صفحات الثقافة

الهرب من الفن العربي/ فاروق يوسف

 

 

“لا فائدة من القول فلا أحد يسمع”، “ما من جدوى من الكتابة فلا أحد يقرأ”. هل المطلوب أن نعلن استسلامنا لواقع الحال ونرفع أيدينا يأساً ونصمت لأن أولياء أمور الفن في عالمنا العربي لا يسمعون ولا يقرأون، وهم ماضون في طريقهم، التي يشعرون أنها الأكثر انسجاما مع نظرتهم إلى الفن؟ مناسبة هذا السؤال الطويل انعقاد بينالي الشارقة في دورته الثانية عشرة. وهو ملتقى فني عالمي كان من المفترض أن يعوّل عليه الفنانون العرب في عرض تجاربهم الفنية المعاصرة في تظاهرة فنية، يشكل الإشهار العالمي واحداً من أهم أهدافها، بسبب الحضور النوعي العالمي المكثف.

دعوة إلى الصمت

ما شهده البينالي من تحولات في طريقة نظر القيّمين عليه إلى وظيفته، أطفأ شعلة الأمل في صدور الفنانين العرب. فمنذ السنة الأولى من الألفية الثالثة تنكّر بينالي الشارقة لصلته بالفن العربي، بعدما صار متخصصاً بعروض الفنون المعاصرة في العالم، وهي فنون لا تعنى بالجمال وليس من أهدافها الارتقاء بالذائقة الجمالية للجمهور العادي. هذا ما جرّد ذلك البينالي من قيمته الاجتماعية على مستوى التنوير الثقافي وجعله محلاً لاستعراض عشوائي لتجارب فنانين من العالم، لا أحد في إمكانه أن يجزم بأهميتها التاريخية أو قيمتها الفنية المعاصرة. هناك اليوم ألوف الفنانين ممن ينتسبون إلى الدين الجديد الذي صارت الفنون المعاصرة تبشر به، وهو دين من حيث رفضه ما سواه، ما سبقه وما يعاصره من فنون.

يومها تورط القيّمون على بينالي الشارقة في قطع الطريق على الفن العربي الذي لم يصل بعد إلى عصر ما بعد الحداثة بسبب عوامل تاريخية وبيئية وثقافية عديدة. بضربة واحدة وجد الفنان العربي نفسه خارج الحلبة من غير أي تمهيد. وكما صار جليا في ما بعد، كان ذلك التحول البنيوي مقدمة لتغير شامل في مفهوم إدارة شؤون الفن في المنطقة، حيث انتقلت مسؤولية تلك الإدارة إلى مشرفين وقيّمين أجانب يُؤتى بهم من كل انحاء العالم بذريعة كونهم خبراء في الفن. وهي تسمية تنطوي على الكثير من السخرية والقليل من الجد. فليست إدارة ندوة عن الفن وليس الإشراف على إقامة معرض ثانوي، بل وحتى تسلّم وظيفة في متحف ما، بتلك الخبرة التي يمكن أن يُعتدّ بها بحيث تكون امتيازاً، يُرشَّح من خلاله أحدهم لقيادة ملتقى فني مهم مثل بينالي الشارقة. لكن هذا ما حدث للأسف ومن غير مبالغة. وهذا ما أصبح تقليدا لا يستطيع أحد التغاضي عنه.

فاليابانية يوكو هاسيكاو التي أشرفت على البينالي المذكور لدورتين سابقتين كانت صرحت بأنها لم تسمع بالشارقة قبل مجيئها إليها وهي لا تعرف عن العالم والفن العربيين شيئاً كما قالت بلسانها. أما خبرتها في مجال إدارة الملتقيات الفنية فقد حولت افتتاح البينالي ذات مرة إلى حفلة فولكلورية كان أبناء الشرق الآسيوي مؤدي رقصاتها وأغانيها. أما خليفتها الكورية أنجي جو وهي المشرفة على الدورة 12 من البينالي هذه الأيام فإنها حين التفتت إلى الفن العربي مضطرة بعد كل ما قيل عن تغييب الفن العربي، لم تجد سوى إيتل عدنان (1925)، سلوى روضة شقير (1926)، فخر النساء زيد (من أصول تركية، عاشت في الاردن أميرة وتوفيت عام 1991).

هذا ما اتحفتنا به خبيرة الفن القادمة لتوّها من الولايات المتحدة. كما يبدو، هي لا تقل جهلاً في الحياة والفن العربيين من سابقتها. لم تجد من الفنانين العرب مَن يستحق أن يكون موقع اهتمام إلا اولئك النسوة اللواتي لا ينتمين إلى الحاضر، على الرغم من أن كل واحدة من الثلاث تمثل قامة فنية شامخة في تاريخنا الفني.

فهل كان الفن العربي بالنسبة إليها مجرد ذكرى، لا تليق به سوى الاستعادة؟ أعتقد أن الامر كله يدخل في مجال قرار استبعاد الفن العربي، وهي الخطة التي يعود البدء بتنفيذها إلى ما قبل عقد من الزمن كما قلت سابقا. ما فعلته خبيرة الفن التي استُوردت على عجل، هو من وجهة نظري أسوأ مما لو أنها اقتدت بسابقتها اليابانية ولم تعرض لأي فنان عربي. فالعرض الحالي ينطوي على الكثير من التعمية على ما يشهده الفن في العالم العربي الآن. فهل ارادت القيّمة على البينالي أن تقول لنا بكل وضوح إن ما من فن حقيقي اليوم في العالم العربي يستحق أن يُعرض إلى جانب التجارب الفنية التي جُلِبت من مختلف أنحاء العالم؟ الفن العربي من وجهة نظر أنجي جو، هو الذي أنتجه العرب قبل خمسين سنة. ولكن علينا أن ننصفها فنقول إنها لم تكوّن انطباعها إلا بعدما استمعت إلى آراء خبيرات، بعضهن من أصول عربية، كانت ادارة البينالي قد اعتمدتهن مستشارات.

حرب مافيات نسوية عنوانها الفن

مفاجآت بينالي الشارقة لا تقف عند هذا الحد، فالمرأة التي تجهل كل شيء عن الفن العربي وسُمح لها بأن تكون حرة في كل ما تفعله، لا بد أن تلجأ إلى أدوات نقدية – تحليلية متاحة، وهي الأدوات التي يوفرها المحيط الذي صار كله أجنبيا بسبب سياسة ثقافية أقصت كل ما هو عربي عن المشهد الفني. أدوات سيفضحها برنامج البينالي، الذي لن يكون مقتصرا على العروض الفنية والأفلام السينمائية، إذ لا بد من غطاء فكري، حتى لو كان ذلك الغطاء شفافا لا يستر شيئا.

فإلى جوار الملتقى الفني، ندوة فكرية تشارك فيها ناشطات في الفن، هن مجموعة من النساء، صغيرات السن، وهذا أمر قد لا يشكل مثلبة، لولا أن خبرتهن في الفن، حسب سيرهن الفنية لا تؤهلن للقيام بما أوكل إليهن من مهمات جسيمة. إنهن غريبات كما تكشف تلك السير الشخصية عن كل شيء يقع من حولهن، لذلك تم ترشيحهن من خلال جماعات الفن المنتشرة في منطقة الخليج التي تتألف من النساء، ليتصدرن المشهد النقدي في بينالي الشارقة في دورته الحالية. وهو مشهد سيقف الصحافيون المدعوون لحضور البينالي مشدودي الأعصاب أمام حذلقات بلاغته الفارغة. حينها لن يفهم أحدٌ أحداً. فما هو مطلوب لا يتعلق بالفهم الذي قد يؤدي إلى ادراك المفاهيم التي يبشر بها وعي نقدي جديد، واستيعابها. فالموضوع كله حسب انجي جو، يتعلق بالماضي والحاضر والممكن، وهو شعار البينالي. لكن أياً من الخبيرات لن يكون في إمكانها سوى التحدث عن الممكن الخيالي، من غير أن تقيم أي صلة بالماضي أو بالحاضر الذي لا تعرف عنه شيئاً.

أهذا ما يحلم رعاة بينالي الشارقة في الانصات إليه؟ لمصلحة مَن كل هذا الانتحال؟

أعتقد أننا نقف أمام معادلة سيكون من الصعب استيعاب الأسباب التي أدت إلى قيامها. فبينالي الشارقة كما يُفترض به، هو لقاء فني عالمي، أشبه ما يكون بمختبر، يستعرض ما توصل إليه الفنانون من كشوفات فنية في الوقت الراهن، ومن الطبيعي أن يكون للفنانين العرب الأفضلية في الرعاية بسبب أن البينالي يقام في مدينة عربية (أوروبا ترعى فنانيها، وهذا ما تفعله الهند والولايات المتحدة). وهذا ما لم يستجبه البينالي حين عرض أعمالاً لفنانات لا يمثلن واقع الفن العربي الآن. هل كان حضورهن مجرد استعراض انشائي، يُقصد منه ذر الرماد في العيون وإسكات الأصوات القليلة المعارضة لإستبعاد الفن العربي؟

الغزل الذي ينطوي على المديح المجاني

ولكن ما معنى شعار البينالي “الماضي الحاضر الممكن”؟ الشعار المذكور لا يتعلق بالفن البتة، بل بالشارقة، الامارة الخليجية التي ترعى البينالي في دورته الثانية عشرة، وهو الدور الذي ينبغي الاشادة به، لكن في حدود الرعاية، لا أن تتخطى تلك الاشادة إلى الفن.

الخبيرة الكورية أنجي جو هي التي كُلّفت الإشراف على هذه الدورة، بل وإدارتها بما تراه مناسباً لمزاجها. فشعار البينالي، الذي هو العمود الفقري فيه، يكشف عن قدر عظيم من المحاباة والتزلف، بغية نيل الرضا الرسمي (العائلي) من طريق التضحية بالفن من خلال استقدام فنانين حرفين لإنجاز أعمال فنية، ليست في حقيقتها سوى مدائح صغيرة في حق الإمارة الخليجية. وأنا على يقين أن لا أحد في تلك الامارة في حاجة إلى تلك المدائح التي جرت على أساس التكليف.

هل وصلنا إلى أصول اللعبة التي اخترعتها انجي جو، خبيرة الفن، التي استُقدِمت لتعرّفنا بأنفسنا؟

لقد سبقتها اليابانية يوكو هاسيكاو في الغزل بالمكان حين استدعت في الدورة السابقة معماريين من مختلف انحاء العالم ليقيموا مباني وهمية موقتة تنسجم مع فضاء المدينة، وهذا ما دفع بأنجي جو إلى التفكير بما يجعلها أقرب إلى ما يحبّه العربي كما تعتقد: المديح. لذلك وظفت كل ما تملكه من نفوذ لكي تكلف أكبر عدد من الفنانين الذين تربطهم بها صداقة من نوع ما، ليكونوا لها عونا في مشروعها الغزلي، وهذا ما دفعت الامارة الخليجية تكاليفه الباهظة.

كان لقاء آذار الذي جرى في العام الماضي وأشرفت عليه انجي جو بنفسها وحضرته مجموعة الخبيرات، بمثابة حفل لتوزيع الأموال على الفنانين الذين لم يتم اختيارهم إلا من طريق المعرفة الشخصية. إجراء من هذا النوع لم يعرفه أي بينالي عالمي آخر، لكنها قوة الأموال السائبة التي فرضت إرادتها ليكون اقتسام الغنائم ممكنا، مقابل مديح مجاني لا ينفع في شيء، غير أنه يُفقدنا فرصة الاطلاع على المشهد الفني العالمي في حقيقته، وهو مشهد لا أظن أن في إمكان أنجي جو أن تطلعنا عليه. ما هذا المذبح الذي نُقاد إليه؟

هل صار الفن العربي ميؤوساً منه؟

ما الذي ربحه بينالي الشارقة من استبعاد الفن العربي؟ سنبدو جهلة مغغلين لو قلنا إن أيا من التجارب العالمية التي شهدها البينالي عبر عقد ونصف عقد من الزمن كانت قد تركت أثراً يُذكر في الحياة الثقافية في الشارقة أو في دولة الامارات العربية أو في العالم العربي. كان البينالي عبارة عن حفلة ينتهي أثرها الاستعراضي بالافتتاح ثم يتبخر كل شيء، كما لو أن كل شيء لم يقع.

المشكلة ليست في انجي جو وليست في يوكو هاسيكاو التي سبقتها في منصبها. المشكلة في حقيقة ما يرغب رعاة البينالي في الوصول إليه. فهل هم يائسون فعلاً من خبرة أبنائهم أو الخبرة العربية في مجال الفن، بحيث صاروا يسندون مسؤولية الاشراف على نشاطاتهم الفنية التي يرعونها بكل كرم إلى “خبيرات” أجنبيات لا علاقة لهن بأسئلة المنطقة المصيرية وبما انتهى إليه من كشوفات روحية؟

ولكن ماذا عن الفن العربي؟ هل صار هو الآخر ميؤوساً منه؟ في حفلة مثل لقاء آذار الذي شهدته الشارقة قبل عام، لم تتذكر واحدة من الحاضرات الفن العربي. لم يكن السؤال مطروحاً أصلاً عليهن. لو فتشنا في خيال كلٍّ منهن لما وجدنا شيئاً يمت بصلة إلى الفن العربي. لهذا يمكنني أن أحكم ببراءة الفتيات الحسنوات من تهمة ازدراء الفن في العالم العربي. لقد اجتمعن يومها من أجل توزيع التكليفات على مَن سبق لهن أن ارتبطن به بعلاقة من الفنانين. لقد كُلفن إحضار فنانين، ولم يكنّ مهمومات بالإنصات إلى وقع أقدام تقف وراء الباب ولم ترغب في إزعاجهن.

كان الفن العربي كله واقفا وراء تلك الباب. هل يظل واقفاً هناك إلى الأبد؟

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى