رستم محمودصفحات سورية

النظام في لحظة تفككه: من الاستبداد السلطاني إلى الاستبداد الفاشل


رستم محمود

يأخذ الكثير من الطلبة السوريين، الذين يتقدمون هذه الإيام لامتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية هذه الإيام، يأخذون معهم فتوات محلية لإجبار المراقبين للسماح لهم بإدخال الكتب والمراجع والهواتف النقالة للقاعات الامتحانية . حيث توصف الامتحانات هذا العام، بأنها الأسوأ منذ تاريخ بدئها قبل قرابة القرن. فعدد هائل من الطلبة يمكن أن يستحوذوا على الدرجة الكاملة في كلا الشهادتين، الشيء الذي سيعيق فرز الطلبة على الجامعات السورية الرسمية بشكل عادل. حيث كانت عملية الفرز تلك بين الطلبة حسب مستوياتهم العلمية، وكل الجهاز العمومي لوزارة التربية السورية، يعتبر من أقل مؤسسات الدولة السورية فسادا واختراقا. الدلالة مباشرة لما يجري في العملية الإمتحانية، تذهب لرضى الدولة في التخلي عن كل أدوارها الانتظامية الأخرى في المجتمع، لصالح القوى المحلية في أكثر من مجال، من التعاقد على توزيع المواد التموينية مع القوى المحلية في بعض المناطق، إلى تسليم الإدارة الأمنية في أكثر من منطقة لتنظيمات الشبيحة وما شابهها، إلى أخلاء سبيل الكثير من الموقوفين عن طريق التفاوض مع القوى المناطقية …الخ . تتخلى السلطة عن جزء من «جبروت» هيبتها الرمزية والفعلية على الأرض، لصالح قوى محلية متعاقدة معها، شريطة أن يعينها ذلك على شحذ كل قوتها في المناطق الأكثر حاجة لذلك .

يشكل ذلك إخلالاً بتوازن المعادلة التي كانت تضبط نمط الحكم السوري في «زمن البعث»، خلال نصف قرن كامل. فقد كانت التسوية «غير العادلة وغير الحرة» بين المجتمع السوري ونظام حكمه تقوم على آلية بسيطة: يستولي النظام الحاكم على كل الحقل العام، بشروطه السياسية والثقافية والاقتصادية والإدارية، لا ينازعه فيها أحد. مقابل ذلك فأنه يحرص على منع أي صدام أهلي أو مجتمعي في الداخل السوري، ويذهب لتأمين الحد الأدنى من ضرورات الحياة المعيشية والصحية والتعليمية للكتلة الأكبر من السوريين، وإن بشروط وأشكال بالغة الرداءة، لكن عبر جهاز عمومي بيروقراطي مقونن. وفوق ذلك فأنه سيمسك بكل خيوط اللعبة الأمنية بشكل حازم وبأدواته المباشرة. لا بأس بأن يعمل على رفع طبقات اجتماعية وحجر وتهميش أخرى في فترات زمنية مختلفة، كصعود الحزبيين اليساريين في النصف الثاني من الستينات، وزيادة نفوذ البرجوازية المحلية المدينية في عقد السبعينات من حكم حافظ الأسد، ثم صعود التعبيرات «العلمانية-الطائفية» عقب أحداث الثمانينات، ثم صعود ظاهرة الرأسماليين والأغنياء الجدد في التسعينات، ثم صعود طبقة أبناء المسؤولين في العهود الأكثر حداثة .

كان ذلك نمطاً محدثاً من الحكم الاستبدادي السلطاني، حيث الحاكم وحده يوزع المغانم ويحكم في المظالم، ويدير لعبة السلطة وطبقات المجتمع. يخضع لمعيارين رئيسيين في علاقته مع تلك الطبقات، التي يعمل على ترقيتها والحكم عبرها. فمن جهة لم تكن تلك الطبقات تعبر عن نفسها بشكل فردي مستقل وظاهر، خارج جهاز الدولة، فكل الطبقات التي صعدت في الأزمنة المختلفة، كانت مغطاة بجهاز الدولة ومؤسساتها، تلك المؤسسات التي تم أنشائها واختراعها في لحظات الحاجة. حيث يمكننا ببساطة المقارنة بين «مؤسستي» سرايا الدفاع التي تكونت في بداية الثمانينات، أثناء الصدام مع الإخوان المسلمين، وبين ظاهرة ميليشيات الشبيحة الحديثة، التي تقوم بدور شبيه بدور «سريا الدفاع«. فالأولى، بالرغم من كل شيء، كانت تعتبر جزءا من جهاز الدولة الرسمي العسكري، بينما الأخيرة لا ترتبط بأي معنى بهذا الجهاز أو بغيره. فهي تنظيمات غير مقوننة وغير مغطاة بأي من هيئات ومؤسسات الدولة الرسمية. الأمر الآخر، أن تلك العلاقة بين الطبقات المحلية الصاعدة وجهاز السلطة في سوريا لم تكن يوما علاقة تعاقدية أو تكافؤية بين الطرفين، كما هي راهنا. فدوما كانت السلطة تمنح بعض مغانمها وسلطتها لبعض الأرداف حين تحتاج، عن طريق المنح والتفضُل. حيث تبقى مضبوطة ومحكمة السيطرة عليها، فالمعادلة لم تكن يوما متكافئة بين الطرفين، فالسلطات كانت دوما قادرة على سحب ذلك المنح من تلك الأطراف ومنحه لغيرها. بينما ما يجري حاليا هو تواطؤ شبه متكافئ بين الطرفين. حيث يمكن ملاحظة الفرق بين علاقة السلطة وطبقة التجار المدينيين، التي كانت في المراحل المختلفة، والعلاقة الراهنة بين السلطة والعائلات التي تسيطر على شبكات التهريب (عائلة بري الحلبية مثال صارخ على ذلك) بشكل جلي. حيث يكمن النموذج التقريبي للانتقال من آلية المنح التي كانت تمارسها السلطة إلى آلية التعاقد.

يعاني الاستبداد السوري اليوم مع هذه الجماعات التي يتعاقد معها من مشكلتين اساسيتين . فنموها قد يحيلها إلى مكانة تستغني بها عن علاقتها مع الجهاز الاستبدادي اساسا، فهي قد تتحول بتطور بنيتها وتعاضدها الداخلي إلى جماعة استبدادية مناطقة أهلية. الشيء الذي قد يمنحها القدرة على نقل البارودة من كتف لآخر، وقد تكون بلحظة ما، جاهزة للانقلاب على من تأتمر بأمرهم، أو على جزء منهم بأقل تقدير. لذا فأن السلطة التي تدفع لتقويتهم في كثير من المناسبات، تحرص على الخفض من وزنهم النسبي مقارنة بوزنها على الدوام. القضية الأخرى تتعلق بعدم قدرة جهاز السلطة على توزيع المغانم عليهم في لحظة مستقبلية قادمة، حدث ذلك حين حرضهم على نهب البيوت أو فرض الاتاوات على التجار أو الإشراف على بعض منابع التهريب والتجارة الداخلية، هذا قد يدفع بتلك القوى إلى تقبل المغانم من أي طرف آخر، لو جفت منابع السلطة السورية، حيث لا يوجد أي رابط عقائدي بينها وبينهم .

تحول الاستبداد في سوريا من شكله السلطاني إلى نمطه الفاشل، علامة على تفككه، أو وهنه بشكل كبير . لكنه بالمقابل قد يجر البلاد إلى صعوبات غير مرئية . صعوبة تتعلق بالعنف غير المضبوط بأية آلية من قبل هذه الجماعات التي تعتمد عليها الدولة، وخطر انهيار مؤسسات الدولة غير العنيفة من مؤسسات تربوية وصحية ومالية، أو حتى خطر تحلل مكانتها واحترامها في نفوس السوريين. خطر يتعلق بتحول تلك الجماعات إلى بنى أهلية وعقائدية، تخوض حروبا أهلية صغيرة ومحدودة فيما بينها. خطر صعوبة إعادة السيطرة عليها في المراحل اللاحقة، والخطر الأعظم، تحولها لنمط ذهني في أرواح السوريين لإنتاج القوة المحضة.

لا خير في الاستبداد كله، حتى في تحلله.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى