الموقف الإيراني من المسألة السورية – مقالات لكتاب عرب –
إيران والرجل العربي المريض، لسنا في القرن التاسع عشر/ عزمي بشارة
نجحت الجمهورية الإسلامية في ترسيخ دولة وطنية قائمة قبل الثورة، وتشييد نظام سياسي مع قدرٍ من التعددية، وبحكومة دينية مذهبية، تسيطر عليها شبكة من رجال الدين وسلك الكهنوت، وقد أُخضع فيها الاقتصاد والمجتمع للسياسة، مع هامش واسع نسبياً للنشاط التجاري، وتقاطع مصالح بين رجال الدين والبازار. وشملت صيرورة تطوّر النظام اجتثاث اليسار والليبراليين، وتلاه قمع التيار الإصلاحي الجذري، مع احتواء تلك العناصر القابلة للاحتواء.
أما خارجياً، فتبنّت سياسة إقليمية اصطدمت مع الهيمنة الأميركية وإسرائيل. وساهم الحصار، المضروب على إيران بغير حق، في تطوير مصادر إيران الذاتية، وقدراتها العلمية والاقتصادية. ومع الانتقال من الثورة إلى الدولة، تحوّلت المذهبية إلى عنصر في هوية وطنية تؤكّد على الكبرياء القومي الإيراني. وخارجياً، احتلت المذهبية تدريجياً محل الدين، كأداة تأثير في دول الجوار، عبر افتراض ولاء الطوائف الشيعية المزدوج، وفي الحقيقة، جرى فرضه بافتراضه.
وكانت إيران، كدولة جارة قوية، مرشحةً، في نظر عربٍ كثيرين، لأن تكون حليفا مهماً. وكنتُ جازماً في رأيي إنه لو توفر مشروع سياسي عربي، أو دولة عربية واحدة صاحبة مشروع عربي على الأقل، لفرض العرب احترامهم على إيران وتركيا، وأن المشكلة الرئيسية في اختلال التوازن في العلاقة مع إيران تكمن في غياب مشروع عربي.
ولكن، بعد هذا التأكيد، يتوجب علينا أن نسأل السؤال: وهل يبرّر ذلك للدول الإقليمية الأخرى استباحة الوطن العربي وفرض أشكال الهيمنة كافة عليه؟ هل يجوز التعامل مع الشعوب العربية كأنها قاصرة تحتاج إلى وصاية؟ إذا كان هذا صحيحاً، فإن التبرير البراغماتي لأي استعمار، بمنطق حق الدولة المستعمِرة، صاحبة المشروع، في السيطرة، لإنفاذ مصالحها في غياب مشروع عند الشعب المستعمَر يصح أيضاً. وهذا ما يفترض أن يكون مرفوضاً حتى بموجب سياسة الجمهورية الإسلامية على مستوى الخطاب الإسلامي والعالم ثالثي الذي تتبناه.
لقد تطور الموقف الإيراني من القضايا العربية، ولا سيما الصراع مع إسرائيل، من عنصرٍ مكوّنٍ في أيديولوجية الثورة الإيرانية، استفادت منه حركات المقاومة، فعلاً، إلى أداة في
“وضع الدولة العربية الرث لا يشفع لها، أما تطلع الشعوب العربية للحرية والعدالة فيشفع لها. ومهما بلغت رثاثة الدولة العربية، فإننا لسنا في القرن التاسع عشر”
السياسة الخارجية لتبرير التدخل وتبرير علاقة الوصاية المباشرة على العرب الشيعة، من دون احترام السيادة. وقد هيّأت الدولة العربية الظروف لذلك، بعدم فهمها علاقة التلازم القائمة بين السيادة والمواطنة في الدولة الحديثة. ولا شك أن الخطاب السياسي الإيراني نفسه، والذي يصنف الناس بموجب الولاء لإيران، قد ساهم في تخيل وجود طوائف شيعية، تتجاوز الجماعة الأهلية المحلية، حتى في دول عربية لم يعش فيها الشيعة العرب في مجتمعات منفصلة عن بقية السكان، بل وشكلوا فيها قواعد اجتماعية للبعث والشيوعيين والحزب الاجتماعي القومي السوري والقوميين العرب، وغيرهم. وخرجت من صفوفهم قيادات لهذه الحركات أيضاً. وفقط بعد الثورة الإيرانية، بدأ تحوّل هذا الجمهور نحو التنظيم السياسي على أساس طائفي. ووصلت هذه الصيرورة إلى ذروتها في العقد ونصف الأخيرين.
كل هذا لا يبرر السلوك السياسي لإيران تجاه المشرق العربي، أخيراً، كأنه الرجل المريض، مثل تركة الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر. والتعبير الإيراني شبه الرسمي عن ذلك يزداد سفوراً يوما بعد يوم، فبعض السياسيين الإيرانيين يفقدون الفرامل حين يتحدثون لجمهوره. والمشكلة أن غضباً عربياً هائلا يتراكم، حالياً، جراء الجرائم المرتكبة في سورية والعراق.
ليس حال العرب لناحية درجة التنظيم والوعي كحاله في عهد الدولة العثمانية. والتدخل الإيراني لتحقيق هيمنة في دول عربية مختلفة يمر عبر شروخ طائفية وفتنٍ لا يفترض أن تكون إيران معنية بإثارتها.
نذكّر هنا بنفوذ الاتحاد السوفييتي، طوال سبعينيات القرن الماضي، حتى بدا وكأن المعسكر الاشتراكي ينتصر على المعسكر الرأسمالي الغربي. ولكن اقتصاده ونظامه السياسي لم يتحملا الضغط الناجم عن التنافس مع النظام الرأسمالي، ولا سيما بعد الانفتاح النسبي على الأفكار والحاجات الاستهلاكية في عصر الانفراج الدولي. وكان التدخل في أفغانستان وسباق التسلح الذي فرضته إدارة ريغان القشة التي قصمت ظهر الاقتصاد ونظم الإدارة السوفييتية. وإذا كانت أفغانستان عسيرة على الهضم بالنسبة للسوفييت، فإن العالم العربي المشرقي لقمة كبيرة بالنسبة لإيران، أيضاً لناحية حرب الاستنزاف التي يفرضها عليها. ونحن نشهد بداياتها في العراق وسورية واليمن. ولا شك في أن التدخل الإيراني يصب، مؤقتاً، في مصلحة القوى الإسلامية المتطرفة عموماً التي تطمس معالم الثورة العربية ومطالبها الديمقراطية. ولكن، هذه الحركات لا تضر بالمجتمعات العربية وقضاياها الوطنية والديمقراطية فحسب، بل تستنزف إيران أيضا. فالهيمنة على المشرق العربي ليست نزهة.
إضافة إلى ذلك، لا يختلف نوع المليشيات الشيعية التي تنشأ في ظل الصراع الطائفي هذا، في بنيتها وعقليّتها وممارساتها، عن تنظيم الدولة (داعش) وغيره من التنظيمات، سوى في أنها تخضع لهيمنة دولة إقليمية. وسوف يكون تأثيرها على العرب الشيعة وإيران نفسها مدمراً في المستقبل.
كيفما قلبنا الأمر لا يمكننا استخلاص إيجابية ما لإيران، أو للعرب، من السياسة الإيرانية التدخلية السافرة حاليا.
وضع الدولة العربية الرث لا يشفع لها، أما تطلع الشعوب العربية للحرية والعدالة فيشفع لها. ومهما بلغت رثاثة الدولة العربية، فإننا لسنا في القرن التاسع عشر.
العربي الجديد
روسيا وإيران تتقدّمان لسدّ الفراغ الديبلوماسي في الملف السوري/ جوزف باحوط
شهدت الأشهر الأخيرة حركة ديبلوماسية محمومة في النزاع السوري، لكن خلافاً لما كان عليه الحال في الأعوام السابقة، تغيب الولايات المتحدة بطريقة غريبة عن هذه الحركة.
بدلاً من ذلك، تحاول روسيا وإيران، الحليفتان الأساسيتان للرئيس السوري بشار الأسد، الإمساك بزمام المبادرة وتمهيد الطريق للتوصّل إلى اتفاق سياسي جديد.
فسّر البعض هذه الحركة بأنها خطوة دفاعية أو انتهازية، مشيرين إلى أن كلاً من روسيا وإيران يواجه معوّقات اقتصادية جديدة، وربما دفعهما المشهد السياسي المتغيِّر بسرعة في المنطقة إلى تبديل آرائهما. فأسعار النفط تسجّل هبوطاً حاداً، وثمة مؤشرات متزايدة على هشاشة النظام الأسدي، حتى فيما يعيد المجتمع الدولي تركيز اهتمامه على صعود “الدولة الإسلامية”، التنظيم المتطرّف المتفرّع من تنظيم “القاعدة” في سوريا والعراق. ربما دفعت هذه العوامل مجتمعةً – أو هكذا يُعتقَد – موسكو وطهران للبدء بالتفكير في بديل من الأسد. لكن هل هي قراءة صحيحة للأوضاع؟
المبادرة الروسية: قام نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في الآونة الأخيرة بزيارات عدّة إلى دمشق والمنطقة، وكان يُعرّج على بيروت في كل زيارة، وذلك لإجراء مباحثات مع نظام الأسد ومع الشخصيات المعارضة داخل سوريا وخارجها. وكذلك زار وفدان سوريان يقفان على طرفَي نقيض في النزاع السوري، موسكو.
في منتصف تشرين الثاني الماضي، أصبح وزير الخارجية السوري وليد المعلم أول مسؤول سوري يلتقي شخصياً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أكّد من جديد دعمه نظام الأسد. وقد صرّح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في مؤتمر صحافي بعد الاجتماع، بأن الصيغة الحالية لمحادثات السلام السورية، بالاستناد إلى بيان جنيف الصادر في 30 حزيران 2012 ومحادثات السلام في مؤتمر جنيف 2 في مطلع عام 2014، قد عفاها الزمن. لقد دعت عملية جنيف إلى “إنشاء هيئة حكومية انتقالية” تتمتع بـ”صلاحيات تنفيذية كاملة”، في إشارة إلى شكل من أشكال العملية الانتقالية بمعزل عن النظام الحالي. وقد حظيت هذه العملية بموافقة دولية واسعة، ولقيت في ذلك الوقت دعماً من روسيا والولايات المتحدة على السواء. لكن لافروف اقترح وجوب استبدال إطار العمل هذا بمبادرة موسكو لتسوية النزاع من طريق الحوار السوري الداخلي.
بعد زيارة المعلم، استقبلت موسكو وفداً آخر يتألف هذه المرة من مجموعة من المعارضين المعتدلين برئاسة الشيخ أحمد معاذ الخطيب، وهو خطيب وداعية سنّي من دمشق كان رئيساً للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية الذي يمثّل المعارضة في المنفى، ومعروف بمحاولاته فتح حوار مع النظام. بعد جولته الروسية، تعرّض الخطيب للانتقاد من الشخصيات المعارضة الأكثر تشدداً وشعر بأنه مضطر إلى تبرير خطوته من خلال إصدار مذكرة عامة مسهبة نشرها على صفحته على موقع “فايسبوك” ودعا فيها إلى اعتماد استراتيجية واقعية للمفاوضات ناصحاً مواطنيه إعطاء المقترحات الروسية فرصة، حتى ولو كان الثمن بقاء الأسد في السلطة لبعض الوقت.
لن تستند هذه المبادرة الجديدة، بحسب توصيف الحكومتَين الروسية والسورية، إلى أي إطار عمل مسبق، أي إنها لن تستند لا إلى قرارات الأمم المتحدة ولا إلى بيان جنيف. بل ستكون صيغة جديدة محض “سورية – سورية” من دون أي ضغوط خارجية أو تدخل خارجي، على الرغم من أنه في ذلك تجاهلٌ لواقع أن العملية بأسرها انطلقت من موسكو.
رابط روسي؟: لا تتقدّم الديبلوماسية الروسية في فراغ. فمنذ فترة قصيرة، قدّم مبعوث الأمم المتحدة الجديد في سوريا، ستيفان دو ميستورا، اقتراحاً يتقاطع بطريقة غريبة مع الاقتراح الروسي عند مستويات كثيرة. يهدف الاقتراح الذي قُدِّم بأنه مقاربة “هرمية من الأسفل إلى الأعلى” لوقف الأعمال الحربية، إلى “تجميد” النزاع من خلال ترتيبات وقف النار في المناطق بدءاً من حلب. لا تتضمّن مبادرة دي ميستورا بنوداً واضحة عن التغيير السياسي، بحيث تتجنّب الخوض في المسألة الشائكة المتعلقة بمستقبل الأسد، وتُقدَّم بأنها مجهود إنساني في شكل أساسي ليس لها رابط فعلي بالتسوية النهائية للنزاع.
لكن لدى القراءة بين سطور المقابلات النادرة التي تحدّث فيها مبعوث الأمم المتحدة، يبدو أنه يُراد من اقتراحه لتجميد النزاع في حلب أن يكون خطوة أولى تليها خطوات كثيرة. فعبر إبرام اتفاقات مماثلة في مناطق أخرى وتوسيع نطاق وقف النار شيئاً فشيئاً، من شأن هذه الآلية أن تؤدّي في نهاية المطاف إلى تجميد الحرب السورية، على أن تتبلور الديناميات السياسية في مرحلة لاحقة. لكن ماذا سيحل بالأسد؟ لدى سؤاله عن هذه النقطة في مقابلة مع صحيفة “الحياة”، اكتفى مبعوث الأمم المتحدة بإعطاء جواب مقتضب جداً وقاطع بطريقة لافتة: “لن أعلق أكثر من ذلك”.
تعزّزت الشكوك حول الطبيعة الحقيقية لاقتراح الأمم المتحدة نظراً إلى أن خطة دي ميستورا تشبه إلى حد كبير الأفكار التي طرحها “مركز الحوار الإنساني”، وهي منظمة للتوسط في النزاعات تتخذ من سويسرا مقراً لها وقد اقترح باحثوها أنه بإمكان الأسد البقاء في سدة الرئاسة لسنوات عدة، فيما يتم إبرام اتفاقات لوقف النار، ويُصوَّب السلاح نحو تنظيم “الدولة الإسلامية”، وتُطبَّق الإصلاحات السياسية بصورة تدريجية. وقد لقي هذا الاقتراح رفضاً شديداً في الدوائر المعارضة.
لقد وفّرت المبادرة الروسية، بتقدّمها إلى الواجهة في تلك اللحظة بالذات، الحلقة السياسية المفقودة التي تحتاج إليها جهود دو ميستورا “التقنية”، فأضفت فحوىً على مقاربته الرسمية واستعادت زمام المبادرة في تسوية المسألة السورية. في الواقع، يشرح دو ميستورا، في المقابلة مع صحيفة “الحياة”، أنه لا يعتبر الاقتراح الروسي منافساً لاقتراحه: “بالعكس، في حال قُدِّمت هذه المبادرة بطريقة مناسبة وحظيت بدعم كل الأطراف، فإنها ستكمل جهودي، لأننا في حاجة الى مبادرة جديدة للحوار السياسي”.
الاعتماد على إيران: تبدو موسكو، في إطلاقها “الحوار السوري الداخلي” وإشرافها عليه، حريصة على إبقاء إيران في الصورة، لا سيما أن الروس يدركون أن نظام الأسد سيستجيب في نهاية المطاف لأوامر طهران أكثر من استجابته لأوامرهم. صحيح أن العلاقة مع روسيا مهمة، إلا أنها ليست عميقة بقدر اعتماد الحكومة السورية على إيران.
لكن يبدو أن السوريين واثقون تماماً من حليفهم الإيراني، وخير دليل على ذلك جدول أسفار المعلم. فبعد مغادرته موسكو، توجّه إلى طهران حيث أعاد مع القيادة الإيرانية تجديد اقتناعهما بأن الحل الوحيد للأزمة السورية هو الحوار بين السوريين من دون تدخل خارجي – إنما، وهنا تكمن المفارقة، بتيسير من روسيا وإيران.
في مقابلة نشرتها صحيفة “الأخبار” اللبنانية في مطلع تشرين الثاني الماضي، أعطى المعلم انطباعاً بأنه واثق للغاية ليس فقط من التزام إيران المستمر الإبقاء على حكم الأسد إنما حتى من هوية الفصيل السياسي الذي سيسيطر على السياسة في طهران في المستقبل.
هل يمكن أن تفوز روسيا وإيران بالتزكية؟: وفقاً للصحافي اللبناني سامي كليب – المعروف بآرائه المؤيّدة لدمشق والذي تعمل زوجته مديرة للمكتب الإعلامي في القصر الرئاسي السوري – عمد كل من إيران وروسيا إلى زيادة مساعداته المادية للنظام السوري إلى حد كبير عبر فتح خط ائتماني مشترك جديد قدره 6,4 مليارات دولار أميركية، مع العلم بأن إيران قدّمت ثلثَي المبلغ. إذا تبيّن أن هذه المعلومة صحيحة، فهي تضاف إلى الدعم الحماسي الذي منحته الدولتان إلى مشروع التجميد الذي أطلقه دو ميستورا وإلى الاقتراح الروسي بإجراء مباحثات سورية-سورية لإعادة إضفاء شرعية على الأسد ونظامه.
يبدو أن الأمم المتحدة تبتعد عن صيغة تسوية النزاع التي تم الاتفاق عليها في بيان جنيف 2012 ومحادثات “جنيف “2 عام 2014، وتفضّل التركيز على تجميد الأعمال الحربية وعلى الحوارات الإنسانية. في غضون ذلك، يبدو أن المبادرة الجديدة المدعومة من موسكو تهدف إلى تجاوز واشنطن شيئاً فشيئاً وجعل محادثات السلام السورية شأناً روسياً – إيرانياً صرفاً.
حتى الآن، يلتزم البيت الأبيض صمتاً مطبقاً حول هذه المسألة. إذا لم يخرج عن صمته قريباً، لا بد من السؤال إذا كانت الخطة الروسية – الإيرانية لإبقاء الأسد في السلطة قد أصبحت تدريجاً الاقتراح الدولي الوحيد المطروح على الطاولة.
باحث زائر في برنامج الشرق الأوسط في مركز كارنيغي للسلام الدولي.
النهار
خيبات أمل وشكوك متبادلة بين الإيرانيين ونظام الأسد/ عبدالوهاب بدرخان
عندما زار رئيس وزراء النظام السوري طهران أخيراً أمكن سوريين موالين التقوا مسؤولين إيرانيين، ثم جلسوا مع مرافقين في وفد وائل الحلقي، أن يتعرفوا إلى وضع متشنّج وغير ودي بين الجانبين، إذ إن كلاً منهما تحدث عن الآخر بشيء من المرارة والتطيّر، وكأنهما يكتشف بعضهما بعضاً بخيبة أمل. فدمشق ترى أن تعامل الإيرانيين معها تغيّر في الشهور الأخيرة، تحديداً منذ سقوط الموصل في أيدي تنظيم «داعش» وحلفائه، بالتزامن مع نشوء التحالف الدولي ضد الإرهاب وشيوع مناخ إيجابي مستجدّ سواء في المفاوضات النووية أو في التقارب الأميركي – الايراني، وكان الدعم بدأ يتقنن، بل سجّل أكبر تراجعاته فيما كان النظام يتعرّض لهزائم في مقابل «داعش»، كما تفاقمت أزمته المالية وحاجته إلى الوقود. ولا يبدو أن موفدي المرشد الإيراني، وآخرهم علي لاريجاني، استطاعوا أن يحملوا إلى النظام ما يلبي توقعاته.
ومن الواضح أن طهران دخلت في حسابات مختلفة بعد الحدث العراقي، لكن حضورها الطاغي داخل نظام بغداد وميليشياتها مكنتها من الاستفادة من ظروف الحرب على «داعش» ومتابعة توجيه الحكم، مع بعض التعديلات. ثم إن الحدث اليمني منحها فرصة هائلة في سلم أولوياتها الإقليمية. أما في سورية فوجد الإيرانيون أن كل ما بذلوه، منذ منتصف عام 2012، حقق هدفه بالحفاظ على بشار الأسد ومنع سقوط النظام، لكنهم استنتجوا أن كل «الانتصارات» لم تغيّر مسار الأزمة وأن حلفاءهم فقدوا أي نوع من المبادرة. أكثر من ذلك، لم يحبذ الإيرانيون رد فعل النظام على الغارات الأميركية، ولا الإشارات التي يرسلها إلى دول إقليمية بغية فتح قنوات جانبية، ولا الاتصالات الخارجية التي نشّطتها أخيراً أجنحة أو وفود من عائلة الأسد. وعلى رغم أن «المبادرة» الروسية منسّقة أولاً مع الإيرانيين، إلا أن هؤلاء لم يبدوا أي حماسة حيالها وكل ما فعلوه أنهم حرّكوا عدداً من معارضي الداخل لاختراق المسعى الروسي، ما ضاعف قلق النظام، وأطلق في صفوفه ما هو أكثر من التكهّنات، بل أثار مجدداً تجاذبات في شأن لوائح مَن يفترض أن يغادروا في حال تبلورت صفقة دولية لحل سياسي.
واقعياً، ليس لطهران أن تفاجأ بالحال التي بلغها النظام، لأن كل حقائقه عندها، وقد غذّت كل نزعاته التخريبية واستغلّتها، كانت هي التي دافعت بقوة عن خطط تغيير موازين لإسقاط المعارضة السورية من المعادلة بل دفعت بميليشياتها متعددة الجنسية لتنفيذها. وإذا كانت عقلية النظام لا تردعه عن أي شيء، فكيف استقام في عقل الإيرانيين أنه يستطيع أن يبقى ويسيطر ويحكم بعدما أوغل – بمساعدتهم – في القتل والتدمير، وأي «مصالح» يطمحون إلى الحفاظ عليها في سورية الغد، حتى لو تمكّنوا – مع روسيا – من تأمين «استمرار النظام من دون الأسد»، وحتى لو واصلوا شراء آلاف العقارات بأسعار الأزمة في مناطق لا مراقد أو مقامات مقدّسة فيها.
وواقعياً أيضاً، ليس لدمشق أن تبتئس من تبدّل المعاملة الإيرانية، فكل استثمار له عمر افتراضيٌ لا بدّ من أن ينتهي، ثم إن طول الأزمة ما كان ليبقى لمصلحتها حتى لو لم ينقلب لمصلحة المعارضة. فالنظام، الذي سلّم مقاليده إلى الإيرانيين حتى صار تحت رحمتهم، ليس معذوراً إذا جهل، أو تجاهل، أنه في الأساس حلقةٌ في أجندة طهران. وعلى افتراض أنها كانت صادقة كل الصدق في استراتيجية نهج المقاومة ضد إسرائيل، وقد بذلت فيه الكثير، فكيف لها أن تواصله وسورية – النظام لم تعد صالحة لإقامة توازن استراتيجي مع إسرائيل، بل أصبحت عبئاً سياسياً ومالياً واقتصادياً على إيران التي قادت النظام إلى تبديد مقوّمات سورية والانزلاق بها إلى هذا الضعف والانهيار.
عندما وقعت الواقعة وتعرّضت استراتيجية النفوذ الإيراني لهزّة في العراق، لم تخفِ طهران حقيقة تفكيرها: العراق أولاً، ثم سورية. وكان محمد محمدي كلبايكاني، رئيس مكتب الولي الفقيه، واضحاً في قوله: «لو لم يكن دعمنا لسورية لكنّا اليوم خسرنا العراق»، وذُكر أنه كان يردّ بذلك على «معارضة» بعض الشخصيات الدعم الذي تقدّمه إيران للنظام السوري. وهذه المرّة الأولى التي يشار فيها إلى «معارضين»، ولا تفسير لذلك سوى أنه لم يعد في الإمكان إخفاء جدل داخلي متصاعد مفاده أن نظام الأسد صار عبئاً على إيران ولم تعد هناك جدوى تُرتجى من دعمه.
لعل هذا الجدل هو ما شجّع شيرين عبادي (على هامش قمة روما لحائزي نوبل للسلام) على إبداء الاعتذار «نيابة عن الشعب الإيراني، عما قامت به حكومة بلادي في سورية، بدعمها الأسد الذي يقتل مواطنيه». لن يسمع السوريون اعتذاراً كهذا من أي مسؤول إيراني، لكن حجة كتلك التي ساقها كلبايكاني باتت تتكرر بصيغ مختلفة، بالغة الوقاحة، سواء بالإشارة إلى السيطرة على «العواصم (العربية) الأربع» (علي رضا زاكاني)، أو إلى امتداد النفوذ الإيراني «حتى البحر المتوسط» (يحيى رحيم صفوي). وكلّها موجهة إلى الداخل أولاً، من قبيل الطمأنة إلى أن كلفة النفوذ لا تذهب هباءً، أما وقعها في الخارج فيشحن الاحتقان المذهبي والسياسي والعربي – الفارسي في الدول التي يقولون أنها باتت عملياً تحت احتلالهم، كما يناقض كل النيات التي أعلنها الرئيس حسن روحاني وفريقه للتصالح مع دول الجوار الخليجي، لا سيما السعودية.
يشارك مندوبون عن النظام الإيراني في معظم المؤتمرات الغربية المغلقة عن الأزمة السورية، وبما أنها مغلقة فإنهم صاروا يتحدثون أخيراً بصراحة لم تكن متوافرة لديهم في مراحل سابقة، وفي الشهور الأخيرة باتت توحي بأن إيران منفتحة على أي صيغ تتعلّق بمستقبل الأسد. وقد ظهر ذلك في الاتصالات مع فرنسا على مستوى ديبلوماسي رفيع. صحيح أن الإيرانيين كانوا يطيّرون بالونات اختبار سياسية لا يأخذها أحد على محمل الجد، لكنهم مدركون أن تغيّر الظروف (الحرب على «داعش») وانسداد آفاق الأزمة قد يستدعيان في أي وقت البحث عن حل يشاركون فيه، لكن ليس أي حل. فهم وحدهم يملكون الورقة (مصير الأسد) التي يبحث عنها الأميركيون وحتى الروس، ووحدهم يتمتعون بإمكان التصرف بها، لكنهم لن يبيعوها رخيصة.
وتحسباً لكل الاحتمالات حرص الإيرانيون على إعلان تأسيسهم «حزب الله السوري» لاستخدامه، خصوصاً في تعطيل أسس أي حل سياسي لا يحقق مصالحهم ويضمنها، فمستقبل نفوذهم في «سورية موحّدة» لم يعد مضموناً. ذاك أن مختلف السيناريوات التي يمكن تصوّرها لحل الأزمة، إذا استندت إلى بيان «جنيف – 1»، لا بدّ من أن تغيّر قواعد اللعبة الداخلية. وأي حكم سواء كان خليطاً «من بقايا النظام وبقايا المعارضة»، أو تركيبة توافقية قائمة على محاصصة طائفية، سيكون عليه أن يواجه واقعاً بالغ الصعوبة: بلاد مدمّرة، دولة مفلسة، شعب منكوب، ومجتمع ممزّق… هذا الواقع الذي كانت للإيرانيين، مع النظام، المساهمة الأسوأ في تخريبه، لكن الدمار الكبير لم يستطع ولن يستطيع تغيير حقائق البلد ولا سحق إرادة الشعب ولا تقويض مقوّمات مستقبله… لم يقترب أي حل بعد، لكن السؤال، بمعزل عنه، كيف أمكن نظاماً كهذا أن يعتقد أن رهن سورية لدى الإيرانيين سيمكّنه من البقاء؟
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة