المنطقة المعقدة والزاخرة بالثقافة، وتأثر البيئة البحرية “القوة البحرية” في المنطقة الساحلية فتثير فيها التطور الفعال والديناميكي، كما أن للكتلة القارية “التيلوروكراتيا” ضغوطا عليها، وصراع التالاسوكراتيا – الأطلسية الجديدة- والتيلوروكراتيا –روسيا الجديدة- ، على الريملاند ليس تنافسيا من أجل الاستحواذ على موقع استراتيجي عادي، وإنما على ما يعتبره سبيكمان مفتاح السيطرة العالمية، فحافة الأرض الأوراسية بالنسبة له أكثر أهمية من قلب الارض ” أو لنقل المساحة التي تسيطر عليها روسيا” و من يسيطر على حافة الأرض سيسيطر على قلب الارض و من يسيطر على قلب الارض سيحكم العالم … و أخيرا يعتبر سبيكمان أنّ الريملاند بمثابة منطقة حاجزة تفصل بين القوى المتصارعة البرية والبحرية، في زمن السلم، كما تعتبر منطقة التقاء و تصادم Crush Zone بين القوى البحرية والبرية في زمن الحرب …

    بناءً على ذلك فقد عملت روسيا منذ مجيء بوتن للسلطة على استدراك ما اعتبره الكثيرون خطأ القرن الإستراتيجي أي قرار غورباتشوف بحل الإتحاد السوفياتي ، فمنذ ذلك الوقت و روسيا تعاني أزمة جيوبوليتيكية تهدّد أمنها القومي بفعل الإمتداد الأطلسي إلى جوارها القريب ، لذا فالإستراتيجي بالنسبة لروسيا اليوم و الأكثر إلحاحا الآن هو الحرص على تحويل “الأراضي الساحلية” إلى حلفاء لها عبر التغلغل الاستراتيجي إلى هذه المناطق و إقامة أحلاف متينة في مواجهة السطوة و التمدّد الأطلسي الجديد … لذا ينبغي عليها التحرك شرقا و غربا لتحقيق هذا التكامل الأوراسي القاري فيصبح بذلك الريملاند ضرورة لروسيا لتصبح فعلا قوة جيوبوليتيكة قارية مستقلة ..

    لذا فقد حرص الروس على عدم التراجع أو التردّد في مواصلة هذه الإستراتيجية الكبرى و التّي تتطلب منهم امكانيات ضخمة لتفعيلها ن لذا أولت روسيا منذ مجيء بوتين اهتماما كبيرا بتحسين اقتصادها بدلا من تركيز كل الجهود في الصناعات الحربية الثقيلة و قد لاحظ الجميع تلك الديمقراطية الروسية “المضحكة” التي تقوم على تبادل الأدوار و تغيير الواجهة و حسب ، كل ذلك يهدف –في نظرنا- إلى استمرار خطة كبرى معينة أي استراتيجية واضحة في أذهان حكام الكريملين تهدف إلى استرجاع أمجاد روسيا القيصرية و الخروج بها من وضع الدفاع إلى وضع الهجوم لتأمين الأمن القومي الروسي البعيد …

    لقد كانت الحرب الجورجية الأخيرة –أوت 2008- مثالا جيدا لما يمكن أن يصل إليه التنافس الجيوبوليتيكي بين روسيا التيلوروكراتيا وأمريكا التالاسوكراتيا و قد كانت ساحتها هذه المرّة منطقة القوقاز، فالمشاريع الجيوبوليتيكية والإستراتيجية للقوتين بلغت حدًّا من التناقض والتضارب الذي يجعل القنوات الدبلوماسية والسياسية تقف عاجزة عن تجاوزه، ومع ضيق الزمن، وحساسية المصالح وتقلص الخيارات، تبرز الحرب كوسيلة حتمية ووحيدة لتجاوز هذا التناقض أو بلوغ تلك المصالح، هذا هو النوموس الذي خلده كلاوزفيتز في مقولته الشهيرة : ” الحرب هي إمتداد للسياسة بوسائل أخرى ” …

    لم تكن الحرب الجورجية هذه، مواجهة مباشرة بين المديان الكبيران، رغم ذلك تعد علامة فارقة وإحدى أهم خطوات الاتجاه نحو الانتصار الجيوبوليتيكي لأحد هذان المديان، فمنافستها المحمومة على القوقاز رشّح هذه المنطقة إلى مصاف المناطق الإرتطامية، وكانت جورجيا بذلك-في هذه المرحلة بالذات- بمثابة جسر المرور الأكيد والمجال الحتمي للمعركة الساخنة والباردة بين قطبي القوى والذي لا يمكن لأحدهما أن يصل إلى الآخر إلا بالمرور عبره والتباري في ملعبه .. و قد انتهت هذه الحرب بضربة موجعة وجهّها البر الأوراسي للتلاسوكراتيا الأمريكية و خرجت منها موسكو متنمّرة ، بل جرى الحديث آنذاك أنّ الحرب الجورجية الأخيرة كانت بداية لنهاية الأحادية الأمريكية و تمهيدا لنظام دولي متعدّد الأقطاب تحتل فيه روسيا العائدة مكانة الكبار .. و إذا كانت جورجيا قد احتلت قبل سنوات قليلة مركز التجاذب كمنطقة صدام في عُرف الجيوبوليتيكا فإنّنا نرّشح سوريا لتكون اليوم ساحة تجاذبات إقليمية و منطقة إرتطام جيوبوليتيكة بين المديان الجيوبوليتيكيان الكبيران .. إذ يرى سبيكمان في تحليله من أن مركز الدولة في إطار السياسة الدولية، لا يتوقف من الناحية الجيوبوليتيكية، على موقعها الثابت، وإنما يعتمد أيضا وإلى حد بعيد على علاقة هذا الموقع بمراكز القوى المؤثرة في السياسة الدولية، ولما كانت مراكز القوى هذه في حالة تغير لأسباب عديدة، فإن قيمة الموقع الجغرافي للدولة هو الآخر يتغير، ليس من الناحية الجغرافية، وإنما من حيث طبيعة التفاعلات السياسية، بعبارة أخرى أن التفاعلات السياسية وتغير مراكز القوى الدولية تؤثر على القيمة السياسية للموقع الجغرافي.

    و بهذا المفهوم فإنّ سوريا تُعّد اليوم وفقا للإستراتيجية الأمريكية جزءً حساسا من حافة الارض لمحاصرة روسيا من جهة الجنوب الغربي و الحيلولة بينها و بين المياه الدافئة لذا فإقامة أنظمة حليفة في مناطق حساسة كهذه –و التّي تمثل دفاعات متقدمة للأمن القومي الروسي- مطلب أمريكي ملّح .. إضافة إلى ذلك فإنّ سوريا اليوم تعّد دولة إرتكازية – pivotal states – على حدّ تعبير البروفيسور بول كينيدي في احدى مقالاته عن الإستراتيجية الأمريكية –إلى جانب جورجيا في القوقاز – لذا فأهمية المنطقتين بالنسبة للطرفين يجعل من المنطقتين بالمفهوم الجيوبوليتيكي منطقتي ارتطام …

    فلنأتي الآن لنملئ الفجوات .. في 2011 ألقى البروفيسور نيل فرغيسون أستاذ الدراسات التاريخية في جامعة هارفرد محاضرة في الشاتهام هاوس البريطاني تحت عنوان : ” الغرب و البقية ، تحولات ميزان القوى العالمي في المنظور التاريخي ” تحدّث فيها عن حقيقة الصعود الصيني و تزايد نفوذه الإقتصادي في إفريقيا و ما يشكله ذلك من تهديد لمصالح الغرب و الولايات المتحدة مستقبلا ، و كما هو معلوم فإنّ القوتين الصينية و الروسية تتحركان بشكل متوازي في الجهة المقابلة للتحرك الأمريكي لذا كان لزاما على الأمريكيين أن يبادروا بالتحرك قبل فوات الأوان ، و هنا نرجع إلى الفكرة السابقة للبروفيسور طارق رمضان حينما نربط هذا الحراك الشعبي و نضعه في قالب بنيوي دولي .. فبعد تحالف دام عقودا من الزمن ها هي الولايات المتحدة اليوم تعمل على فكّ هذا الإرتباط بينها و بين بعض الأنظمة العربية التّي رعتها لعقود و الذّي أصبح تواجدها اليوم مضّرا بالمصلحة الأمريكية في المنطقة لذا فإنّ عملية تحريك توازنات المنطقة و إعادة تشكيل خارطتها السياسية أصبح مطلبا لابّد منه و ذلك في منحى يساعدها على تقويض القوى الصاعدة في الشرق لاسيما الصين و كذا روسيا ايضا ، إذ لا يريد الأمريكيين استمرار العلاقات الطيبة بين قوى الشرق و خزان العالم المستقبلي في إفريقيا و مناطق ارتكازها و المناطق التّي يتغلغل منها نفوذ الأعداء المنافسين في الشرق “روسيا و الصين” لذا فتغيير الأنظمة في مناطق معينة سيساعد على كبح هذا النفوذ المتزايد لقوى الشرق قبل أن يستفحل هذا النفوذ … و قد تزامن ذلك مع احتقان الشارع العربي لذا رأت الولايات المتحدة فرصة مواتية في ذلك عليها أن تتخذ معها قرارها الحاسم فراحت تدّعم وتموّل ثورات و تقمع أخرى قد تنشب في مناطق حسّاسة تحميها أنظمة موالية و حليفة أي منطقة الخليج العربي عموما ، السعودية على وجه الخصوص … و بناءً على ذلك كان سقوط النظام السوري مطلبا أساسيا و ملّحا لكل من الولايات المتحدة الأمريكية و حلفاءها الخليجيين و خطا أمنيا دفاعيا متقدما و منفذا استراتيجيا هجوميا لكل من روسيا و الصين … فهل سيحدث في سوريا ما حدث في القوقاز ؟ هل ستندلع الحرب قريبا ؟ أمّ أنّ الوضع السوري أكثر تعقيدا و تداخلا ؟

    إنّ الإجابة على مثل هذا السؤال يحتاج منّا إلى ومضات نظرية ؟

    – إنّ الدول الكبرى لا تفكر في مدى قدرتها على شن الحرب و هزم العدو أكثر مما تفكر في تعبات هذه الحرب و تداعياتها …

    – الدول الكبرى توازن بين الأهداف و المصالح و بين نتائج السلوك السياسي أو قرار الحرب وفق مبدأ العقلانية -وإن كانت عقلانية جزئية كما اتفق على تسميتها باحثو العلاقات الدولية- …

    – الدول لا تتردد في الدخول في حروب لو رأت أن نتائجها الإيجابية البعيدة أفضل من النتائج السلبية البعيدة لقرار اللاحرب …

    – الدول لا تتوانى عن خوض الحروب إذا رأت أن أمنها القومي مهدّد و مفهوم الأمن القومي في الدراسات الأمنية لا يرتبط بالحدود الجغرافية للدولة و حسب كما هو معروف فلكل دولة أمنها القومي المتوافق مع نطاق تأثيرها و مصلحتها القومية …

    – و أخيرا الدول الكبرى لا تتوانى عن خوض ما يسميه روبيرت جيلبين بحروب الهيمنة إذا رأت أن الحرب ستمكنها من انتزاع شاهد الهيمنة من المهيمن فأدركت أن الوقت صار مناسبا وأنّ المهيمن يفقد توازنه و يتداعى .. إذ يرى جيلبين أن المحافظة على مكانة الدولة المهيمنة يتطلب منها مصاريف هائلة للدفاع عن مواقعها، الأمر الذي يتم على حساب النمو الاقتصادي، هذا ما يعني أن قانون نسب النمو المتفاوتة (الغير متكافئة) يلعب عاجلا أم أجلا في صالح القوى الثانية والتي إن قدرت إحداها أن هذا النظام لا يلعب في صالحها وأن الفائدة المنتظرة تكون عبر تغيير هذا الوضع القائم فإنها لن تتردد في منافستها للقوة المهيمنة الشيء الذي ينتج عنه ما يعرف بـحروب الهيمنة و هي كما يعرّفها بأنّها :”حرب لا تتمحور فقط حول محاولة تحقيق أهداف مباشرة بل لامتداداتها وتحدياتها ذلك أنها تمس كل الوحدات الدولية المكونة للنظام”.

    لذلك فإن حرب الهيمنة هذه هي عبارة عن حرب شاملة هدفها وضع أسس جديدة لنظام دولي جديد، “صراع الهيمنة الذي ينتج عن اختلال التوازن المتزايد بين ما تملكه الدولة المهيمنة من إمكانيات وبين ما يتطلب من إمكانيات من أجل الحفاظ على النظام، هذا ما يؤدي في النهاية إلى ميلاد نظام دولي جديد”.

    انطلاقا من هذه الومضات النظرية النيوواقعية يمكن القول أنّ الأزمة السورية بتعقيداتها الإقليمية تعّد ساحة حقيقية لانبثاق نظام دولي جديد ، فالولايات المتحدة تلعب اليوم دور المهيمن في حين تلعب كل من روسيا و الصين دور المتربص بتراجع هذا المهيمن ، فالخسائر الكبرى التي منيت بها الولايات المتحدة منذ إعلان مشروع القرن الأمريكي على أيدي المحافظين الجدد و الاضطرابات الإستراتيجية التّي أحدثها هؤلاء في غير الصالح الأمريكي جعل الولايات المتحدة اليوم في حالة اضطراب و تراجع نسبي ، و سمح في الوقت ذاته لكل من القوى الصاعدة أن تحاول إيجاد موطأ قدم مناسب لمكانتها الإقليمية أو الدولية ، فالتحالف الضمني بين روسيا و الصين تجاه الأزمات الدولية الكبرى سيصنفهما حتما للعب دور القوى المتربصة التي لن تتوانى في اختيار الوقت الحاسم لإحداث التغيير في بنية النظام الدولي بإعتبارها قوى تعديلية كما يصفها الواقعيون الهجوميون ، لكن كون الساحة السورية منطقة ارتطام جيوبوليتيكة كما قلنا لا يعني بالضرورة أن تكون ساحة لحرب مباشرة بين القوتين الكبيرين هناك فليس الأمر بهذه البساطة ، فمبدأ العقلانية كما أشرنا يقطع الطريق أمّام نشوب حرب مباشرة لا يمكن التنبؤ بتداعياتها ، فالواقعية لا تعني التهوّر كما يقول كيسنجر ، فمنطق الردع النووي أو حتى الردع التقليدي لا يسمح بالحرب المباشرة –منطق العقربين في زجاجة كما يصف كلوزفيتز-خاصة في منطقة حساسة جدا متشابكة الأزمات … إذن ما نتحدّث عنه هنا هو ما يسمى في أدبيات الدراسات الدولية بحروب الوكالة ..

    3- المستوى الاقليمي :

    في حالة ما إذا سقط النظام السوري – المتصدّع- :

    هل ستنضم سوريا إلى قائمة الدول الفاشلة ” failed states ” ؟

    و بالتالي هل ستتحوّل سوريا إلى مصدر للا أمن في المنطقة ، مصدرا مُصدّرا لمخاطر و تهديدات عديدة على دول الجوار ؟

    هل ستفقد إيران عمقها الإستراتيجي في المنطقة ؟

    هل سيحمل سقوط النظام السوري أولى بوادر الثورة الملوّنة الجديدة في إيران ؟

    أم سيكون ذلك عاملا مشجعا على التفكير الجدّي في حرب جديدة في المنطقة في مواجهة إيران بعد إحكام الطوق الإستراتيجي عليها ؟

    لا تزال منطقة “الشرق الأوسط” تعاني إلى اليوم من تبعات سقوط النظام العراقي بعد الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 ، إذ تحوّلت العراق إلى ساحة حقيقية لصراع مصالح إقليمي لعب فيه التأجيج الطائفي الديني المتعمد دورا فعّالا في كسب هذا الطرف أو خسارة ذاك نقاطا على حساب الآخر ، فبعد أن استعملت السعودية و دول الخليج نظام صدام حسين لجعل العراق بوابة متقدمة لحماية أمن المنطقة ممّا أسموه بالمدّ الشيعي الصفوي منذ الثورة الإسلامية الخمينية في إيران ، ها هي تصطف إلى جانب الولايات المتحدة سنة 2003 لإسقاط هذا النظام الذّي صار يشكل تهديدا مباشرا لمصالحهم لا يقل عن التهديد الإيراني و ذلك منذ اجتياحه للكويت سنة 1991 ، لكن ما لم يحسب له هؤلاء بمساهمتهم الفعالة في إسقاط نظام صدام حسين سنة 2003 هو تسليمهم لبوابتهم القديمة لعدوهم و منافسهم القريب إيران في طبق من ذهب فقد فتح سقوط النظام دولة العراق لتمارس فيها إيران نفوذها التّي لم تحلم به يوما ، لذا تطلّب ذلك من زعماء الخليج بذل مزيد من الإمكانات للإبقاء على نفوذهم هناك حمايةً لأمنهم الإقليمي ممّا حوّل العراق إلى ساحة لتجاذبات إقليمية بين القوتين مزقت حضارة بابل العريقة و حوّلت العراق إلى دولة فاشلة مصدّرة لمختلف المخاطر و التهديدات الامنية لكامل دول الجوار الإقليمي ..

    لا نعتقد أنّ عرب الخليج يتعلمون من دروس التاريخ أو لنقل أنّهم ينسونها بسرعة أو بعبارة أدّق فقد حسموا خيارهم الإستراتيجي منذ بناء أوّل قاعدة عسكرية أمريكية هناك ، و ها هم اليوم يجتهدون لإسقاط النظام السوري بنفس الطريقة التّي أسقطوا بها غريمهم الأوّل … إذ تشهد المنطقة اليوم مناخا شبيها بمناخ ما قبل سنة 2003 ، عمليات شيطنة لنظام الأسد ، دعم خصومه في الداخل ، فتاوى سياسية جاهزة تستبيح دماء الأسد و أعوانه ، تمهيدا لقرار الحسم الذّي يصطف فيه هؤلاء إلى جانب حليفهم الأمريكي لإسقاط النظام السوري بطريقة ما .. و إذا كان عرب الخليج لا يستنبطون من دروس التاريخ عبرا و فوائد فإنّ الأمريكيين أكثر حذرا من هؤلاء ، إذ سيعّد هؤلاء حتّى الألف قبل اتخاذ أي قرار رسمي بتدخل عسكري أطلسي في سوريا للأسباب التّي وضحناها نظريا و تطبيقيا في الفصل السابق .. لذا فعملية حصر البدائل و قياس نتائجها كما تطرحه مقاربات اتخاذ القرار في السياسية الخارجية تبدو عملية صعبة جدّا و معقدة بالنسبة للولايات المتحدة وإذا استبعدنا قرار التدخل المباشر كما حدث في ليبيا فإنّ عملية التفتيت من الداخل بأيدي غير أمريكية سيكون الأنسب و سيحمل الربيع العربي بشرى سارّة للسوريين ، و من هنا جاء خيار دعم المعارضة المسلحة في الداخل كأحسن بديل مطروح في هذه الآونة بعد أن مهّد له “الأصدقاء الخليجيين” بأموالهم و ألقوا بفتاوى شيوخهم وسط العامة من الشعب لذا ينبغي على أي متتبع حاذق أن يقرأ كلّ تأجيج طائفي عبر فتاوى السوء في هذه المرحلة بالذات من مسار الأزمة السورية بإعتباره ليس إلاّ امتدادا طبيعيا لصراع استراتيجي يحكمه عامل المصلحة بين قوتين إقليميتين في المنطقة “السعودية و إيران ” ، سيكون الدين إذن -قياسا على مقولة كلاوزفيتس الشهيرة- امتدادا طبيعيا للسياسة بوسائل أخرى … فكما ذكرنا أنّ سوريا ستتحوّل إلى ساحة تجاذبات إقليمية حادة و مسرحا لتحقيق الأفضلية الأمنية للأمن القومي المتقدم لكل القوى الأطراف المتنافسة سواءً دولية متمثلة في ” الولايات المتحدة و روسيا ” أو إقليمية ” السعودية و حلفاءها في مقابل إيران التّي ستجد نفسها معزولة إقليميا و هذا هو المقصد الأوّل من إسقاط النظام السوري … فهو-إقليميا- مجرد مرحلة تكتيكية لهدف إستراتيجي يستهدف إيران ، و هنا نعيد التذكير بتنافس إقليمي آخر مترابط بين الإيرانيين و الإسرائيليين ، الأولى كقوة إقليمية طامحة لاكتساب مزيد من القوة حسب تعبير جون ميرشايمر عن هدف الدولة ، و الثانية كقوة إقليمية تسعى بكل طريقة لحفظ البقاء حسب تعبير كينيث والتز “فبعد هدف البقاء قد تتعدّد أهداف الدول بأشكال متنوعة ” ، فسقوط النظام السوري سيفقد إيران عمقها الإستراتيجي في المنطقة و يجعلها دولة حبيسة من ناحيتها الجنوبية و يغلق قنوات الاتصال بينها و بين حليفها في جنوب لبنان حزب الله كحليف متقدم على تراب عدو إسرائيلي منافس و سيحوّل سوريا إلى دولة عازلة –لصالح إسرائيل- كالأردن تماما و هذا يتطلب جهودا حثيثة لبثّ الاستقرار ما أمكن في سوريا قبل أن تتحول إلى دولة فاشلة مصدرة لأشكال لا متناهية من المخاطر و التهديدات على الإسرائيليين ، إذا فرهان الولايات المتحدة و حلفاءها في المنطقة يدور حول ردّ الفعل الإيراني بعدما يجد الإيرانيون أنفسهم في وضع حرج معزولين ، قد يكون البديل العقلاني المتاح أمامهم هو إعادة التفكير الجدّي في مشروعهم النووي و الكف عن لعب دور الممانع الشرعي للشيطان الأكبر فيحفظوا لأنفسهم الاستقرار و لنظامهم التماسك … فهل سينحو الإيرانيون هذا المنحى في المستقبل القريب أم سيتمسكون بمطالبهم الشرعية النووية ليلعبوا وقتهم الأخيرة داخل التراب السوري طمعا في حفظ نفوذهم هناك كما فعلوها في العراق ؟ سيكون ذلك مرهونا بالخارطة السياسية التّي ستنبثق عنها الساحة السياسية ما بعد نظام الأسد الآيل إلى التصدع و السقوط …

    لن نغادر هذا المستوى التحليلي حتى نشير في عجالة إلى ثلاث قوى إقليمية تنامى تأثيرها في الآونة الأخيرة أو سيتنامى قريبا :

    الدور القطري عبر قناة الجزيرة الإعلامية كدور مكمّل و متكامل مع الدور السعودي ..

    النشاط غير المسبوق للسياسة الخارجية التركية تجاه المنطقة ..

    و أخيرا الدور الذّي ستلعبه مصر الجديدة ..

    لقد كان لكل من القوتين الأولى و الثانية تأثيرا متباينا على الأزمة في سوريا و على الحراك الشعبي الحاصل عموما منذ ثورة الياسمين في تونس ، إذ حاولت دولة قطر المجهرية أن تلعب دورا إقليميا كبيرا من خلال القوة الإعلامية التّي مثلتها قناة الجزيرة التّي بدى في الآونة الأخيرة بشكل لا يدع مجالا للشك أنّها أصبحت امتدادا طبيعيا للسياسة الخارجية القطرية ، فالموارد التّي تملكها هذه الدولة في حجمها الصغير و حسن استغلال هذه الموارد سمح لها بأن تكون طرفا فاعلا في القضايا الإقليمية ، و إذا كانت توّجهات سياستها الخارجية تصب في نفس الاتجاه السعودي على العموم إلاّ أنّها في الحقيقة تسعى للعب دور منافس للسعوديين في مجلس التعاون الخليجي ، كما أنّها تبدو أقل معارضة و أكثر حماسة للصعود الإخواني الإسلامي في العالم العربي أكثر من السعودية مركز السلفية و الوهابيين الحامي الداخلي للنظام السعودي و الذّي يمنحه شرعية البقاء … و هنا تتقاطع كل من قطر و تركيا ، فلا شك أنّ تراجع التيارات السلفية في العالم العربي لصالح غريمها الاسلامي الأوّل الإخوان المسلمين سيضعف التأثير السعودي على المنطقة لصالح التأثير التركي- القطري ، ما يهمنا هنا هو أثر هذا التنافس و تقاطع المصالح على ما يحدث في سوريا اليوم فإن التقى الجميع حول ضرورة رحيل نظام الأسد فسوف يختلفون عن طبيعة البديل وولاءاته و اتجاهاته الخارجية و إن كان الجميع يعمل لقطع الطريق أمام إيران في سوريا فإنّهم سيتنافسون لأجل تشكيل الخارطة السياسية الجديدة التّي سينبثق عنها سقوط النظام السوري القائم ..

    أمّا بخصوص مصر الجديدة بقيادة الإخوان المسلمين فلا شكّ أنّ الموقع الجيوستراتيجي لمصر سيدفعها –بغض النظر عمن يحكمها- إلى لعب دور ما في القضايا الإقليمية العالقة ، و إن كانت القيادة الجديدة ستحاول الحفاظ على شيء من الإستقرار مع محيطها الإقليمي و كذا في علاقتها مع الولايات المتحدة حتّى تتمكن مصر أن تتعافى داخليا قبل أن تجازف بأي دور إقليمي قد يجلب عليها المتاعب في هذه الآونة الحرجة ، فإنّنا لا نستبعد أن يكون لمصر الجديدة دور فعّال في معادلة التنافس الإقليمي ، لذا فإنّ المنطقة ستشهد تغيّر في ميزانها الإستراتيجي ببزوغ خمسة قوى إقليمية مؤثرة لن يساوم أي منها على مكانته المستحقة في خارطة الغد : السعودية ، إسرائيل ، مصر ، إيران و تركيا ، لذا بإمكان مصر الجديدة أن تلعب الدور الذي لعبته بريطانيا في حقبة ما من تاريخ أوروبا لتكون حاملة الميزان الإستراتيجي في المنطقة ، كما بإمكانها أيضا أن ترّجح كفة هذا الطرف أو ذاك بشكل حاسم في حالة ما إذا حسمت خيارها الإستراتيجي مستقبلا ..

    4- الرهان السوري ..

    بديلا عن الخاتمة :

    لا يمكن بأي حال من الأحوال فهم ما يجري داخل كرة البيلياردو السورية دون الاستناد إلى كل ما ورد سابقا ، و مع الانفلات الأمني الذّي يشهده الداخل السوري اليوم و فقدان النظام السوري شرعيته لدى أغلب الأوساط باعتباره المسؤول الأوّل عمّا أوصل سوريا إلى هذا الوضع كونه نظام سياسي مغلق يتغذى على القهر و يعيش على الاستبداد السياسي فقد أصبح الكل يحاول ركوب انتفاضة السوريين كل حسب مصالحه الأمر الذّي أغرق سوريا في الدماء ممّا أعاد إلى الأذهان السؤال الذّي كان يطرحه الجزائريون أثناء العشرية السوداء “من يقتل من ؟” ، إلا أنّ الوضع هناك أكثر تعقيدا و تداخلا ، فلا يكفي تسليط الضوء على القشرة الصلبة لكرة البلياردو و لا على بنية النظام الدولي و تعقيدات المصالح الإقليمية لتكوين فهم متكامل إذ علينا فهم التركيبة الإثنية بكل ما يحمله هذا المصطلح من معنى واسع –جميع خطوط الاختلاف و الانقسام البشري- حتّى نفهم التركيبة المابين ذاتانية في سوريا… نخشى أن تتحوّل اللعبة في سوريا إلى لعبة صفرية فمكاسب طرف لن تكون إلاّ مغرما للطرف المنافس … لذا فالحلول التوفيقية ستكون صعبة جدا لكنها الحل الوحيد لتلاشي حرب مقبلة لو اشتعلت ستغيّر وجه المنطقة و لا أحد بإمكانه أن يتنبأ بانعكاساتها على بنية النظام الدولي في حالة تداعيها و انفلاتها فقد تفتح ملفات اخرى بين المتنافسين الدوليين و الإقليميين إما تحجيما للأزمة قبل تحولها لحرب ضروس أو ابتزازا و محاولة للحصول على مكاسب من جهة اخرى بين هؤلاء المتنافسين …

    لذا ينبغي على النخبة السورية الجديدة التّي سترسم مشهد الحياة السياسية هناك أن تكون واعية لهذه التحديات و أن تسعى جاهدة لتكون عاملا مستقلا في المعادلة لا عاملا تابعا فيها تتجاذبه التيارات الإقليمية و الدولية لتجعله يصطف هنا أو هناك ، ينبغي على شرفاء سوريا أو يغتنموا محورية دولتهم و مكانتها الإقليمية و محلها من التنافس الدولي القائم ليستثمروا في ذلك لمصلحة دولتهم بشيء من البراغماتية الحميدة بدلا أن يحوّلوا سوريا إلى ساحة لتصفية حسابات إقليمية و تحقيق مصالح دولية لن يكون لسوريا أي نصيب منها على المدى البعيد ..

    المراجع المعتمدة :

    1- دوغين ألكسندر، أسس الجيوبوليتيكا، مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، ترجمة: عماد حاتم، دار الكتاب الجديدة المتحدة، الطبعة الأولى 2004 ، بيروت-لبنان .

    2- فهمي عبد القادر محمد، المدخل إلى دراسة الإستراتيجية، دار مجدلاوي، الطبعة الأولى 2006، عمان-الأردن.

    3- صافي عدنان، الجغرافيا السياسية بين الماضي والحاضر، مركز الكتاب الأكاديمي، الطبعة الأولى أوت 1999، عمان-الأردن.

    4- الذيب محمد محمود إبراهيم، الجغرافية السياسية، منظور معاصر، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة السادسة 2005، القاهرة-مصر.

    5- مصباح عامر، الاتجاهات النظرية في تحليل العلاقات الدولية، ديوان المطبوعات الجامعية، الطبعة الأولى 2006، الجزائر.

    6- نيل فرغيسون ، الغرب و البقية تحولات ميزان القوى العالمي في المنظور التاريخي ، ترجمة جلال خشيب ، موقعنا الخاص : http://philopoliticsbridges.yolasite.com

    7- جلال خشيب ، فلسفة الإستراتيجية الأمريكية ، مجلة الفكر الحر الإلكترونية، العدد 110 .

    8- مناظرة بين البروفيسور طارق رمضان و السيد سرجيا بوبوفيتش مدير مركز العمل غير العنيف و الإستراتيجيات التطبيقية في صربيا “كانفاس” . http://www.youtube.com/watch?v=wG5s62aV370&feature=share

    9- Russia in the Islamic World , Sergey Markedonov , national interst , June 27, 2012 http://nationalinterest.org/commentary/russia-the-islamic-world-7126

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى