المكتبة المحرّمة/ عروة المقداد
طاردتني حِكاياتُ أبي عن النضال والحراكِ الشعبيِّ أواخرَ الستينات، توارت تلك القصص في رفوفِ مكتبةٍ ضخمة، كانت فزّاعةَ شؤمٍ بمجلداتٍ ينضوي التاريخُ فيها على شكل طلاسمَ غيرِ مفهومةٍ. كُنت أقفُ أمام المكتبة بدهشةٍ ورهبة ظاناً أنها ستبلعني فيما لو تسلّلت لسرقة أحد الكتب، وأن الشخصياتِ والرسومَ والأسماءَ متواطئةٌ مع قسوةِ والدي، حين وقف ذات مرّةٍ أمام المكتبة ملوحاً بإصبعه: “بدّك تصير مُثقف يا فاشل!” لم تَعد الثقافةُ مهِمةً آن ذاك، فالمستقبل وظيفةٌ سَتُنجينا من فقرٍ نُشر كتعويذة سباتٍ على ذُرى البيوت، وفي الأزقة والشوارع والحواري.
لم أعرف يوماً لمَ كانت المكتبة أرضاً محرّمة، عَوّذها أبي بحكايات الدراسة تحت ضوء الشمعة، والحصيدة* طِيلة اثنتي عشرة ساعةً في أيام القيظ الحارة، وبطولات نقل أكياس القشّ على ظهره التي دفن فيها أوزار النكبة والنكسة وجميعَ الهزائم التي أورثها إيِّاه جدي وجدتي بعد أن جفّت الأرض في سنين عِجاف أصبحت فاصلاً زمنياً للتأريخ؛ ما قَبل السنوات العِجاف.
آمن والدي بالاشتراكية وحزب البعث لينجو من شَرك الشيوعية، ولتغلَّ الأرضُ العَجفاء وتندى السماء السقيمة، شُطب اسمه من بعثات الدراسة في فرنسا، لأنه لم يكن حزبياً، فلَعنها طيلة أربعين سنة كما اعتاد رجال القرية المسنين أن يلعنوها: “لعنة الله عـَ الشيوعيين والاشتراكيين، طلّعونا لا دنيا ولا آخرة”. ولم يكن ثمّة خيارٌ أمامه سوى إنشاء مكتبةٍ ضخمة تظلُّ شاهداً على خيباته، والذهاب لكلّية الشرطة ليمارس القمع على أبنائه طيلةَ العشرين سنةً القادمة، كما يفعل جميع الآباء عندما تنكسرُ أحلامهم، فيكسرون أبناءهم.
لم أكن كوالدي الشاب “الجغل” ومتحدّث المضائف ووجيه عائلته، كُنت من أبناء جيلٍ ممسوخ يُطلق علينا “الطنطات”. ملامح الخمسينيات والستينيات بَقيت راسخة: الشاب الطويل، عريض المنكبين، جهوري الصوت، لم يكن آنذاك يسلُب لبَّ فتاةٍ فقط، بل كان يأسر المتحدّثين في المضائف والاجتماعات وأمام الكاميرات. الجميع في ذلك الوقت كان بحاجة “فارس أحلام” أو “سوبرمان” من نوع آخر، ولم نكن كذلك قط، كُنا هزيلين بملامح غريبة. قططٌ مرعوبة تكفلت الطرقات برسم البثور والحبوب على وجوهنا، لنبدو كأنّنا خارجين للتو من فرنٍ “قُمّر” فيه نصف الوجه وتُرك النصف الآخر طرياً مُمتلئاً بالفقاقيع.
لم نكن جميلين، ولم يكن المسرح والفنون والهندسة والطب ما يغوينا، كُنا نعاني بشكلٍ جماعيٍّ من حفظ جدول الضرب وقواعد النحو، فلم تُتَح لنا “البلاغة” وكتابة الشعر، نحنُ جيل خريجي المعاهد المتوسطة، والفندقية، والصناعية وأنصاف الشهادات: (شهادة التاسع والبكالوريا). تَكفلتِ الشوارع بتربيتنا، فأنشأنا عصاباتٍ صغيرةً تهرب من جحيم المنازل المحشوة خيباتٍ وانكساراتٍ وذلٍ تجرّعناه من أفواهنا كلَّ صباح، صعاليكَ نهيمُ في زمنٍ قادم من جحيمٍ، تحكمه عصابات الأمن والشرطة والمخدرات. مات والدي قبل بداية الثورة بزمن طويل، ووَرثتُ عنه المكتبة التي بقيت أرضاً محرمةً تَتربعُ فيها أُمهات كتبٍ شكّلت ثقافة جيلٍ مِمّن ظن أنهُ يَمتلكُ ناصية قيمٍ تُتناوب على فرزك: موهوب، ذكي، مميز… كانوا يتسابقون لهضم ثقافات “الآخر”، قبل أن يستطيعوا هضم أنفُسِهم أو هضم أولادهم.
أكثر من عشرين رفسةً تَلقيّتُها على وجهي في جلسة تحقيقٍ، أُدخلت فيها إلى “أبو حيدر”، أشهرٍ شاعرٍ وفيلسوف ومحقّق في مطار المزة، مرفقاً بعبارة: مثقف! ثَبّتَ رأسي إلى الأرض، وانهال بحذائه على فمي، فانرشم المكان ببقع الدم، وكغراب مصروع أمسكني من خصل شعري اللزجة، وسألني مبتسماً: هل تعرف لماذا سمّي كتابَ الأغاني؟ وفاض نزيف الدم المتخثرُ فيّ، نبع من أسفل معدتي وخرج حاراً كثيفاً، فرمى برأسي بطريقة مسرحية: “أهاج هواك المنزلُ المتقادمُ، نِعم وبه مما شجاك مَعالمُ. من القائل؟”. كنت عارياً، سابحاً بدمي المالح كحصص الرياضيات الثقيلة في حرّ آب، ملقىً بالقرب من حذائه الذي استخدمه لشرح مواعظ فلسفيةٍ في معرفة الذات، أتبعها شعراً للحلاج وهو يلوّح بعصا الكهرباء ويقول لي بطريقة ساخرة: أجب يا مثقف!
في زيارةٍ أخيرة لمنزل العائلة لم أستطع حمل أي شيء من الكتب الضخمة، فالحواجز كانت تفلّي “المارقين” من أنفاسهم. دخلت المنزل على ضوء “سراج” بصحبة شريك الزنزانة، حيث جلسنا لنحمل ما نستطيع حمله ونغادر عين ترما نهائياً. وفيما كنت ألملم بعض الأشياء الخفيفة، التفتَ عرضاً نحو المكتبة، وقد انعكس عليها اللون الأحمر للسراج وتراقص على العناوين والفهارس، فجفل جفنُه الرقيق تحت عينه الجاحظة، وهمس: “ألا تبدو المكتبة مثل “أبو حيدر”؟!”
استطعتُ في ذلك اليوم الماطر تَهريب كتابٍ فيه بعض القصص القصيرة لغسان كنفاني؛ اشتريته منذ زمن طويل من “سوق الحرامية” المتربّع في شارع الثورة إلى جانب وزارة الداخلية، حيث يرتفع مبنى الوزارة عالياً ليشرف على السوق بـ “حراميته وثائريه”. وما أن عُدت من السوق حتى اتجهت نحو مقر التقائنا في قبو (كان أحد الأصدقاء قد استأجره في عين ترما لجلسات التسطيل الطويلة).
قرأتُ “أم سعد”، ولم تكن أم سعد تشبه “مشايخ اللحام” ابنة جبل النار في نابلس التي كُنت أتخيّلها في سنوات الصبر العجاف التي لم تعطِ سوى قهر خُزّن في التبّان مع البقر والأرض الممحِلة. كانت “مشايخ” تُخفي في تجاعيد وجهِها أسفاراً طويلةً من الألم، وكأنما الغضون التي ازدان بها “صباح وجهها” كانت مدمّاةً بالانكسارات والدموع الكثيرة التي لم تزهر في أرض البرتقال.
ورثَ والدي الدموع عنها، ذرفها في سنوات الحصيدة الطويلة عندما التهم الشوكُ كفّيه تحت سماء الله الواسعة المحتبسة بالمطر، فلهث جدّي وراءَ الحدود أملاً في الاحتفاظ بحرية لم تطق جدتي فهمها. الرجل الساخر بحماره الأسطوري، كان يخشى انغلاق السماء والموانئ والمدن والقرى، فراح يُنقّب في الفتيات المنتشرات على طول “وادي الزيدي” وأطراف طبريا عن ملاذ من خيبات جدتي التي جرّبت معها عويل الدماء من أرض الله المقدّسة.
“خيمة عن خيمة تفرق”، وصمت الجميع. وكما في القصص الساخرة: طال الصمت، وقد ظن كلُّ واحدٍ منا أن الآخر قد فهم المعنى العميق للقصة، طال الصمت ليُخثّر التعبَ في عقب سيجارة دارت كما تدور الكرةُ الأرضية وعقاربُ الساعة والأهلُ الكادحون نحو الرغبة والألم، وتنحنح البعض وقد تخدّر وجهه الهزيل، وحاول بعضهم الكلام لكنّه عدل عن ذلك. وفي خارج القبو تكفّلت السماءُ بإغراق شوارع المدينة، وتسرّب فيض المطر في المجارير المليئة بالوحل والبول والخراء، وجرى في الأنابيب الصّدئة التي اهترت بفعل زمن بدأ بـ “دماء الكادحين” وانتهى بـ “عظام الكادحين”، وبينما كنا نضحك كانت الأنابيب التي تقطع سقف القبو تحتقن بكثافة لينفجر أحد الأنابيب فوق رؤوسنا ويغرقنا بالخراء. تحولت هذه الحادثة لأشهر نكتة في دمشق، وراح كل واحد منا يضيف ويحذف في تكوينها وترتيبها واتّساقها لتخرج كل مرة بطريقة جديدة تحت عنوان: الغارقون في الخراء.
كان الزمن يتكدّس في الكتب، ولم نكن نستطيع أن نلحق به أو نمسكه، كُنت أتعقّبه بين الخطوط الوهميّة للكلمات، وبدا أنّهُ متقدمٌ عليَّ، ففي كلّ مرة كنت أقرأ فيها الرواياتِ والقصصَ وكتبَ التاريخ، بدا كما لو أن ذلك قد وقع في مستقبل بعيد، فيما أنا أعيش انعكاساتِه الورائيّة. كأنّما بدأ الزمن من نقطةٍ متقدمة وانهار بشكلٍ عكسيّ، لكنّ الواقع كان متخثراً كبقعة دمٍ كبيرة تبلع الأسماء والتواريخ، وتخفي وجوه وملامحَ من سَقطوا غيلةً بصمت، وتحيلهم إلى مجرد حوادث وقصصٍ تتوارى في مكتبات كبيرة تضجّ بالصراخ والألم والعويل والانتقام.
“عُفش” منزلنا في عين ترما باستثناء المكتبة، لكن صاروخاً من طيارة ميغ تكفّل بحرقها كاملةً. بُيوتٌ كثيرة قُصفت و”عُفش” منها الأدوات الكهربائية، والأثاث، والأغطية، والفرش، والصور، والذكريات، وحرارة الأنفاس .. لكن في أغلب البيوت التي عبرتها “كخُراقيّة” ** أو”كطلاقيّة”*** في الجبهات، أو كملجأ من القصف، كُنت ألمح نسخاً متكرّرةً من مكتبات متهالكة، احترق قسم منها ومُزق القسم الآخر، وقد امتزجت صفحات كُتبِها بدماء شُبانٍ لم تعطِهم يوماً معرفةً حقيقةً عن ذواتِهم ولا عن ماضيهم أو حاضرهم أو مستقبلهم.
*الحصيدة كلمة عامية من فعل حصد
** الخراقية: هي فجوات في جدران بيوت يفتحها المقاتلون من أجل التنقل الآمن هرباً من القناص.
***الطلاقية: هي الفجوات التي يفتحها المقاتلون في الجدران من أجل “الاشتباكات والقنص”