صفحات العالم

الممرات ضاقت على بشّار وطهران لا تكفي


حازم الأمين

لسورية حدود مع خمس دول هي تركيا والعراق والأردن ولبنان وإسرائيل. وباستثناء إسرائيل، فلحدود الدول الأربع الأخرى صلة بما يجري اليوم في المدن والأرياف السورية. وهذا القول ليس في سياق تعزيز ما يدعيه النظام وحلفاؤه لجهة ان الثورة في الداخل هي صنيعة الخارج، إنما للتذكير بأن دولة «البعث» في سورية نشأت كدولة إقليمية لا كدولة وطنية، وهي استمرت كذلك طوال العقود الأربعة من حكم «البعث». كما أن ادعاء النظام أنه قدم «القضية القومية»، أي الصراع مع إسرائيل، على القضية الوطنية، يسقط عند حقيقة أن اهتزازه اليوم لم تبلغ ارتداداته الحدود مع إسرائيل، إنما طاولت الحدود الشائكة مع كل دول الجوار الأخرى.

تركيا أنشأت بصمتٍ منطقتها العازلة مع سورية. لم تضطر حتى الآن لإقامة منطقة حظرٍ للطيران، ولا إلى إدخال قوات إلى الداخل السوري. فقط أقامت علاقة مع المجموعات السورية التي تسيطر اليوم على ريفي حلب وأدلب، وفتحت حدودها على نحو أوضح للاجئين السوريين، وها هي اليوم تُعد نفسها لاستقبال مزيد من اللاجئين تمتص عبرهم احتقان الحدود. تبقى الورقة الحدودية الأخرى مع الجارة الصغرى، وهي الأكراد في محافظة القامشلي، والذين عاد النظام في سورية وأيقظ في ظهرانيهم حزب العمال الكردستاني، مع ما تعني هذه الخطوة من لعب على وتر تركي داخلي، ومن المرجح أن تتولى أربيل بعد زيارة احمد داود أوغلو إقليم كردستان العراق، امتصاص تبعاتها. فلمسعود بارزاني نفوذ مواز للـ «بي كي كي» في سورية، والرجل متفوق بسلطته، وها هو يساوم الأتراك عبر الصورة الملتقطة لأوغلو في كركوك. فإذا كانت المعادلة كركوك مقابل القامشلي، فلن يتردد في المسارعة بقبول العرض التركي. وما يجعل هذا الاحتمال واقعاً هو رغبة أنقرة الأكيدة في معاقبة بغداد بعد الذي جرى في أعقاب الانتخابات العراقية، فتكون كركوك عندها هدية تركية لمسعود بارزاني في مقابل ثمن عراقي وآخر سوري.

الأردن أعلن خروجه عن الصمت على الوقائع الحدودية الباردة التي تشهدها حدوده مع سورية. إذ أعلنت الحكومة الأردنية «أن ثمة اشتباكات يومية تحصل بين الجيشين الأردني والسوري، وأن الأردن دأب على عدم كشفها».

إذاً، انتقلت عمان في موقعها من الأزمة في سورية إلى مرحلة الانخراط في المواجهة، وإن كان متوقعاً أن تستمر الحكومة في ممارسة تقية متفاوتة تبعاً للتطورات الميدانية. فالأردن جار صغير لسورية، وحساباته تختلف. لكن عمان تشبه نفسها في موقعيها في العراق خلال حرب إطاحة النظام البعثي، وفي سورية اليوم. في حينه صمتت المملكة، وقدمت ما تستطيع تقديمه لقوات التحالف الغربي، وها هي اليوم قليلة النطق بما يجري على حدودها، لكنها ليست عديمة الفعل على الإطلاق.

موقعا العراق ولبنان من الأزمة في دمشق متشابهان، على نحو يكاد أن يكون متطابقاً. حكومتان شيعيتان (تقريباً) مدعومتان من إيران وخاضعتان لنفوذها، وحدود الدولتين مع سورية سنّية. ولهذا تواجه طهران صعوبة كبيرة في ضبط حدود «ابنتيها» مع «ابنتها» الثالثة. طبعاً استفاد النظام في دمشق من موقفي الحكومتين العراقية واللبنانية سواء في الجامعة العربية أو في الأمم المتحدة، ولكن تبدو حدود الاستفادة ضئيلة إذا قورنت بما تمثله الحدود الجغرافية من احتمالات. فقد أصابت الضغوط الداخلية والخارجية الحكومتين الحليفتين لجهة اضطرارهما إلى استقبال اللاجئين، والقبول بإيواء ناشطين ضد النظام في دمشق. أما مساعيهما لضبط الحدود فتبدو أسيرة توازنات طائفية تُصعِّب على طهران إقامة جدران عازلة تقطع عبرها علاقات اجتماعية وقرابية على طرفي الحدود. الحال أن النظام في سورية يترنح اليوم على مذبح الموقع الإقليمي الذي قرره لنفسه. هذا الموقع الذي أتقن الرئيس الوالد حافظ الأسد تشييده على رؤوس عشرات الآلاف من ضحاياه في سورية (وفي لبنان أيضاً)، تولى الرئيس الإبن بشار الأسد تبديده على رؤوس عشرات الآلاف من السوريين أيضاً.

اليوم تتصل مدن سورية بجسور متفاوتة المتانة والوظيفة مع دول الجوار الأربع. حلب تتصل بتركيا، ودرعا تتصل بالأردن، وحمص تُدير وجهها إلى جارتها اللبنانية طرابلس، فيما عشائر دير الزور تتطلع إلى عمقها في الأنبار العراقية. وليست الشام في منأى عن هذا الاقتسام، ذاك أن ما يدب فيها من وقائع صامتة وغير صامتة يرشحها لأن تنضم إلى شقيقاتها الصغيرات في تطلعهن إلى مُنجد «إقليمي».

ووفق منطق الموقع الإقليمي الذي رسمه النظام لسورية، فإن ما يُثار من توقعات عن ملجأ أخير لن يخرج عن هذا القدر الذي حدده لنفسه، ذاك انه في مقابل الكلام عن حصانة روسية للنظام، وعن دعم إيراني كبير له، كشفت الوقائع السورية أن منطق الغلبة في الصراع الدائر لم يعد في مصلحة أنظمة محصنة بجدران من العنف في مواجهة أكثرياتها. الحدود السورية كلها تنضح بهذه الخلاصة. حكومتا بيروت وبغداد عاجزتان عن تجاوز الحقائق الحدودية، فيما أنقرة وعمان متحفزتان للدخول المباشر إلى سورية.

وقبل أن نتحدث عن الظلامة الكبرى التي أصابت السوريين طوال العقود البعثية الأربعة وتأثيرها في إشعال الثورة، علينا أن ننتبه أيضاً إلى أن خللاً تسبب فيه الرئيس الابن في توازنٍ كان أقامه الرئيس الأب. فبشار الذي تجاوز أنقرة إلى طهران، لم يدرك حجم الخطأ الذي ارتكبه كما يبدو، على رغم أن الأتراك صاروا اليوم على تخوم حلب من دون أن يضطروا إلى إدخال قواتهم إلى الأراضي السورية، فيما تفصل سورية عن الدعم الإيراني محافظات السنة في العراق وفي لبنان.

الممرات الإقليمية ضيّقة على الرئيس الابن، ويبدو أنها في صدد مزيد من الضيق.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى