الهند: تجريد آسيا الملموس
صبحي حديدي
كأنها تعويذة نحس، نسبة الـ50% هذه، التي تلازم تنمية الهند المعاصرة: 50% من الأطفال يعانون من إعاقة في النطق، ناجمة عن سوء التغذية؛ والنسبة ذاتها، عند النساء، تعاني من فقر الدم؛ و50% ثالثة، تشير إلى مدارس خاوية من التلاميذ، في سبع مقاطعات شمالية كبرى؛ وأخيراً، نصف بيوت الهند تفتقر إلى مرافق صحية.
هذه بعض المعطيات الإحصائية التي يقتبسها أمارتيا سين، الاقتصادي الهندي والعالمي البارز، حامل جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية للعام 1998؛ لكي يساجل، في كتاب جديد بعنوان “مجد غير مؤكد: الهند وتناقضاتها”، شارك في تأليفه زميله الاقتصادي البلجيكي ـ الهندي جان دريز، بأنّ معظم مشكلات الهند المعاصرة لا تكمن في أنساق التنمية المختلفة، بل في قلّة الاكتراث بحاجات الشعب، وخاصة الشرائح الفقيرة والنساء.
وهو، بالطبع، آخر مَن ينكر القفزات الاقتصادية الهائلة التي حققتها الهند خلال العقود الثلاثة الأخيرة، حتى أنها احتلت الموقع الثاني في الاقتصادات الكبرى الأعلى نموّاً على مستوى عالمي. لكنه يسعى إلى ما يشبه العلاج بالصدمة، فيقيم مقارنة مع دولة مثل بنغلادش، وينتهي إلى خلاصة مفادها أنّ الخدمات العامة التي تتوفر للفقراء هناك، متقدّمة كمّاً وكيفاً على تلك التي تتوفر في الهند. هذا مجرّد وجه واحد من وجوه نقصان المجد، في بلد ـ قارّة سبق له أن تمتّع بتسميات أخرى دالّة على الرفعة: “عتبة آسيا”، “قلب حركة عدم الإنحياز”، “أمّ العالم الثالث”، و”حاضنة اللاعنف والمقاومة السلبية”…
وفي آب (أغسطس) 1947، نالت الهند استقلالها، وفقدت بريطانيا الكولونيالية مستعمرة لا تشبه سواها، سُمّيت بحقّ “درّة التاج”، بل كانت أعظم الدُرَر بين عشرات البلدان والأمم الواقعة تحت نير الاستعمار الإنكليزي، هنا وهناك في أربع رياح الأرض. لكنّ الإنسانية، من جانبها، كسبت مركز قوة جديداً وفتياً، كان بالفعل قارّة متكاملة، وليس مجرّد “شبه قارّة” كما تقول تصانيف الجغرافيا. وللمرء أن يبدأ من ذلك الخطاب الشهير، الذي ألقاه جواهر لال نهرو في سنة الاستقلال، واحتوى وعوداً ثلاثة بدت طوباوية مفرطة في طموحها إذ تجري على لسان أوّل رئيس وزراء لدولة وليدة من طراز خاصّ تماماً: أنها قارّة شاسعة واسعة هائلة، آسيوية حتى النخاع، ومثقلة بالتاريخ والجغرافيا والديموغرافيا، على نحو لم يدفع ونستون تشرشل إلى برهة تبصّر واحدة قبل أن يقول: “الهند ليست أمّة، بل هي تجريد محض”.
وكان سادة التخطيط الكوني الاستعماري في لندن قد ابتسموا إشفاقاً وهم يصغون إلى وعود نهرو في إقامة نظام ديمقراطي تعددي، ومحاربة التخلف وانعدام المساواة الاجتماعية، وإقامة بنية اقتصادية وطنية حديثة وحداثية. وكان هؤلاء يقرنون ابتسامة الإشفاق بتكشيرة شماتة، مراهنين على سلطة “التجريد” التشرشلي إياها، التي ستتكفل بتقويض التجربة في المهد. إذْ كيف لبلد يقذف 18 مليون وليد كلّ سنة، وينهض على موزاييك إثني ومذهبي متفجر، وينشطر ساعة استقلاله إلى هند هندوسية ـ مسلمة وباكستان مسلمة ـ هندوسية، ويضع قدماً عند عتبات معابد بوذا وكونفوشيوس وأخرى عند مساجد محمد بن عبد الله… كيف لبلد كهذا أن يدخل العالم بوعود عظمى، تكاد ترقى إلى سوية “فلسفات فائقة” لا تليق إلا بجبابرة الكون وقواه العظمى؟
لكنّ الرهان سقط، واتضح أن الهند ـ شبه قارّة المهاتما غاندي وطاغور، قبل هند جواهر لال نهرو، وباكستان محمد علي جناح ـ قادرة على تحقيق أكثر من وعد واحد عظيم؛ وأنّ تجريدها ملموس، ومحسوس، وديناميكي. ولعلّ الوعد الأهمّ كان إنجاز نظام ديمقراطي علماني تعددي، تسود فيه المؤسسات المدنية ودولة القانون والقضاء المستقلّ والصحافة الحرّة، ويسمح بتداول السلطة سلمياً، وبسحب العسكر إلى ثكناتهم. ولم يكن عجيباً أن تتراجع شعبية حزب المؤتمر الهندي (صانع الاستقلال)، على خلفية المعطيات الجديدة للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ مثلما لم يكن بالعجيب أن يلجأ البريطانيون إلى إحالة تشرشل نفسه، بطل الحرب العالمية الثانية، إلى تقاعد سياسي لا رجعة بعده.
والحال أنّ هندياً كبيراً، مثل أمارتيا سين، لا يضع الإصبع على الجرح إلا لأنه يقتفي حلم الهنود، وربما الإنسانية جمعاء، في مجد آسيوي مكين، ومؤكد.
موقع 24