النموذج التونسي هل نجح؟
محمد الحدّاد
انتهت مرحلة حاسمة من مراحل الانتقال الديموقراطي في تونس بانعقاد الجلسة الأولى للمجلس الوطني التأسيسي في 22/11/2011. ومع أن الحدث بدا شبه عادي، فإننا إذا عدنا بالذاكرة بضعة أشهر قبل هذا التاريخ لألفينا أن قلّة كانت تتوقع وصول المسار إلى منتهاه وتتوقع من سلطة انتقالية نجحت في توفير مقدار من الاستقرار وكانت تسيطر على القوات الأمنية وتربطها تحالفات وثيقة مع قيادة الجيش، أن تتخلى بهذا اليسر عن كرسي القيادة. كما كان من البعيد تصور أن الجيل البورقيبي الممثل بالرئيس ورئيس الوزراء الموقتين يمكن أن يسلّم مفاتيح القصر والحكومة بكل أريحية إلى سلطة جديدة غالبيتها من حركة النهضة (الاتجاه الإسلامي سابقاً) التي ولدت من رحم المعارضة الشرسة للمشروع البورقيبي.
في هذا المستوى تحديداً، يمكن القول إن النموذج التونسي في الانتقال الديموقراطي قد نجح في المستوى الإجرائي. لكنه يظل مثقلاً بجملة من التخوفات المشروعة والمبررة يعود بعضها إلى حالة اللاتوازن بين القوى السياسية كما ترتبت على نتائج الانتخابات، ويعود بعضها الآخر إلى الوضع الداخلي لحركة النهضة. ومن الجدير أن ننبه أولاً إلى المبالغات في بعض وسائل الإعلام العربية والغربية التي لم تحتفظ من الحدث إلا بالفوز الانتخابي لحركة النهضة مع أنه فوز كان متوقعاً، ولكن ينبغي أن نعتبر أيضاً أن ناخباً فقط من خمسة صوّت للنهضة. فتونس لم تتحول إلى إيران، من دون أن يتضمن هذا المعطى أي تشكيك في فوز حركة النهضة بالانتخابات أو جدارتها بهذا الفوز وأهمية حضورها السياسي.
بيد أن بعض وسائل الإعلام يحاول استغلال الوضع التونسي للتأثير في مسارات انتخابية في بلدان أخرى، بدل أن يبرز الجانب السلمي والتوافقي في النموذج التونسي للمساهمة في التخفيف من حدة التوترات التي تهدد مجتمعات عربية أخرى.
نعود الى الوضع الداخلي لحركة النهضة للقول إن مسلسل التصريحات «الاستفزازية» من بعض قيادييها ما زال يمثل مصدر توتر في الساحة السياسية وينشر الغموض حول أهداف الحركة وحقيقة تعهداتها، مثل حديث أمينها العام ومرشحها لرئاسة الحكومة عن «الخلافة السادسة» التي ستبدأ في تونس، أو تصريح قيادي آخر بأن الدستور الجديد ينبغي أن يفرض تطبيق الإسلام في كل المجالات التشريعية والتعليمية. وهو تصريح قد يؤشر الى أن الحركة تسعى إلى تطبيق تصوّر ضيق للإسلام، لأن الدستور القديم لم يكن يحتوي على مواد مخالفة للإسلام وإنما جاءت المخالفات من بعض السياسات غير الدستورية أصلاً التي صدرت عن الإرادات المطلقة للحكام المتصرفين وفق أهوائهم. لذلك، فإن القضية ليست إسلامية الدستور وإنما ديموقراطية الدولة التي تمنع رسم السياسات وفق الأهواء.
ويذهب كثيرون من المحللين إلى أن هذا الضرب من التصريحات، وقد تكاثر أخيراً، يؤكد ازدواجية متعمدة لدى حركة النهضة، مستنتجين أن الحركة في صدد تطبيق مخطط مكيافيلي يقوم على التقدم مرحلياً وتدريجياً إلى أن تحين فرصة الانقضاض التام على الشعب ومؤسسات الدولة وفرض نظام على النمط الإيراني. ومع أن ليس في الإمكان أن نلغي هذه الفرضية إلغاء تاماً، إلا انها تبدو لي مستبعدة. وتفسيري لازدواجية الخطاب في الحركة، وهو أمر لم يعد من الممكن إنكاره، أنه يعكس انقساماً في صلبها هو في مصلحة تونس والديموقراطية وقد يكون في مصلحة الحركة نفسها. إذ يبدو أن هناك داخل الحركة قياديين متأثرين بالنموذج التركي يناضلون من أجل حكومة مدنية ونظام يوفق بين المرجعية الإسلامية والديموقراطية، وأن هناك قياديين آخرين ما زالوا يحنّون إلى النموذج التقليدي للإخوان المسلمين، ومنهم بخاصة من غيّبته السجون فترة طويلة عن مسايرة تطورات الأحداث والأفكار.
ستتطوّر حركة النهضة في أحد اتجاهين:
– أن تحافظ على وحدتها فلا يلغي التيار التقليدي فيها منافسه الحاضر أكثر في المناصب السياسية، بالتالي فإنها لن تمانع، على مدى السنة التي ستستغرقها أعمال المجلس التأسيسي، في تحرير دستور يحافظ على المكتسبات الحداثية في تونس ومنها حقوق المرأة، وينص بوضوح على التقيد بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبقية المعاهدات الدولية، ويمتنع عن إدخال كلّ ما من شأنه أن يمثل تمهيداً لوصاية جديدة تفرض على المجتمع، مع سعيها في الآن ذاته إلى تسيير الشأن الديني (المساجد وغيرها من المؤسسات الدينية) تسييراً صارماً يلبّي تطلعات جناحها الراديكالي، ويقطع مع سياسة التمييع التي انتهجها النظام السابق، ويحدّ من المزايدات التي أصبحت تواجهها الحركة على يمينها (السلفية، حزب التحرير… الخ)، وبذلك يعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر، ويتفادى البلد استقطاباً حاداً يخرج بالثورة عن أهدافها الأصلية، وهي أهداف اجتماعية أساساً، ويدخلها في متاهات أخرى.
– والاحتمال الثاني أن يتفاقم الاختلاف بين التيارين في صلب حركة النهضة إلى حدّ القطيعة والانقسام، بخاصة وقد خرجت الحركة من مرحلة الخطر وأصبحت جزءاً من السلطة بما للسلطة من منافع وإغراءات. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يواصل الجناح المعتدل تمثيل الحركة في الائتلاف الحكومي مع الحزبين «المدنيين»، وستكون النتيجة إيجابية أيضاً وفي مصلحة الترسيخ المتدرج للديموقراطية والتزام الإسلاميين (جزء منهم على الأقل) بقواعدها وفلسفتها بعدما استفادوا من إجراءاتها للوصول إلى السلطة.
تبدو لي الحالة الأولى الأكثر رجحاناً، لذلك أنظر إلى مستقبل تونس بتفاؤل حذر. فالوضع ليس بالصورة التي يبثها بعض وسائل الإعلام التي كان الأولى بها أن تركز على الجوانب الإيجابية والسلمية في الوضع التونسي، لتشجيع قيام ديموقراطيات عربية بأقل ما يمكن من العنف والتدمير.
الحياة