النزوح هرباً
أنت “المواطن” المقيم في منطقة موالية في الداخل السوريّ. ترقب شواء بلدك، وتحاول أن “تحوص”، أن تنتفض، أو تتمطط حتى آخر سنتيمتر في المساحة المتروكة لدبيبك.
تصادف في الطريق جاراً قديماً. يا إلهي! إنه جاري ز. بائع البسطة. من أين له البدلة المموهة، ولماذا أرخى لحيته حتى صدره، وما هذه العمامة السوداء على رأسه وليس في زيّنا ما يشبهها؟! تسأله: ما هذا يا ز…؟
– أنا من اللجان الشعبية. أخيراً وجدت شغلاً وصار عندي راتب شهري. عمنطلع غارات على المسلحين بدرعا قبل ما يهجموا على بيوتنا، وأحياناً مندخل بالوساطات لفكّ المخطوفين.
تبتلع أفعى الكلام وتمضي.
يشيّع ابن جيرانكم شهيداً في جيش الوطن. يهتف أخوه في الجنازة: أخي فدى الوطن (أخو الشهيد هو المندوب الرسمي لتأمين المازوت والغاز لأبناء الحارة، والمندوب السريّ لتأمين السلاح لأهلها بالسعر الذي يطلب). تستغرب أن أخاهم الثالث غائب عن الجنازة. تنتبه أنك لم تعد تراه في الحارة منذ مدة. تسأل أخاه، باسم الجيرة، عن غيابه. يجيبك: هو في مهمة وطنية في إدلب. ولا يستطيع أن يظهر بين أهله هنا بذقنه الطويلة. يتابع الأخ: وهبه الله ذقناً حمراء اللون كذقون الأفغان والشيشان، ومن طريقها ينصبون الكمائن للمسلحين هناك. يرونه فيحسبونه مسلماً جاء من بلاد الإسلام لنصرتهم، فيستدرجهم إلى الجهات المختصة.
تكتشف كم يستحيل عليك إقناعه بأن يستعيد أخاه. تراه يجيبك بطعنك في شرفك ووطنيتك، ويبدأ أهل حارتك باجتنابك وقد أشاع جارُك هذا خبر معارضتك!
أنت الذي عاهدتَ نفسك ألاّ تنام في هناء تابوتٍ اسمه “منحبّك”، و”زغيرة يا كبير”، و”كنا بألف خير”، و”لو إجوا الإسلاميين راح يذبحونا”.
قد تختار الحياد: “أنا ما دخلني. يصطفلوا. تقول: لن أزعج أحداً، سأكون بشراً مسالماً، مواطناً صالحاً (غير ناقم)، أروح إلى أشغالي بصمت واستقامة
لكنّ استقامة المواطن الآدميّ هذه تستفزّهم كدمّلٍ موجع.
قد تقول: لكنّ لي رأيي! أنت الذي خرجتَ أيام كانت في البلاد تظاهرات “الموت ولا المذلة”، وأنت الذي قلتَ عند أول مجزرة: “لا للقتل أياً كان القاتل”. وأنت الذي بدأتَ تغيث أبناء بلدك النازحين إلى منطقتك حين توالت قوافل النزوح. أنت تغيث أخاك السوريّ كمواطن يحترم نفسه وإنسانيته وإنسانية أخيه. لكنّ فعلك هذا يتجاوز حدود الأدب: “كيف لك وأنت ابن الأقلية المدللة أن تكفر بالنعمة، أو كيف تجرؤ على فعل ما لا نريد وأنت من نقاتل العالم كله لنحميك؟!”. يحاولون إعادة تأهيلك بأن تصير طعاماً لأشداق السجون ومرمى لعصا السجان، وعبرةً لمن يعتبر، وتصير منبوذاً ومغضوباً عليه من حكومة ومن أهل ومن أصدقاء الأمس.
تقول: ستظل وجهتي سوريا الواحدة. لي عزوةٌ في أبناء بلدي في سهلها ونهرها وجزيرتها وساحلها. أين صار هؤلاء؟ رحلوا أو اعتقلوا أو استشهدوا، أو ضاعت أخبارهم في هذه البلاد التي صارت ثكنةً عسكرية كبيرة أو سجناً كبيراً.
كل يوم ترى كم يخنقك العيش. يحكمك مزاج “تقنين” الكهرباء، ودبيب الاتصالات أو انقطاعها، ودخلك الشحيح، والغلاء الوقح، ومدخراتك التي تنفد.
لكنك لن تحتمل – أنت الذي لا حرب في منطقتك – أن يتكدّس السلاح فيها أكثر من الطحين في أفرانها، وأن تتمزق طرقها إلى حواجز تحرسها وجوهٌ مسعورة وكلاشنيكوفات ملقّمة.
كل يومٍ ترقب غياب الدولة وانفلات الأمن، وتنزف خوفاً من الفقر ومن السرقة ومن الخطف ومن الاعتقال ومن القتل. ترقب بعينيك كيف يتكرّس الاستبداد نهجاً، وقتل الأبرياء نهجاً، وتدمير الإنسان نهجاً، وكم أنت الآن عاجزٌ ووحيد ومنبوذ!
ترى بعينيك كيف أصبح هجرُ البلاد أيضاً نهجاً، بل صار عدوى، أنت أضعف من أن تقاومها.
لكنك تحاول. تجلس على مقعد الفقد، كحارس تعيس يذاكر أسماء أحبّته الغائبين، وأوصافهم، وكلّ ما عاشوه معاً وكلّ ما اقتسموا من آمالٍ ومن وعود، وكل هذه الوحشة التي تركوا. لا تنتبه أنك، من فرط الفقد والخوف والوحشة، تبحث في اللاوعي عن سبيلٍ للنجاة، واللحاق بأصحابك المشتتين في كل أصقاع الأرض، تقول لنفسك: هم هناك في أمان لا يشبه جحيمك هنا. وقد طالت محنة البلاد، واشتدّ بطش النظام، وتأسلمت الثورة، وفسدت قيادات المعارضة، وخاننا العالم كله. أنا أيضاً أخشى على نفسي وعائلتي. لماذا لا أفرّ بها من هنا؟
كل يومٍ تصارع كي لا تفرّ بروحك خارج البلاد.
لو لوّحتْ لك بارقة أملٍ بالخروج، ستشيح الطرف عن أنك هنا في بلدك تحرس كرامتك وتحمي محيطك الصغير، عن أنك طبيبٌ يعالج أبناء بلده المرضى والمحتاجين، أو محامٍ يحاول إنصاف الحق. أو مهندس يؤسّس لبناء متين وبحد أدنى من السرقات والمخالفات، أو معلّم يربّي عقولاً ويُمِرّ عبر دروسه علمَه وأفكاره، أو تاجر يكتفي بربحه الحلال، أو أديبٌ كان يكتب بخجل وبخوف وبمواربة ويرمي فكرة هنا وهناك، ولا بد من أن يعلق في رأس قارئيه بعض كلام.
هؤلاء هم من يهاجرون في ظروف كهذه. هو ما يسمّى: “النزوح هروباً”.
الفقراء وأنصاف المتعلمين لا يحملون عائلاتهم إلى المجهول؛ هم ينكفئون إلى خوفهم وجوعهم في ستر بيوتهم. حتى نزوح الهروب يحتاج إلى مال، وجيوبهم خاوية، ولا رجاء لهم في أن يستضيفهم أحد!
ستُخلي مكانك الصغير، وأنت المحامي والمهندس والطبيب والمدرّس، وأنت الذي كنتَ شامةَ البلد، تخنق عملك الصغير في محنة البلاد الكبيرة؛ عملك البسيط الذي ليس أقلّ من جهاد.
تبرّر لنفسك: لم يبق في البلاد سوى الطغاة والمستفيدين والعاجزين وكل من لم يستطع الهروب.
تميد البلاد في ذعرها على مصير أحيائها الباقين. بين ضعيفٍ يكابد هذا العيش المرّ، وناشطٍ ينتظره سجنٌ أو منفى، ومنفيٍّ خارجها إلى المجهول.
من فرط ما ضاق بك المكان والحصار لم تعد تنتبه إلى فداحة ما ستخسر أنت قبل محتاجيك.
وقد تعيه، وتشيح عنه.
العبرة في “قيامة” السؤال، في نكزه الدائم وفي لجاجته وفي اشتداده.
أنت تريد البقاء، لكن هول البقاء فوق احتمالك.
وأنت لم تحسم أمرك بعد في الخروج.
وما بينهما ستبقى أنت مشتّتاً كأوصال البلاد.
ابن الحسكة يكتب لصديقته: “لم أحتمل. أنا في الطريق إلى ألمانيا. ادعيلي يا وردة هذه البلاد. ربما، بحراستك، يشتد أزر قلبي الضعيف، وحياتي صارت في مكان آخر”.
وصديقٌ من الرقة يكتب: “ذاهبٌ إلى تركيا. صارت الحياة في الرقة لا تطاق”.
وصديقةٌ من حمص تقول: “نضبت حمص وليس لي مكان أروح إليه. راسلتُ الجميع ولم يجبني أحد. أكتفي بسعادتي يوماً بيوم حين أعود من العمل سالمة وأجد طفلاتي سالمات”.
وابن درعا يتطلّع إلى أرضها من هناك، من منفاه في الأردن خلف الحدود القريبة، يرقبها كيف تصير حقولاً محروثة، جاهزة لزرع البطاطا.
وابن السويداء يتمتم: “كانت هذه الأرض فقيرة دوماً ومنسية. كان لنا فيها خبزٌ حافٍ. واليوم ينضب الخبز وتتسع السجون”.
تجد نفسك تغبط هذا المنفيّ الآمن بروحه الباهتة. الآمن المسلوخ عن مسقطٍ لن تمنحه الحياة سواه، وليس قربه لا أمٌّ ولا أب ولا أخوة ولا جيران العمر القديم ولا أصدقاء الطفولة والنشأة والنضج، ولا زملاء عملٍ ولا ماضٍ ولا ذاكرة.
هؤلاء الفريدون، الذين لن يقدر أن يستنسخهم أو يصوغ أشباهاً لهم في مقامه الجديد. ليس لأنه يفتقدهم ككتفٍ يتكّئ عليها ويبكي في لحظات الضعف، إنما لأن حياته في المنفى ضعفٌ محض. حتى لو تجاهل مشقّة العثور على بيت وعلى عمل جديد؛ لن يشفى من الفصام في داخله إلى نصفين، أحدهما مربوطٌ إلى وطنه بحبال الحنين، والثاني يستميت للاندماج في مجتمعه الجديد.
كل يومٍ تسأل نفسك: إلى متى أبقى في سوريا؟
كل يوم يموء جوابك: هي بلدي. كيف أغادرها قبل آخر لحظة يمكنني فيها البقاء؟!
كم قد تتسع وتتفضفض هذه الـ: “يمكنني”؟!
النهار