صفحات العالم

المعركة على الدولة لا الكيانات/ سليمان تقي الدين

ظهرت مؤخراً في صحف غربية عدة خرائط لتقسيم دول المنطقة على أساس الإثنيات والطوائف. وصف احد المعلّقين تلك الخرائط «بحدود الدم». الفكرة قديمة لأكثر من نصف قرن، تصعد وتهبط مع الأزمات السياسية الكبرى. لا أحد يشرح لنا من هي الجهات أو الأطراف الدولية التي تريد التقسيم والجماعات التي تسعى إليه. حيث هناك حروب أهلية تكون الفرضيات غير ناتجة من فراغ. لكن حيث هناك دول مستقرة أو متماسكة لا نفهم مغزى الحديث عن تقسيم يطاولها، من بينها مصر والمملكة العربية السعودية.

الجميع في المنطقة يتحدث عن رغبة إسرائيل في ذلك، لكن لا أحد يبيّن حاجة الآخرين ومصلحتهم. المرجعية الحديثة لهذا المشروع تنسب إلى الصراع السني الشيعي، ليس فقط بين المجموعتين الطائفيتين بل بين دول لها هذه الهوية، كإيران والعرب، أو إيران وتركيا. للمناسبة إيران وتركيا دولتان متعددتا القوميات والإثنيات والطوائف. تتفق هاتان الدولتان على دعم الإسلام السياسي عموماً وتختلفان في تفاصيل موضعية.

كان صعود الإسلام السياسي في مصر وتونس حدثاً صادماً للأقليات فضلاً عن التيارات المدنية، يمكن ان يفتح نزاعاً حقيقاً. انهار الإسلام السياسي في السلطة ولا نعرف من الجهة التي تحفز أو تشجع الآخرين على الانكماش أو الرغبة في الانفصال عن دولة ذات طابع ديني حصري؟. المسألة السورية الملتهبة الآن والوضع العراقي النزاعي الدموي يمثلان حالة نموذجية للتفكير. بعد عشر سنوات من الأزمة العراقية والصراع الطائفي لا توجد قوى تعلن عن مشروعها في التقسيم. أما سوريا فالمجتمع الأكثر تعددية لا زالت معطياته تؤكد ابتعاد فكرة التقسيم. لا الأقلية الطائفية راغبة في الانكفاء عن انتشارها ونمو وجودها في النسيج الوطني، ولا الأغلبية أصبحت في حال من القطع مع ما يمكن وصفه بامتيازات الأقلية السلطوية. لبنان الذي كان أكثر نماذج الحروب الأهلية لم يقسم برغم احتلاله وانهيار دولته.

تبدو «فكرة التقسيم» أقرب إلى التهويل من كونها مشروعاً. بل ربما هي صدرت عن عقل غربي يستهين بتطور الشعوب العربية وقدرتها على ممارسة الحرية. ينكر علينا العقل الاستعلائي الاستعماري، كما ينكر علينا الاستبداد نفسه القدرة على القيام بثورة حقيقية وبناء دول حديثة مستقرة ومستقلة. في خلفية هذا التفكير تراث من الحديث عن الطريق الخاص لتطور الشرق وعن مجتمعات طوائفية متلازمة مع الاستبداد.

مشاريع التقسيم التي ترافقت مع انهيار الامبراطورية العثمانية تجاوزتها الوطنيات العربية. كانت هناك رغبات لدى بعض القوى والجماعات بكيانات طائفية ولم تكن هي المسيطرة داخل هذه الجماعات. قد نكون أمام تيارات مشابهة اليوم لكن لا أرجحية لها في أي مكان. أما الغرب فهو لا شك من موقع نظرته الاستعلائية السياسية والثقافية سعى ويسعى إلى مقاومة الاندماج الاجتماعي وقيام الدول القوية. أول بوادر هجومه على المنطقة فكك الجيش العراقي كضامن لوحدة الدولة. لم يكن هدفه التأثير بطبيعة الكيان بل هدفه إضعاف الدولة.

ليس هدف الغرب في سوريا تقسيم الكيان بل تجويف الدولة. يستطيع الغرب ذلك بواسطتنا نحن لا بواسطة التحريض أو التدخل المباشر. يستطيع ذلك كلما كانت الدول ضعيفة في شرعيتها أو كانت عاجزة أو فاشلة في أن تكون مرجعية الاجتماع السياسي. أزمة المجتمعات العربية انها استهلكت وتستهلك أديولوجيات شمولية بينما فشلت في بناء الدولة. ما هو إيجابي وحاسم في الثورات العربية أنها تجاوزت رومنسية القومية العربية، وتتجاوز الآن مشروع الإسلام السياسي الذي يحلّق فوق المشكلات السياسية والاجتماعية الفعلية. استنفدت الهويات الكبرى طاقاتها على الحياة وتستنفد الهويات الفرعية أدوارها كذلك. لم تنطلق الثورات العربية أبداً من ركيزة الهوية بل من حاجات اجتماعية وسياسية ضاغطة ومتفجرة. لذلك لم تصمد حركات الإسلام السياسي حين صعدت إلى السلطة حيث لم تقدم الأجوبة الواقعية بل قدمت أجوبة «ما ورائية» ذات نتائج سالبة للحرية وتسلطية على المجتمع.

حين نتفاءل بمصر وبتونس، أو حين لا نبالغ كغيرنا في التركيز على الوجه السلبي من كل الحراك العربي، فلأننا نرى أن عنف الجماعات الإسلامية على خطورته هو ظاهرة طارئة على المشهد العربي. دوي العنف والسلاح والإرهاب أقوى بكثير من الإنجاز السياسي المدني السلمي. في معظم الظروف العربية هذا العنف المسلح يتبع مداخلات الدول وتمويلها وتنظيمها. لا حركات مسلحة بهذا الحجم إلا وخلفها قوى كبرى ودول. هذه الدول لا تريد ان تنجح الشعوب العربية في إنجاز ثورات نظيفة وتتجه إلى مهمة بناء الدولة الحديثة. هي نفسها تغذي العنف والتوترات بين الجماعات الإثنية والطائفية. الإثنيات والطوائف يراد لها أن تقاوم مشروع الدولة لا أن تقيم دولاً مستقلة ذات مضمون حديث. الصراع الدائر في المنطقة هو صراع سياسي بين التقدم والاستقلال والتنمية والديموقراطية، وبين التأخر والتبعية والاستبداد. ولأن المنظومة الثانية لها داخل وخارج لا تتوقف عن استخدام العنف، عنف السيطرة الخارجية وعنف الاستبداد. تتحاور القوى الخارجية وتتصالح حين تتقارب مصالحها أسرع بكثير من القوى المحلية المتمسكة بأفكارها وإيديولوجياتها، وبإرث النزاعات والأحقاد.

الشعوب لا تحمل مشاريع للتقسيم بل تحمل مشاريع للتغيير. معظم دول العالم نشأت على توازنات دولية وكذلك تقسيم الدول. حتى هذه اللحظة لا زلنا في مرحلة تقاسم النفوذ، ولم ندخل مرحلة تقسيم الدول. أما الشعوب فمطلبها الحرية والتقدم، فإذا هي فشلت بذلك تنقسم فيقتسم تبعيتها الخارج.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى