المكمن الأخير لقوة الأسد/ عمر قدور
بخلاف أي منطق أبلغ بشار الأسد المبعوث الدولي دي ميستورا أن أولويته هي الحل العسكري وليس السياسي، ورفض تماماً فكرة الدعوة إلى انتخابات مبكرة. اللامنطق يظهر جلياً في أن قوات الأسد باتت تسيطر على أقل من ربع البلاد، وهي سيطرة محض عسكرية لأن النظام لم يعد يتمتع بأية ميزة على الصعيد المدني. ويمكن القول أن فرضية احتفاظه بسوريا المفيدة المزعومة قد بانت على حقيقتها، وهي ليست أكثر من أوهام لمن لا يعرف الخريطة السورية، وفي أحسن الأحوال ليست سوى شريط وظيفي إيراني غير قابل للحياة إلا على المعونات الخارجية. الأراضي التي لا يزال يسيطر عليها النظام هي في قسم كبير منها “سوريا المستفيدة” اقتصادياً من الثروات والخيرات الموجودة في القسم الآخر. ولولا الصفقات الجانبية مع داعش وحتى مع بعض الفصائل المنسوبة إلى “الجيش الحر” لعانت دمشق حصاراً خانقاً على صعيد الطاقة والمياه؛ ولولا الخطوط الحمراء الدولية والإقليمية لامتدت الحرب إلى معقل النظام في الساحل. إذاً، ما الذي يجعل الأسد يحافظ على عنجهيته ويكرر إصراره على الحل العسكري؟ أهو محض انفصال عن الواقع؟
الفرضية الأخيرة روّجتها بخاصة وسائل الإعلام الغربية التي تستخدم تعبيرات مهذبة إزاء الأسد. مع ذلك لا يجوز رد “تعنت” الأسد إلى انفصاله عن الواقع، ولا يجوز الزعم بأنه السبب وراء إصراره على حسم عسكري يدرك استحالته ميدانياً، واستحالته بقرار من المجتمع الدولي الذي يصر على عدم وجود حل سوى الحل السياسي. الأقرب إلى التصور أن يكون الأسد عارفاً بنوعية الحل الذي تريده القوى الدولية الفاعلة، وعارفاً بالصعوبات التي تواجهها لتوليف الحل. أي أنه مدرك لحقيقة وجود قناعة نظرية بتنحيته، لكنها لم تكتسب بعد ديناميات عملية، وهو واثق “عن خطأ أو صواب” من فشل الجهود الدولية في المدى المنظور، وواثق تالياً من أن لحظة الإطاحة به لم تقترب كما يتخيل أعداؤه.
كلمة السر في ما سبق هي إيجاد شريك مناسب ينتمي إلى الطائفة العلوية من خارج أزلام النظام الذين تورطوا في الدم السوري. طبعاً الأمر لا يتعلق هنا بأن جميع أبناء الطائفة متورطون في الدم، وإنما يتعلق بوجود شركاء يمتلكون حداً أدنى من الحيثية المجتمعية التي تضعهم في موقع تمثيلي وفي موقع الشراكة معاً. الواقع الصادم والمؤذي أن كافة الشخصيات المعروفة خارجياً ومحلياً هي ابنة النظام نفسه، وبخاصة هي ابنة الطبقة العسكرية والأمنية منه، وتكاد تنعدم الاستثناءات في ما بينها إذ يملك أفرادها سجلاً أسود قائما على المشاركة الحثيثة في أفعال النظام. أما الشخصيات القليلة المدنية المعروفة فهي من مستوى الوزراء الذين يطويهم النسيان بعد إقالتهم، أو من مستوى رجال الأعمال الذين ظهروا فجأة بشراكة مع العصابة الحاكمة، وهم لا يحظون بأي احترام مجتمعي أسوة بنظرائهم من طبقة أثرياء الفساد في عموم البلاد.
ينبغي ألا ننسى أن نسبة لا يُستهان بها من المجتمع الدولي تنظر إلى ما يجري في سوريا على أنه حرب أهلية، وهي نظرة لم يعد الواقع يكذبها برمتها. ضمن هذه النظرة لا بد للحل السياسي أن يضمن تمثيلاً ضامناً للجميع. ومع أن الأضواء سُلّطت طوال الوقت على عدم وجود بديل “مقبول” من المعارضة إلا أن الحقيقة كانت في مكان آخر، وهي صعوبة إيجاد بديل مقبول وذي وزن من أبناء الطائفة العلوية. يُشار هنا إلى أن هناك صياغات مختلفة من الانفصال عن النظام راحت تتبلور شيئاً فشيئاً في المناطق الكردية وجبل العرب، وإن كان عمادها مفهوم الأمن الذاتي، أي أن هاتين المجموعتين مؤهلتان ليكون لهما تمثيلهما المنعزل عن النظام وأيضاً عن الانضواء في ما يُنظر إليه كحراك عربي سني.
ضمن الرؤية الدولية هذه، تبرز قوة الأسد في عدم وجود بديل له ضمن الطائفة نفسها، وهو يدرك مكمن قوته، وأكثر من يدرك ما فعله نظامه لتصحير الطائفة وإلحاقها بالعائلة الحاكمة. طوال أربعة عقود نسفت العائلة الحاكمة كافة الأطر التقليدية للطائفة، كما فعلت بالمجتمع السوري ككل وكما لم تفعل به أيضاً. فالعائلات العريقة ذات الحيثية الاجتماعية جرت إهانتها على الملأ في حال عدم انضوائها ضمن النظام، وتحولت إلى عائلات ذليلة في حال انضمامها. مشايخ الطائفة التقليديين، على رغم عدم وجود دور سياسي بارز لهم، لم يعد لهم وجود بالمعنى المألوف للكلمة وصار معتاداً رؤية أولئك الذين كانوا برتبة مساعد في المخابرات وقد تقاعدوا ليصبحوا شيوخاً، وهو حال ليس أفضل بالتأكيد من حال طبقة السلطة الدينية لدى كافة المذاهب. تقليدياً، المعارضون من أبناء الطائفة لم يكونوا أفضل حالاً من أقرانهم، لا بسبب القمع الذي تعرضوا له فحسب وإنما لأنهم يشتركون مع كافة المعارضين الآخرين قبل الثورة في تهميش حراكهم عن الفضاء المجتمعي العام. نذكّر هنا بأن الأسد، في مهزلة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، سمح باصطناع مرشحين من حلب ودمشق لكن لم يكن وارداً على الإطلاق وجود ولو مرشح صوري من جبلة أو طرطوس على سبيل المثال، لأنه لا يقبل بأن ينال هكذا مرشح ولو نسبة ضئيلة جداً من الأصوات التي يقررها هو بنفسه.
لقد كانت لعبة النظام طوال عقود هي أخذ سوريا كرهينة، الآن لم يبقَ له سوى الحصن الأخير المتمثل بالطائفة، لا لأنه يجد حمايته فيها فذلك أصبح مشكوكاً فيه بعد الهزائم الفادحة الأخيرة، لكن لأنه يدرك أنه لم يعد لديه رهينة حقيقية سوى الطائفة، وصارت مهمته الأسهل تتلخص في إعاقة تظهير أي بديل منها.
المدن