النظام السوري المعطّل
هوشنك بروكا
“الدبابة هي الحل”..هذا هو خيار النظام الأخير، ل”إصلاح” سوريا وشعبها، كما تقول الدبابات الآن في الميدان. منذ الأول من “إصلاحاته المعلنة” ركب النظام خياره الأمني العسكري، وحربه المعلنة ضد الشعب السوري، ابتداءً من درعا، مروراً ببانياس وحمص وتلبيسة ودوما، وليس انتهاءً بمعضمية الشام.
درعا التي لا يمرّ عليها يومٌ دون قتلٍ أو خطفٍ أو اعتقالٍ لا تزال محاصرة، ممنوعة من الحياة، ومقطوعة من كلّ العالم. بانياس تحت خط نار النظام وحبيشته، تتعرض لأبشع صنوف القتل والإرهاب المنظمين. البيضة، كان إطلاق النار عليها أمس، مثل زخ المطر. حمص، تعيش الآن تحت قصف الدبابات، وصناعة القتل والإعتقال وعمليات التمشيط فيها، جارية على قدمٍ وساق.
لا صوت الآن يعلو في سورية، إذن، فوق صوت الدبابات ورصاص القناصات.
الواضح من ممارسات النظام واستخدامه المفرط للقمع، الخارج على كلّ العقل، ومن صناعته للقتل المبرمج المزدوج بحق المتظاهرين وعناصر الجيش(لتمرير روايته عن الإرهاب السلفي والمندسيّن العملاء للخارج)، هو أنه مصرّ على تصفية الثورة وأهلها بإعلان الحرب عليهم، “زنقة زنقة”، وليس هناك، حتى اللحظة، أيّ بصيص أملٍ يلوح في الأفق، لتوقف حرب النظام على الشعب.
توسيع النظام لدائرة حربه الصريحة، ونشره لقوات الجيش في مدن أخرى كثيرة بعد درعا، وتصريحات فقهائه، وتنظيرات محلليه، وأجهزة إعلامه الأكثر من كاذب؛ كلّ ذلك يشير إلى أنّه ليس في حوزة النظام السوري ما يقدمه للشعب السوري، سوى الحرب والدمار والخراب وسياسة كمّ الأفواه وقتل الحريات.
ما يمارسه النظام السوري ضد شعبه من قتلٍ جماعي، وإعتقالات عشوائية، وحصار للمدن بالدبابات، وقطع للماء والكهرباء وكل وسائل الإتصالات عنها، يؤكد بوضوح لا لبس فيه، أنّ هذا النظام قد أصبح كشقيقه الليبي، قاب قوسين أو أدنى من “الفاشية”.
النظام لا يتحدى في حربه المسعورة على الشعب السوري فحسب، وإنما يتحدى العالم وكلّ مؤسساته الأممية أيضاً.
فعلى الرغم من تبني مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، قراراً أدانَ فيه استخدامه المفرط للعنف ضد المتظاهرين، وطالب بإرسال بعثة بصورة عاجلة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان هناك، إلا النظام لا يزال يدوس على كلّ ما يمكن إدراجه ضمن حقوق الإنسان، جهاراً نهاراً أمام أنظار العالم، وذلك في إشارة واضحة، أن هذا النظام يعيش لكأنه في “غابة اممية”، أكثر من عيشه في مجتمع اممي.
ليس لقرارات الأمم المتحدة وكائناتها الأممية أيّ اعتبار يُذكر في حسابات النظام السوري. هذا النظام الذي يتغوّل في سوريا منذ أكثر من أربعة عقودٍ، ويتصرّف بها كما لو أنها “غابته”، يدير ظهره الآن(حيث سوريا تُذبح بيده على رؤوس الإشهاد) لكلّ العالم وكأنه يريد أن يقول له: “سوريا هي ملكي، وللمالك حقٌ في أن يتصرّف بملكه، متى وأنى وكيفما يشاء، ولا شأن لأحد بي.. أنا أولى بسوريا ومن فيها وما عليها..فالأقربون أولى بالقتل”.
بعد مرور ما يقارب إسبوعين على هذا القرار الأممي، لا تزال السلطات السورية ترفض دخول أية بعثات أممية المناطق التي ارتكب فيها النظام جرائم بشعة بحقوق المدنيين العزّل. فعلى الرغم من إعلان الرئيس السوري بشار الأسد، خلال مكالمة هاتفية مع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، عن “الإستعداد للنظر في تقييم الأوضاع الإنسانية في درعا”، إلا أنّ الفرق الإنسانية التي أرسلتها المنظمة الدولية، لا تزال تُمنع من الدخول إلى درعا.
والأنكى أنّ النظام السوري، كان قد تشبث حتى يوم أمس(قبل حلول الكويت محلها)، ب”حقه” في الحصول على مقعدٍ في مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، رافضاً كل الضغوط التي ُ مورست عليه للإنسحاب من السباق، وهذا الإصرار المجنون، لا يعني في العالم المفتوح اليوم، سوى شيئاً واحداً، وهو أنه لم يبقَ لدى هذا النظام ما يستحي ويخجل منه قطّ، و”إن لم تستحِ فافعل ما شئت”، على حد قول المثل.
النظام السوري لا يصنع القتل بحق الشعب، ولا يدوس على المواثيق والصكوك الأممية الخاصة بحقوق الإنسان فحسب، وإنما يتحدى العالم أيضاً بثقة غير عادية، بأنه “مستعد لمواجهة أية إدانة دولية أو عقوبات”، على حدّ تصريحٍ أدلت به “فقيهة” النظام السوري ومستشارة رئيسه، الدكتورة بثينة شعبان، لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
بعد أن تركت شعبان وراءها “زفة الإصلاحات” التي كانت قد أعلنتها قبل أكثر من شهرٍ ونصف، وذهب مشروع “الإصلاح” إلى أكثر من تعطيلٍ كان متوقعاً، وبات كلّ ما يمكن تسميته إصلاحاً في حكم الميت، خرجت علينا الآن، لتتباهى أمام العالم، ب”أن الأخطر في الثورة التي عصفت بسوريا منذ حوالي شهرين قد مرّ وأصبح وراءنا، مؤكدة أن الحكومة السورية سيطرت على الانتفاضة الشعبية المناهضة للرئيس السوري”.
بدلاً من أن تعترف “فقيهة” النظام، بأن ما جرى ويجري الآن في سوريا هو حقيقة سورية بإمتياز، يجب الجلوس إليها مع كلّ السوريين على طاولة واحدة، لتحقيق إصلاح شامل كما كانت قد وعدت الجمهور السوري، من قبل، تأتي وتخرج على السوريين الآن، بأن الثورة السورية التي عمّت كلّ سوريا، هي على وشك أن تصبح “تاريخاً ميتاً”، سينتهي النظام من إنجاز “نصره العظيم” في القريب العاجل.
وإذا كانت سيدة “فقه النظام” قد نست ما أعلنته بالأمس للشعب السوري، ووعدته على لسان رئيسها ب”حزمة إصلاحات، لتأتي اليوم وتبشر العالم ب”نهاية” الثورة السورية، تحت قصف الدبابات، فأن ذاكرة السوريين ليست كذاكرة النظام ساذجة ومثقوبة، إلى هذا الحدّ.
رغم كلّ هذا الإصرار من جهة النظام على قمع المظاهرات بالرصاص الحي، وإعلانه الحرب على كلّ مدينةٍ تهتف لحريتها، لا يزال هناك من يسأل السؤال البديهي التالي: لماذا لا يقوم الأسد بإصلاحات حقيقية، و من يمنعه عنها؟
رغم انحياز النظام السوري إلى الخيار الأمني العسكري، واختياره للدبابة حلاّ للعبور إلى “الإصلاحات”، لا يزال هناك من يؤمن بنظرية “انقسام” النظام(الذي لا يزال الأسد رئيساً له ويحكم به سوريا بقبضة من حديد) على نفسه بين “جناح الصقور” و”جناح الحمائم”.
ربما من هنا، يمكننا فهم مرونة الموقفين الأميركي والأوروبي من الأسد الرئيس، الذي لا يزال مستثنياً من العقوبات هنا وهناك.
فبالرغم من الأهمية الرمزية للقرار الأوروبي الأخير القاضي بفرض عقوبات على 13 مسؤولاً سورياً بينهم شقيق الرئيس السوري ماهر الأسد رئيس الحرس الجمهوري وقائد الفرقة الرابعة، وابن خاله رجل الأعمال رامي مخلوف، ورئيس المخابرات علي مملوك، ووزير الداخلية محمد إبراهيم الشعار، إلا أنّه باستثنائه للرئيس السوري بشار الأسد، من “المعاقبة”، كما فعلت أميركا من قبل، يعني أنّ أوربا وأميركا لا تزالان تعوّلان على “بعض” النظام تحت قيادة الأسد، في القيام ب”إصلاح” سوريا، بإعتباره ممثلاً للجناح “الإصلاحي المعتدل”.
سيدة الديبلوماسية الأميركية هيلاري كلينتون نفسها، لا تزال تعوّل على هذه الفرضية. ففي مقابلةٍ حديثةٍ لها مع القناة الإيطالية الحكومية الثالثة، قالت “أنّها لا تزل مقتنعة حتى اللحظة، بأن الأسد قادر على تنفيذ الإصلاحات المعلنة”.
ربما يكون الهدف من هذا التعويل على الأسد في كونه “رئيساً إصلاحياً”، وبالتالي من إستثنائه من “المعاقبة”، راهناً على الأقل، هو إحداث “انشقاق” في موقف النظام من الأحداث الجارية الآن في سوريا. ولكن يبدو ذلك على المدى المنظور شبه مستحيلاً. هذا ما يقوله ماضي النظام وراهنه في الأقل.
الأسد نفسه رفض فكرة تقسيم النظام إلى “بعض متشدد” ضد “بعض إصلاحي”. في خطابه الأول قال صراحةً: “هناك مسؤولون أجانب يقولون بأن الرئيس إصلاحي أما من حوله فيمنعونه..أما أنا فأقول العكس..هم يدفعونني نحو الإصلاح”.
من يفكّر بأن الأسد يريد إصلاحات، وهناك من يمنعه من تحقيقها، هو أكثر من مخطئ، وأكثر من واهم، فالأسد بشار هو كالأسد ماهر، ولا خلاف بينهما على حكم سوريا بقوة الحديد والنار، كما قد يُظن. هما يحكمان معاً، يقولان معاً، ويفعلان في سوريا معاً.
هما مجتمعان في نظام واحد ضد سوريا واحدة وشعب واحد.
لا إصلاح أصلاً لدى الأسد، كي يقدمه لشعبه، ولا أحد يمنعه سوى نظامه “الممانع”. فهذا الوجود المعطّل للرئيس، هو من ذاك الوجود المعطّل للنظام المعطَّل أساً وأساساً.
الرئيس الأسد، لا بدّ له من أنّ يعطّل الإصلاح، وكلّ طريق يمكن أن تؤدي إليه، لأن أول الإصلاح يبدأ من كرسيه المعطل.
النظام السوري، نظام معطّل لا يسمح بأي إصلاح، وإلا سينهار من قمة الهرم إلى قاعدته، ب”صقوره” و”حمائمه” الوهميين.
كلّ النظام، مؤسسٌ على كلّ التعطيل: تعطيل الشعب، وتعطيل كل مؤسسات الدولة المدنية، وتعطيل الحريات، وتعطيل الأحزاب والإعلام والقضاء، وتعطيل كل ما يمكن أن يلحق سوريا بركب حضارة القرن الواحد والعشرين.
ما هو فاعل الآن ويشتغل عليه النظام، هو الحرب ضد الشعب لأجل البقاء، ولا شيء سواه:
أنا أو الشعب..أنا أو الخراب..هذا هو خيار النظام الأخير. لذلك لا طريق للخلاص، أمام النظام، كما تعتقد رؤوسه، سوى الحرب..حرب “وجود أو لا وجود”.
لا حلّ آخر أمامه، كما يقول زمانه الأخير، إلا الدبابة، وهي تمشي على جثة المدن.
ايلاف