رستم محمودصفحات سورية

النظام السوري و”العروبة التجارية”


رستم محمود

قضي الأمر، ولم يُشفع للكاتب الفلسطيني الأردني سلامة كيلة أي شيء، ورُحل إلى الأردن. أبُعد بعد اسبوع واحد من اعتقاله، فقد بات في المكان غير الصحي من معركة النظام السوري، المعركة التي ربما تكون الأخيرة. لم يشفع لكيلة مئات المقالات وعشرات الكتب التي سطرها طوال عمره، دفاعا عن قضايا العدالة الاجتماعية والسياسية والثقافية. وكذلك لم يشفع له نضاله المديد والحاسم لسنوات طويلة عن قضية فلسطين واهلها.والأهم، أن زواجه من سورية (رفيقة دربه المناضلة والكاتبة السورية ناهد بدوية) وسنين اقامته المديدة في سوريا، لم تردعا آلة النظام من إلقائه خلف الحدود، فهذان الاعتباران يؤخذان قضائياً، حين تكون القضية متعلقة بالإبعاد. فالعرف القضائي العالمي يأخذ الذاكرة وتعلق الفرد بالمكان والمجتمع في اعتباره، حين يهم باتخاذ أي قرار يتعلق بإبعاد إي فرد عن الدولة، أيا كان جرمه. فسلامة كيلة الذي لم يعرف غير دمشق وحواريها ومقاهيها وجدالاتها وناسها وهمومها مكانا، انتزع جسده من كل تلك البحيرة الإنسانية، بكل أبعادها، بجرة قلم واحدة.

قبل قضية كيلة بأربع سنوات بالضبط، كانت السلطات السورية قد أبعدت الدكتور غازي العليان الفلسطيني-الأردني الآخر، بسبب النشاط السياسي لزوجته، الدكتورة فداء أكرم الحوراني. حيث أتُخذ ذلك القرار بالإبعاد، بالتزامن مع الحكم الصادر على زوجته بسبب رئاستها لتجمع “إعلان دمشق” المعارض. وقبل ذلك بعامين انتشرت الكثير من الشائعات مفادها أن السلطات السورية سلمت العشرات من الناشطين الأحوازيين العرب لإيران، ولسوء الطالع، فإن أحد هؤلاء كان يحمل الجنسية الهولندية، حيث كُشفت القضية بعد متابعة الحكومة الهولندية لها. بين زمن القضيتين، كانت السلطات السورية نفسها، قد هددت الحكومة العراقية بترحيل آلاف العراقيين المقيمين على أراضيها. كانت تهدد بذلك، كلما كانت السلطات العراقية تتهم نظيرتها السورية بالوقوف وراء العلميات الإرهابية التي تنفذ على أراضيها. شكلت كل تلك الأمثلة، والكثيرات الاخريات مثلها، نماذج عن سلوكيات النظام السوري تجاه المواطنين العرب الذين يقيمون على الأراضي السورية بظروفهم المختلفة، لاجئين كانوا أو مقيمين. حيث يشكل ذلك التعامل دليلا ومعيارا معبرا عن طبيعة فهم ووعي النظام السوري الفعلي المباشر للـ”العروبة”. فطالما أن العروبة برمزيتاها وطروحاتها الكبرى، في الوحدة والحرية والاشتراكية، لا تملك دلالات ومعايير عيانية لقياسها، فإن مثل تلك التصرفات المباشرة الجزئية، تدل على طبيعة الوعي البراغماتي الاستغلالي لمفهوم العروبة، بحكم موقع سوريا الجغرافي وطبيعة المجتمع السوري.

دوما، كان ثمة ما يشبه الترافق بين تحولات طبيعة النظام السوري الحقيقية، وبين استلهامه ووعيه لمفهوم العروبة، ربما لأن العروبة بأشكالها المختلفة، وعلى نحو دائم، كانت تشكل البنية الحقيقية للأنظمة السورية المختلفة. فحكم البعث الأول (1963 -1970)، امتاز بالخضوع النسبي للنظام السياسي لطروحات العروبة البعثية. حيث كان ذلك مدخلا لبرود العلاقة بين سورية ومحيطها العربي والتركي، بسبب ذلك التطابق بين الطروحات العروبية والنظام السياسي. فقد كانت “سوريا الايديولوجيا” وقتها، تشكل الاستفزاز السياسي النظري لكل محيطها السياسي. وفي الوقت نفسه، كانت القطيعة قد رسمت الخطوط بين النظام السياسي والطبقة البرجوازية التقليدية السورية التي كانت تحكم سابقاً. ذلك التماهي بين النظام السوري وقتها و”القيم” النظرية للعروبة أدت، بما تسببت به من أزمات، إلى انفصام قاطع بينهما في انقلاب 1970. فنظام الرئيس الأسد (1970-2000) تخلى منذ البدايات عن ذلك الانشغال النظري بالعروبة ومفاهيمها، وإن حافظ في الخطاب السياسي والمحمول الايديولوجي للنظام على خطابيته العروبية تلك. فجل التحالفات والسلوكيات السياسية الاقليمية التي نسجها نظام الأسد، كانت تتوزع على طيف واسع من الخيارات التي كانت تتباين في كثير الحالات مع ذلك التبني النظري للعروبة العقائدية، وإن كانت في مرات كثيرة تتناقض معها بالتمام، خصوصا في مرحلة الثمانينات، حين الانقسام الاقليمي الحاد بين المحورين العراقي والإيراني. وفي الداخل السوري، كان الاسد قد اعاد الاعتبار، وربما التحالف حسب الكثير من التحليلات، للبرجوازية التجارية المدينية، وأوقف كل السياسات العقائدية التي كانت تمارس قبل انقلابه، وفي دلالة على تلك المصالحة بين الجانبين، رفع تجار سوق الحميدية لوحة على مدخل السوق مكتوب عليها “أردنا من الله المدد، أرسل لنا حافظ الأسد”.

في التحول السياسي الثالث الذي دخله النظام السوري منذ عام 2000، تم التخلي الكامل عن البنية الحزبية والخطابية العروبية التي كان النظام يستند إليها، حيث بقيت العروبيات الخطابية بكل أشكالها الحزبية والقانونية والمؤسساتية، نزورا ونكاتا يتناولها الشارع السوري. فالبقية الباقية من “التراث” النظري والعياني قد تم التخلي عنه، من خلال السياسات الاقليمية القائمة على المصلحة الامنية البحتة للنظام السياسي من طرف، ومن خلال السياسات الاقتصادية الليبرالية غير المعقلنة من طرف آخر. فالنظام السوري في عقده الأخير تحول إلى جسم محض أمني وجهازي، فلا عقيدة سياسية ولا جوهر ورؤية نظرية وخطابية له. فالنظام جوهر ذاته، واسباب بقائه هي معنى ومقياس أدائه وسلوكياته. فالعروبة لم يبق منها، إلا ما بقي للسيف من استعمال في العصر الحديث.

وفق سيرة التعامل الانتهازي مع العروبة، كانت تجري حكايات تعامل النظام السوري مع كل الأطر النظرية الأخرى في حمالته السياسية، من إسلام وطائفية وليبرالية وحرية واصلاح وتصليح…الخ. فالنظام جوهر نفسه، وباقي العدة لزوم ما لا يلزم، فالظاهر أن الاستبداد هو منبع الأنانية من دون استثناء.

مرة طالب أحد النواب اللبنانيين من اللواء غازي كنعان رئيس قوات الاستطلاع السورية في لبنان، طالبه بأن تخفف القوات السورية من ضغوطها وممارساتها غير اللطيفة مع المواطنين اللبنانيين، الذين يشكون منها. فابتسم اللواء كنعان ورد ببساطة: بس لو يشوفوا شو بتساوي هالقوات بالمواطنين السوريين !!

لن تكون سوريا بلداً للعرب والأكراد والمسلمين والشرق أوسطيين وكل البشر، قبل أن تكون وطناً حراً لمواطنيها السوريين الأحرار أولاً.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى