الهرولة إلى الثقب السوري/ بيار عقيقي
انتهى زمن البروتوكولات السياسية والتصاريح المنمّقة في العالم، بما يتعلق بالملف السوري. الزمن الآن هو زمن السياسة المقترنة بالحراك العسكري. لم يعد كافياً الاكتفاء بالوجود الإقليمي في سورية، من إيراني وعراقي ولبناني وغيره. لم يعد وجود مقاتلين من جنسيات مختلفة في العالم، مرتزقةً كانوا أم مدفوعين بروحية أيديولوجية، قادراً على صياغة واقع جيوبوليتيكي جديد، في الداخل السوري. تحوّلت الأمور إلى “هرولة” أممية سريعة. سباقٍ حتى. قَدَمَ الروس، ليُسيطروا على السماء السورية والبحر السوري وأجزاءٍ من البرّ السوري. لم ينسوا التفاهم مع الإسرائيلي في هذا الصدد، ولم يفوّتوا التدريب المشترك مع الأميركيين حتى.
الأميركيون يقرعون أبواب سورية، بـ50 مستشاراً، في استعادة لمشهد جنود المارينز، العائدين إلى العراق، في يوليو/تموز 2014، بعد توسّع مناطق نفوذ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). عديد “المستشارين” سيزداد مستقبلاً “لأسبابٍ متعلقة بالحاجات الأمنية الأميركية”، هكذا ستُعلن بيانات الإدارة الأميركية والبنتاغون لاحقاً، أو شيء من هذا القبيل.
لم يشأ الفرنسيون البقاء بعيداً. يُعيدون رمز الاستقلال عن ألمانيا النازية في 1944، شارل ديغول إلى بلاد الشام، بحاملة طائرات هذه المرّة، لا بشخصه. كولونيالية تذكرت جذورها، بفعل تمدّد كولونيالية أخرى. الأتراك مستنفرون. أساساً عادوا إلى “العمل” مطلع الصيف الماضي، بفعل عودة “العمال” الكردستاني إلى ساحة القتال.
بدأ الجميع ينساق إلى الثقب السوري، والثقب سيبتلع الجميع. قوانين الطبيعة واضحة في هذا المجال. كل من يستولد ثقباً سيغرق هو، وغيره فيه. دول الجوار قريبون بما فيه الكفاية للغرق، واحداً تلو الآخر. ليست أوروبا بعيدة بعد وصول جحافل اللاجئين إليها، وتحوّل منطقة البلقان، بفعل تداعيات الهجرة، إلى بركان خامد، ينتظر أن يرمي حممه في الجوار الأوروبي. للبلقان حكايات دموية تاريخياً.
مسببات كثيرة جعلت من “الثقب” أمراً واقعاً، تراوحت بين تراخي المجتمع الدولي في التعامل والتفاعل مع سورية من جهة، وتغييب محاولات فرض حالة تغييرية تلائم إرادة الشعب السوري، مع تجنّب السيناريوهات العراقية والليبية، في الوقت عينه، من جهة أخرى. بدا وكأن ترك الأمور على غاربها كفيل بمعالجة الأمور “بهدوء”، بعيداً عن السواحل الأوروبية والشواطئ الأميركية. ربما يُترجم هذا الفكر مدى النقص في فهم الجغرافيا السياسية، لدى مهرولين أمميين كثيرين في الوقت الحالي. نقص فهم الجغرافيا السياسية، جعل أكثرية هؤلاء يتجاهلون الإرادة الشعبية، التي حرّكت كل شيء قبل أكثر من أربعة أعوام، قبل بدء محاولات سلبها كل شيء.
وبعد هذا، يتجاهل العالم حقائق متعلقة بحقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية، فقط لأن مصلحته تطغى على أي محاولة للمحاسبة، لو كان فعلاً ينوي المحاسبة. حسناً، رمى بعض هؤلاء قنابل نووية، في أوقات سابقة من التاريخ، وتفاخر آخرون ببناء “قيصريته” خلف ستارٍ حديدي، على شلال من الدماء. بالتالي، لن يكون صعباً فهم كيف يفكرون.
حالياً، لا تعبر سورية والشرق الأوسط من حال عسكرية إلى أخرى سياسية. الأفق العسكري لا يزال يتّسع، ولا مؤشرات على نهايته، ولو وصلنا إلى “فيينا مليون”. لا أحد يرغب في أداء دور “شرطي السلام”. الجميع يفكر بالحصص المُمكن كسبها في سورية، وفي الحيّز الاقتصادي لاحقاً. ووفقاً لهذا، يعمد المهرولون إلى سورية إلى محاولة التصرّف بشكل سريع ميدانياً قبل إتمام المحاصصة. لا اتفاقية وستفاليا جديدة قريباً، بل “سايكس بيكو” متجدد بصورة أكثر دموية، وبعدد لاعبين أكثر، وبغياب أي وعدٍ “بلفوري” جديد.
هنا، وحده الشعب السوري في هذا الثقب يدفع الثمن. يموت في صراع القوى، من دون أن يدري أنه يموت، لأن كثيرين من “كبار” هذا العالم لم يروا فيه سوى أرقام فحسب، لا مجموعة بشر يستحقون الحياة.
العربي الجديد