الوجه الآخر للتلفزة
ابراهيم حاج عبدي
يسجـل للفضائيات، خصوصاً تلك المتحررة من عباءة الرسمي الموجّه، انها استطاعت ان تنقل الواقع بكل تلاوينه ومستوياته، وأن تكشف جوانب ظلت خفية عن الأعين، وتنبش في ملفات مسكوت عنها، وتخوض في أرشيف علاه غبار النسيان بحيث غدت مرآة تعكس ملامح هذا العالم المضطرب، وتستحضر صفحات من تاريخه الآفل. لكن هل هذه هي الحقيقة كاملة، أم أن ثمة لعبة خفية تدار الى جانب تلك الوظيفة الجليلة للإعلام؟
لا يحتاج الأمر الى كبير عناء لنعرف ان للفضائيات، أو لبعضها، وجهاً آخر، ففي الوقت الذي تسعى الى ملاحقة مستجدات الأحداث، ونقل ما يجري هنا وهناك، تعمل كذلك على اختلاق مزاعم وأكاذيب تزيف الحقائق وتشوه الوقائع، وهذا التزييف يخدم اهدافاً وأجندات تؤمن بها القناة، وتجتهد لأجل ترسيخها في العقول.
وهذه «الممارسة التضليلية» لا تأتي على نحو فاقع وفاضح، كما كانت تفعل الفضائيات الرسمية التي صورت لنا، ولعقود، بلاد العرب وكأنها الفردوس، بل هي تأتي في سياق عملية معقدة؛ مدروسة بعناية، ذلك ان الفضائيات التي توصف بـ «المستقلة» راكمت رصيداً هائلاً من الاحترام والتقدير لدى المشاهدين، فهي، والحق يقال، قامت بدور تنويري فعال، بيد أن هذه المكانة التي بلغتها جعلت من الصعب على المشاهد أن يشكك في ما يقدم له.
وهنا تكمن خطورة اللعبة، ذلك ان الشاشة التي نقلت بصدق ما يدور في العالم العربي، ها هي نفسها تختلق الأكاذيب وتفتعل المبالغات، وما على المشاهد إلا أن يصدق قناته طالما أنها أثبتت صدقها وموضوعيتها مراراً.
احد الاعلاميين العاملين في فضائية معروفة قال ان الإعلام هو عبارة عن «صناعة الكذب»، ومع ان الصورة ليست قاتمة على هذا النحو الحاسم، تحمل العبارة الكثير من الصواب، وهو ما يذكرنا بمقولة «دس السم في العسل»، فالفضائيات تبذل جهوداً كبيرة في سبيل اجلاء الحقائق، وتنفق اموالاً سخية من أجل مكانتها وسمعتها. لكنها، وفي لحظات معينة، تجنح نحو التهويل والتضليل. وفي حين يبدو هذا «الجنوح الاعلامي» مفضوحاً وساذجاً في قنوات معروفة بتوجهاتها وسياساتها، وهو ما لا يترك أي تأثير إلا لدى «مريدي القناة»، فإن فضائيات أخرى معروفة، على العكس من تلك، برصانتها وجديتها، تترك اثراً كبيراً في المرات القليلة التي تجنح فيها نحو الخديعة.
ويبقى أن هذا الفضاء المفتوح امام مئات المحطات هو الذي يساهم في رسم صورة متكاملة، فالحقيقة المحجوبة على محطة ستظهر على محطة أخرى، والحدث المبالغ فيه هنا سيهمش هناك، وعلى المشاهد، عندئذ، ان يقارن ويدقق حتى يصل الى حقيقته الخاصة، التي لن يراها على شاشة محددة، وإنما هي متناثرة على الشاشات.
الحياة