صفحات العالم

المعركة على سورية تتجه نحو مرحلة من كسر العظم

 

د. بشير موسى نافع

خطا الإئتلاف الوطني السوري الخطوة الأكبر منذ تأسيسه عندما قرر الذهاب إلى تشكيل حكومة مؤقتة، وانتخب رئيساً لها في اجتماع ماراثوني لمجلس قيادة الإئتلاف، لم ينته إلا فجر 19 آذار/مارس.

وفي المقابل، اتخذ النظام العربي الرسمي، بضغط من قطر والدول العربية الأخرى المؤيدة للثورة السورية، قراراً هائلاً، عندما منح مقعد سورية في القمة وفي الجامعة العربية للإئتلاف الوطني. بذلك، تكون حدود المعركة على سورية قد رسمت بصورة واضحة وقاطعة، وقد لا يكون ثمة رجعة فيها. دبلوماسية المماطلة وتجاهل آمال السوريين، التي قادتها روسيا وإيران، في محاولة للتوصل إلى حل تفاوضي، يحافظ على بقاء الأسد في قمة نظام الحكم، هي المسؤول الرئيس عن هذا التطور. لم تعد ثمة مراهنة ذات جدوى على تجنيب سورية، وعاصمتها الخالدة، دمشق، المزيد من الموت والدمار. ما تبقى أن تحاول الأطراف المعنية، من الحريصين على سورية وشعبها، جهدها لأن تكون المرحلة المقبلة أقل وطأة ورعباً وأقصر ما يمكن أن تكون.

لم تكن قيادة الإئتلاف موحدة حول فكرة تشكيل حكومة مؤقتة لإدارة المناطق المحررة، وهي مناطق واسعة وتزداد اتساعاً بمرور الأيام، بلا شك، وتتطلب عملاً شاقاً ومسؤولاً لمقابلة حاجات الناس فيها. ولكن قيادة الإئتلاف، الذي يمثل المظلة الأوسع للمعارضة السورية وقوى الثورة، نظرت في أغلبها إلى المسألة من زاوية المآلات السياسية المحتملة، قبل النظر إلى حاجات الناس الملحة. ففي حين جادل البعض بأن الواجب يحتم على الإئتلاف تشكيل الحكومة وتحمل مسؤولية رعاية الشعب والاستجابة لمتطلباته، مهما كانت المخاطر المحيقة بمثل هكذا حكومة، جادل آخرون بأن ثمة فرصة وإن كانت ضئيلة لم تزل متبقية لتحقيق أهداف الثورة بالتفاوض. ولأن تشكيل حكومة مؤقتة يعني بالضرورة وجود حكومتين تتصارعان الشرعية على أرض سورية، فإن الحكومة الجديدة ستصبح حجر عثرة أمام عملية انتقال منظمة للحكم. لم تكن هناك أوهام ما، بالرغم من دعوة رئيس الإئتلاف، معاذ الخطيب، للحوار بين المعارضة والنظام، بأن الرئيس الأسد سيرى حقائق الواقع ويفاوض على التنحي وانتقال السلطة، حفاظاً على ما تبقى من سورية وأهلها. منذ انطلاق الثورة في سورية قبل أكثر من عامين، لم يظهر الأسد ولو مرة واحدة من مؤشر واحد على الإنصات لإرادة الشعب ومطالبه. ما كان ينتظره دعاة التفاوض أن يدرك حلفاء النظام الرئيسيون، سيما في طهران وموسكو، أن ليس هناك من سبيل لبقاء الأسد في موقعه، وأن الشعب السوري لن يقبل، بأي حال من الأحوال، العودة بسورية إلى ما كانت عليه. ولكن لا الروس ولا الإيرانيين أظهروا طوال شهور من الاتصالات ما يعزز موقف دعاة التفاوض.

راهن الروس والإيرانيون، كما راهن النظام منذ اليوم الأول للثورة، على أن مرور الوقت سيؤدي إلى إضعاف قوى الثورة وعزلتها، إقليمياً ودولياً، بفعل تصاعد نفوذ وتأثير الجماعات الإسلامية المتطرفة ومخاوف القوى الدولية والإقليمية المؤيدة للثورة من تحول سورية إلى مركز لهذه الجماعات. خلال الشهور القليلة الماضية، سيما بعد قيام وشنطن بإعلان جبهة النصرة منظمة إرهابية في كانون أول/ديسمبر الماضي، اعتبرت موسكو أن إدارة أوباما تقترب من الرؤية الروسية للحل. المشكلة في المقاربة الروسية للأزمة السورية من البداية أن موسكو ظلت مسكونة بعقلية الحرب الباردة، وأن مستقبل سورية سيتقرر على طاولة المساومة مع الأميركيين. لم يأخذ الروس الشعب السوري في الأعتبار ولو للحظة واحدة طوال العامين الماضيين.

من جهة أخرى، لم يعد من الممكن فهم الموقف الإيراني بدون تقدير دوافعه الطائفية، إلى جانب الدوافع الاستراتيجية الإقليمية؛ ومثل هذه الدوافع تنحو عادة إلى التسلح بقليل من العقل والكثير من الشعور بالحق والصواب.

في النهاية، أصبح الإئتلاف في مواجهة حقائق واقع لم يعد من الممكن تجاهلها: حاجات الناس ومطالبهم، ضرورات حيازة التمثيل الشرعي لسورية والشعب السوري، اليأس من خيار تفاوضي يلبي أهداف الثورة في التغيير وانتقال السلطة، وأخيراً، تعزيز موقع المعارضة وقوى الثورة في توازنات القوى مع النظام. ولكن انتخاب غسان هيتو، التكنوقراط ذي التعليم السوري والأميركي، المولود في دمشق من أصول كردية، لم يكن بدون صعوبات. لا ينتمي هيتو لأي جماعة سياسية، وهو بالتأكيد ليس محسوباً على الإخوان المسلمين، كما أشيع. وفي مواجهة مرشح رئيسي آخر، عمل سابقاً محافظاً لحماة في مطلع عقد الثمانينات من القرن الماضي، وتحيط به شبهات المشاركة في الهجمة التدميرية التي تعرضت لها المدينة، كما عمل أيضاً وزيراً للزراعة واعتبر لفترة ما من رجال حافظ الأسد، أصبح تاريخ هيتو النظيف من أية انتماءات سياسية ورقة قوته الرئيسية. فاز هيتو بفارق كبير من أصوات أعضاء المجلس القيادي للإئتلاف؛ ولكن المشكلة أن جلسة الإئتلاف بشأن الحكومة ورئيسها عقدت أصلاً على فرضية أن قراراً لن يؤخذ بدون توافق الأغلبية العظمى من أعضاء المجلس وقواه. فوز هيتو في منافسة انتخابية تقليدية، بعد أن تعذر التوافق، وذهاب معظم أصوات الكتلة الإسلامية في مجلس قيادة الإئتلاف لصالحه، أغضب بعض أعضاء المجلس، وأثار ردود فعل سعودية غير مرحبة.

للغاضبين من مجلس الإئتلاف القيادي، بدا الأمر وكأن الكتلة الإسلامية باتت مركز الثقل الأكبر وصاحب القرار؛ وهو الوضع الذي صنع الإئتلاف أصلاً، بديلاً عن المجلس الوطني، لتفاديه.

أما السعودية، فقد تصورت أن هيتو لم يأت بأصوات الإسلاميين وحسب، بل وبتأثير تركي وقطري، وبدون أخذ الرأي السعودي في الحسبان. بصورة عامة، ولأن هذا موسم التخويف من الإسلاميين، والحرب على حكوماتهم في مصر وتونس، فإن كل هجوم على الإسلاميين في الساحة السورية، سواء جبهة نصرة كانوا أو إخواناً مسلمين، هو استثمار مجد في المستقبل. وخلال ساعات من انتخاب هيتو، فتحت وسائل الإعلام العربية المقربة من العربية السعودية شاشاتها وصفحات صحفها للتشكيك في عملية الانتخاب وجدارة الفائز. هذا، وهيتو لم يشكل حكومته بعد، ولم يتعرض لاختبار واحد، يتعلق بقدرته على التعامل مع الظرف بالغ الصعوبة، وغير المسبوق، الذي يفترض أن يعمل في ظله. هيتو، بالطبع ليس صنيعة تركيا أو قطر، ولا هو صنيعة الإسلاميين في الإئتلاف، والآخرون لا يتحكمون في أغلبية أصوات مجلس الإئتلاف القيادي، وسيكون من الظلم تحميل الرجل، قبل أن تتوفر معطيات جادة وملموسة حول قدرته على التصدي للمهمة الملقاة على عاتقه، وزر تصويت الإسلاميين له. ولكن الذهاب لخيار الحكومة المؤقتة، وانتخاب رئيس لهذه الحكومة، يحمل دلالات أكبر من ردود فعل العدد القليل من أعضاء مجلس الإئتلاف القيادي، ورد فعل العربية السعودية، التي تعتبر الآن أحد الشركاء الثلاثة الرئيسيين في دعم الثورة السورية.

في أحد وجوهه، يمثل خيار الحكومة المؤقتة نهاية الطريق للمقاربة التي تبنتها كل من روسيا وإيران، والتي تقوم على إطلاق حوار بين المعارضة والنظام يفضي إلى تسوية سياسية، تؤمن موقع بشار الأسد على رأس نظام الحكم، وإن بصلاحيات مقلصة نسبياً. تأسيس حكومة مؤقتة، تأخذ من الأراضي السورية مقراً لها (الأمر الذي أكدته مصادر المعارضة)، يعني أن الإئتلاف لا ينازع النظام الشرعية في المحافل السياسة العربية والدولية وحسب، بل وعلى الأرض السورية كذلك. وقد تعزز موقف الإئتلاف بعد أيام قليلة من انتخاب هيتو، عندما دعا مؤتمر القمة العربية المنعقد في العاصمة القطرية الدوحة (28 آذار/مارس) قيادة الإئتلاف لاحتلال مقعد سورية في القمة وفي الجامعة العربية. صحيح أن دولاً عربية عارضت هذه الخطوة، وأن دولاً أخرى سترفض منح الإئتلاف صفة تمثيل سورية الدبلوماسي على أراضيها، ولكن الأغلبية العربية دعمت قرار القمة ورحبت بقيادة الإئتلاف في جلسات المؤتمر. كلا التطورين: انتخاب هيتو وتسلم قيادة الإئتلاف مقعد سورية في الجامعة، استدعا استنكاراً وتنديداً روسياً وإيرانياً صريحاً وحاداً. بتصاعد صراع الشرعيات إلى هذا المستوى، أدركت موسكو وطهران أن الحل الذي راهنتا عليه قد وصل إلى نهاية الطريق، وأن عليهما الآن أما الابتعاد عن النظام وتركه لمصيره المحتوم، أو الكشف عن كافة الأوراق والاندفاع نحو مزيد من التورط في الأزمة، وتقديم دعم إضافي لمساعدة النظام على الاستمرار في الحرب ضد شعبه، مهما كانت ردود الفعل.

الأرجح، أن الدولتين، وبطريقتين مختلفتين، ستذهبان إلى الخيار الثاني. كلتا الدولتين باتت متيقنة من عجز النظام عن البقاء؛ ولكن مخاوف الدولتين، من جهة، وأهدافاً حيوية لهما، إقليمية ودولية، تتطلب إطالة زمن الحرب والأزمة. ما دام هناك من يدفع ثمن السلاح، ستواصل روسيا مد النظام بحاجاته العسكرية الملحة. أما إيران، فلن تقدم المزيد من السلاح وحسب، ولكن الأرجح أنها ستعزز جهودها التي تستهدف تنظيم ميليشيات طائفية في سورية، لن يقتصر دورها على الدفاع عن النظام، بل وربما القيام بأدوار أخرى بعد سقوط النظام في دمشق. وإن كانت مواقع معينة في سورية، سواء في دمشق وريفها، أو في منطقة الحدود مع لبنان، قد شهدت وجود عناصر لبنانية وغير لبنانية تقاتل إلى جانب النظام، فإن تورط مثل هذه العناصر قد يزداد.

من جهة أخرى، وبالرغم من أن من غير الواضح ما إن كان الإئتلاف سيتمكن من احتواء مخاوف السعودية من انتخاب هيتو، فقد أصبح واضحاً أمام الدول العربية التي تقف إلى جانب الثوار السوريين، وأمام تركيا كذلك، أن عليها أن تخطو خطوات إضافية من أجل تعزيز موقف الثورة وقواها المسلحة. شيئاً فشيئاً تتضاءل حظوظ المراهنة على انسحاب عقلاني للنظام ومؤيديه من ساحة المعركة، بعد أن اشتعلت سورية بأكملها تحت أقدام قواته وميليشياته وأجهزة أمنه؛ وتأخذ المواجهة صورة الحرب النهائية.

‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى