الموقف السلفي من الديمقراطية: رفض أم التباس؟/ ساري حنفي
ربما تكمن أهم تبعات الانتفاضات العربية على التيارات والحركات الإسلامية، في توضيح مواقفها من مفهوم الديمقراطية كفلسفة وآليات. وفعلا، ظهرت وثائق وبيانات جلية بتبني النظام السياسي الديمقراطي (حزب النهضة التونسي، حزب العدالة والتنمية المغربي، حزب الحرية والعدالة المصري، حزب الإصلاح الجزائري واليمني، حركة حماس، البيان الختامي لجماعة الإخوان المسلمين السوريين في 2015، وثيقة الأزهر 2012، وغيرها). وظهرت تنظيرات وفتاوى جلية من بعض الرموز الإسلامية المؤثرة كالشيخ يوسف القرضاوي، رغم أنه لم يقم بأي نقد ذاتي لكتاباته السابقة والمنددة بالليبرالية الديمقراطية (في كتابيه: الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، أو الحل الإسلامي فريضة وضرورة). ولكن ثمة استثناء لهذا التطور الهام، إذ لم يشمل الاتجاه السلفي، والذي أصبح الاتجاه الإسلامي الوحيد (إضافة للإسلامية الجهادية العنيفة- القاعدة وأخواتها) الذي مازال يحمل في أفكاره وممارساته الكثير من المراوحة بين الالتباس إلى الرفض التام والتكفير لمفهوم الديمقراطية.
وهنا تكمن أهمية كتاب الباحث السعودي نواف القديمي “أشواق الحرية: مقاربة للموقف السلفي من الديمقراطية” الذي أعتبره من أهم ما قرأت في الرد على الكثير من السلفيين في مواقفهم المبهمة والرافضة للديمقراطية، وعدم اعتبارها موضوعا ذا أولوية في أجنداتهم الدعوية والسياسية، وغياب مشروعات المطالبة بالاختيار والانتخاب، وتباري بعضهم بالتخصص في نقد دعاة الحقوق والشورى والديمقراطية. فعلى الرغم من بدء حلحلة في بعض الأوساط السلفية بانخراطها في العملية الانتخابية، كحزب النور في مصر، أو بتطوير خطاب متلعثم حول ضرورة الأخذ بخيارات الشعب لدى بعض الفصائل العسكرية السورية ذات الأصول السلفية، مثل حركة أحرار الشام وجيش الإسلام، مازالت الكثير من الحناجر تُنظر للبحث عن “أهل الحل والعقد” وتصر على التفكير التبسيطي الثنائي في مقابلة بين النظام الديمقراطي والنظام الإسلامي، وتخشى أن يؤدي تطبيق حكم الشعب في مخالفة حكم الشريعة.
يقوم القديمي بتعبئة جهاز مفاهيمي من داخل الحقل الإسلامي (أي أنه ليس نقدا مما اعتدنا عليه على شكل دروس يعطيها اليسار اللا-ديمقراطي للموقف اللا-ديمقراطي السلفي) مستخدما الأدبيات الإسلامية في تفسير آيات القرآن الكريم والحديث الشريف لتفنيد الكثير من هذه الثنائيات. ويرى أن تطبيق الشريعة هو قرار الأمة وليس قرار حاكم مستبد، وبالتالي يجب عدم فرض أي تشريع بالقوة. كما قدم القديمي تحليلا مضمونا لعدد كبير من الدراسات والكتب السلفية، ليخلص إلى أن هناك ملامح منهجية مشتركة يمكن اختزالها في خمس نقاط: الأولى، أنهم يلازمون بين مفهومي الديمقراطية والعلمانية، ويستخدمون هذا الربط لنفي المشروعية الدينية عن الديمقراطية. ثانيا، استحضار نماذج ديمقراطية مشوهة. ثالثا، سرد المطولات من أجل إثبات عدم جدوى النظام الديمقراطي، وذلك وفق معلومات انتقائية تفتقر إلى التماسك والدقة، وأغلبها منقول من كتابات غربية تمارس نقد هذا النظام بهدف إصلاحه لا إلغائه. رابعا، الهوس بالنموذج الأميركي، حيث يتم تشريح عيوبه وتأثير الإعلام ولوبيات المال وشركات السلاح، بينما يتم تجاهل نماذج ديمقراطية أخرى. أخيرا، تدبيج المدائح للنظام السياسي الإسلامي الذي يمثل- كما يقولون- منتهى العدل والرحمة والتكافل، من دون بذل جهد لرسم ملامح لطبيعة هياكل السلطات وآليات الاختيار والمراقبة والمحاسبة في هذا النظام.
ولعلي ما أعيب على كتاب القديمي هو غياب أي نقاش عن كيفية تناول موضوعة الديمقراطية بدون ربطها بمفهوم الدولة المدنية، وربما لم يجرؤ وقتها على التنظير لذلك قبل الانتفاضات العربية، فأول طبعة للكتاب كانت عام 2009.
فرضت الجماهير الغفيرة التي نزلت إلى الشارع على جميع الحركات السياسية بالأخذ بصوت الأغلبية والتفكير بفصل السلطة الزمنية عن الدينية. وهذا ما أظهرته جليا نتائج استطلاع الرأي للجماهير العربية “المؤشر العربي” الذي أصدره المركز العربي للأبحاث والسياسات عام 2015، من أن الأغلبية الساحقة من هذه الجماهير تؤمن بالديمقراطية والدولة المدنية.
(أستاذ علم الاجتماع، الجامعة الأميركية في بيروت)
العربي الجديد